الثلاثاء

1446-11-01

|

2025-4-29

(ابن باديس يقيِّم مصطفى كمال أتاتورك)

من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج2):
الحلقة: 178
بقلم: د.علي محمد الصلابي

محرم 1443 ه/ سبتمبر 2021م



لقد تعجب كثيرٌ من المحليين والمفكرين لمواقف ابن باديس من مصطفى كمال: الذي لم يقم للدين والأخلاق أي وزن، فهل كان ابن باديس جاهلاً لما أصدره الرجل من تشريعات وقوانين منافية للدين؟
هناك مبرر لتحليل ابن باديس لمواقف مصطفى كمال، وأرجعه إلى قوة مصطفى كمال في مقاومة الاستعمار ؛ فطبيعي أن تستهوي هذه السياسة ابن باديس وهو يرغب في تحرير بلاده من الاستعمار، فوصف ابن باديس مصطفى كمال بالآتي:
أ ـ من أعظم عباقرة الشرق:
في السابع عشر من رمضان المعظم خُتمت أنفاس أعظم رجل عرفته البشرية في التاريخ الحديث، وعبقري من أعظم عباقرة الشرق، الذين يطلعون على العالم في مختلف الأحقاب فيحولون مجرى التاريخ ويخلقونه خلقاً جديداً. ذلك هو مصطفى كمال بطل غاليبولي في الدردنيل وبطل سقاريا في الأناضول وباعث تركيا من شبه الموت إلى حيث هي اليوم من الغنى والعز والسمو. وإذا قلنا بطل غاليبولي فقد قلنا قاهر الإنجليز أعظم دولة بحرية التي هزمها في الحرب الكبرى بشر هزيمة لم تعرفها في تاريخها الطويل. وإذا قلنا بطل سقاريا، فقد قلنا هو قاهر الإنجليز وحلفائهم من يونان وطليان وفرنسيين، بعد الحرب الكبرى ومُجليهم عن أرض تركيا بعد احتلال عاصمتها والتهام أطرافها وشواطئها.
ب ـ باعث تركيا:
وإذا قلنا باعث تركيا فقد قلنا باعث الشرق الإسلامي كله، فمنزلة تركيا التي تبوأتها من قلب العالم الإسلامي في قرون عديدة هي منزلتها، فلا عجب أن يكون بعثه مرتبطاً ببعثتهما.
لقد كانت تركيا قبل الحرب الكبرى هي جبهة صراع الشرق إزاء هجمات الغرب، ومرمى قذائف الشره الاستعماري والتعصب النصراني من دول الغرب، فلما انتهت الحرب وخرجت تركيا منها مهمشة مفككة، تناولت الدول الغربية أمم الشرق الإسلامي تمتلكها تحت أسماء استعمارية ملطفة، واحتلت تركيا نفسها واحتلت عاصمة الخلافة، وأصبح الخليفة طوع يدها وتحت تصرفها، وقال المارشال اللنبي وقد دخل القدس ـ اليوم انتهت الحروب الصليبية، فلو لم يخلق الله المعجزة على يد مصطفى كمال لذهبت تركيا وذهب الشرق الإسلامي معها.
لكن كمالاً الذي جمع تلك الفلول المبعثرة، فالتف به إخوانه من أبناء تركيا البررة، ونفخ من روحه في أرض الأناضول حيث الأرومة التركية الكريمة، وعُيل ذلك الشعب النبيل، وقاوم ذلك الخليفةُ الأسير وحكومتُه المتداعية وشيوخُه الدجّالينَ من الداخل، وقهر دول الغرب وفي مقدمتها إنجلترا من الخارج، لكن كمالاً هذا أوقف الغرب عند حده وكبح من جماحه وكسر من غلوائه، وبعث في الشرق الإسلامي أمله، وضرب له المثل العالي في المقاومة والتضحية فنهض يكافح ويجاهد، فلم يكن مصطفى محيي تركيا وحدها بل محيي الشرق الإسلامي كله، وبهذا غير مجرى التاريخ ووضع للشرق الإسلامي أساس تكوين جديد، فكان بحق ـ كما قلنا ـ من أعظم عباقرة الشرق العظام، الذين أثروا في دين البشرية ودنياها من أقدم عصور التاريخ.
ج ـ موقف مصطفى كمال من الخليفة وعلمائه:
إن الإحاطة بنواحي البحث في شخصية أتاتورك «أبي الترك» مما يقصر عنه الباع، ويضيق عنه المجال، ولكنني أرى من المناسب أو من الواجب أن أقول كلمة في موقفه إزاء الإسلام، فهذه هي الناحية الوحيدة من نواحي عظمة مصطفى أتاتورك التي ينقبض لها قلب المسلم ويقف متأسفاً، ويكاد يولي مصطفى في موقفه هذا الملامة كلها، حتى يعرِّف المسؤولين الحقيقيين الذين أوقفوا مصطفى ذلك الموقف، فمن هؤلاء المسؤولون؟
المسئولون هم الذين كانوا يمثلون الإسلام وينطقون باسمه ويتولون أمر الناس بنفوذه، ويعدون أنفسهم أهله وأولى الناس به.
هؤلاء هم خليفة المسلمين، وشيخ إسلام المسلمين، ومن معه من علماء الدين، شيوخ الطرق المتصوفين، والأمم الإسلامية التي كانت تعد السلطان العثماني خليفة لها.
ـ أما خليفة المسلمين فيجلس في قصره تحت سلطة الانجليز المحتلين لعاصمته ساكتاً ساكناً، مستغفراً لله، بل متحركاً في يدهم تحرك الالة لقتل حركة المجاهدين بالأناضول، ناطقاً بإعلان الجهاد ضد مصطفى كمال ومن معه الخارجين عن طاعة أمير المؤمنين.
ـ وأما شيخ الإسلام وعلماؤه ؛ فيكتبون للخليفة منشوراً يمضيه باسمه ويوزع على الناس بإذنه وتلقيه الطائرات اليونانية على القرى برضاه، يبيح فيه دم مصطفى كمال ويعلن خيانته، ويضمن السعادة لمن يقتله.
ـ وأما شيوخ الطرق الضالون وأتباعهم المنوَّمون ؛ فقد كانوا أعواناً للانجليز وللخليفة الواقع تحت قبضتهم، يوزعون ذلك المنشور ويثيرون الناس ضد المجاهدين.
ـ وأما الأمم الإسلامية التي كانت تعد السلطات العثماني خليفة لها فمنها ـ إلا قليلاً ـ من كانوا في بيعته فانتفضوا عليه، ثم كانوا في صف أعدائهم وأعدائه، ومنها من جاءت من مستعبديها حاملة السلاح على المسلمين شاهرة له في وجه خليفتهم.
فأين هو الإسلام في هذه «الكليتيات» كلها؟ وأين يبصره مصطفى الثائر المحروب، والمجاهد الموتور منها؟
لقد ثار مصطفى كمال حقيقة ثورة جامحة ولكنه لم يثر على الإسلام وإنما ثار على هؤلاء الذين يسمون بالمسلمين، فألغى الخلافة الزائفة وقطع يد أولئك العلماء عن الحكم، فرفض مجلة الأحكام، واقتلع شجرة زقوم الطرقية من جذورها، وقال للأمم الإسلامية: عليكم بأنفسكم وعليَّ نفسي، لا خير لي في الاتصال بكم ما دمتم على ما أنتم عليه، فكونوا أنفسكم ثم تعالوا نتعاهد ونتعاون كما تتعاهد وتتعاون الأمم ذوات السيادة والسلطان.
وأما الإسلام، فقد ترجم القرآن لأمته التركية بلغتها لتأخذ الإسلام من معدنه، وتستقيه من نبعه، ومكّنها من إقامة شعائره، فكانت مظاهر الإسلام في مساجده، ومواسمه تتزايد في الظهور عاماً بعد عام، حتى كان المظهر الإسلامي العظيم يوم دفنه والصلاة عليه تغمده الله برحمته.
د ـ مجلة الأحكام:
لسنا نبرر صنيعه في رفض مجلة الأحكام، ولكننا نريد أن يذكر الناس أن تلك المجلة المبنية على مشهور وراجح مذهب الحنفية ؛ ما كانت تسع حاجة أمة من الأمم في كل عصر، لأن الذي يسع البشرية كلها في جميع عصورها هو الإسلام بجميع مذاهبه لا مذهب واحد أو جملة مذاهب محصورة كائناً ما كان وكائنة ما كانت.
ونريد أن يذكر الناس أيضاً أن أولئك العلماء الجامدين ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا غير ما عرفوه من صغرهم من مذهبهم، وما كانت حواصلهم الضيقة لتتسع لأكثر من ذلك، كما يجب أن يذكروا أن مصر بلد الأزهر الشريف ما زالت إلى اليوم الأحكام الشرعية ـ غير الشخصية ـ معطلة فيها، وما زال «كود» نابليون مصدر أحكامها إلى اليوم، وما زال الانتفاع بالمذاهب الإسلامية في القضاء ـ غير المذهب الحنفي ـ مهجوراً كذلك إلا قليلاً جداً.
ه ـ نزع الأحكام الشرعية:
نعم إن مصطفى أتاتورك نزع عن الأتراك الأحكام الشرعية،وليس مسؤولاً في ذلك وحده وفي إمكانهم أن يسترجعوها متى شاؤوا، وكيفما شاؤوا، ولكنه أرجع لهم حريتهم واستقلالهم وسيادتهم وعظمتهم بين أمم الأرض، وذلك ما لا يسهل استرجاعه لو ضاع، وهو وحده كان مبعثه ومصدره، ثم إخوانه المخلصون. فأما الذين رفضوا الأحكام الشرعية وعادوا إلى «كود» نابليون، فماذا أعطوا أمتهم؟ وماذا قال علماؤهم؟
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022