الثلاثاء

1446-11-01

|

2025-4-29

(موقف ابن باديس من إلغاء الخلافة العثمانية)

من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج2):
الحلقة: 177
بقلم: د.علي محمد الصلابي
محرم 1443 ه/ سبتمبر 2021م

1 ـ نظرة ابن باديس للكماليين:
إذا كان بعض الجزائريين قد تسامحوا بداية مع سياسة الكماليين ثم ناصبوهم العداء بعد إلغائهم لنظام الخلافة أمثال «عبد الحفيظ ابن الهاشمي» ؛ فإن العلامة ابن باديس قد سلك نفس المنهج، فقد غض الطرف عن سياسة الكماليين وتفهمهم قبل 1924م، ولكنه منذ إلغاء نظام الخلافة تفاجأ منهم، وأصدر مقالة بعنوان «الفاجعة الكبرى» أو «جنايات الكماليين عن الإسلام والمسلمين ومروقهم من الدين»:
بدأ ابن باديس مقاله بتبرير ولائه للكماليين قبل إلغائهم لنظام الخلافة فقال: فلئن والينا الكماليين بالأمس ومدحناهم، فلأنهم قاموا يذبُّون عن حمى الخلافة وينتشلون أمة إسلامية عظيمة من مخالب الظالمين، وقد سمعناهم يقولون في دستورهم: إن دين الدولة الرسمي الإسلام، ثم كشف ابن باديس أبعاد سياسة الكماليين، فقال: ما كنا نجهل عقيدة الشبيبة التركية المتفرنجة ولا مبادئها، وكيف نجهل ذلك منها وقد حفظ التاريخ خطب زعمائها، المليئة بالتأفف من الدين، أم كيف تخفى مقاصدهم وقد فتحوا دستورهم بعد عهد عبد الحميد بمحو كلمة الشهادة من رايات الجيش، وختموها في هاته الأيام بنبذ النظام العائلي الإسلامي في مسائل الزواج والطلاق، وبالفصل بين السلطة الروحية والزمنية. إلى أن قال: لا والله ما كانت تخفى علينا عقائدهم وإنما كنا نغض الطرف عن شرورهم ؛ إبقاء على الوحدة الإسلامية.. وما كنا نحسب أبداً أن يقدموا على إبطال الخلافة.
ثم لم يلبث الكاتب أن عدد منكرات الكماليين من تفهم للخليفة العثماني واله، ورفضهم للديانة الإسلامية، وإبطالهم للمحاكم الشرعية، وفي الأخير اعتبرهم مارقين من الإسلام، لأنهم جنوا على الإسلام والمسلمين أربع جنايات، الأولى على الخلافة، لأنها أقوى ما يستعين به دعاة الوحدة الإسلامية السليمة، والثانية على الخليفة ؛ لأنه «خليفة الإسلام»، وقد تُرك مُلقى على أعتاب الأوربيين ؛ والثالثة على عائلة ال عثمان التي تمثل «مجد الترك»، والرابعة والأخيرة على الدين الذي «أخذوا في استئصاله من الأمة التركية».
2 ـ موقف ابن باديس من الخلافة الإسلامية القائمة:
وبعد شرحه لملابسات إلغاء الخلافة طرح ابن باديس موقفه من الخلافة الإسلامية مستقبلاً، فقال: زالت الخلافة بالمعنى الحقيقي والمعنى الصوري، فلنعلمْ أنه لا خلافة بعد اليوم، ولنرفضْ كل خليفة تشم منه رائحة الأجنبي، ولتعمل كل أمة مسلمة على النهوض بنفسها، ولا يكونن ما وقع مضعفاً لعزائمنا ما دام الإسلامُ الجامعةَ الكبرى التي تجمعنا.
وبعدما نفى عبدُ الحميد وجود خليفة اليوم تتوفر فيه الشروط الشرعية كاملة، فالكماليون حينما ألغوا السلطنة في 1 نوفمبر 1922م 1341هـ، وأبقوا عبد المجيد بن عبد العزيز خليفة له سلطة روحية فقط ؛ فذلك مخالف للإسلام.
3 ـ ابن باديس وبديل الخلافة الإسلامية:
طرح ابن باديس بديلاً شرعياً لذلك المنصب الإسلامي الحساس، من خلال مقال أصدره بعنوان: الخلافة أم جماعة المسلمين، قال فيه:
إن الخلافة هي المنصب الإسلامي الأعلى الذي يقوم على تنفيذ الشرع الإسلامي، وحياطته بواسطة الشورى من أهل الحل والعقد من ذوي العلم والخبرة والنظر، وبالقوة من الجنود وسائر وسائل الدفاع.
ولقد أمكن أن يتولى هذا المنصب شخص واحد صدر الإسلام وزمناً بعده ـ على فرقة واضطراب ـ ثم قضت الضرورة بتعدده في الشرق والغرب، ثم انسلخ عن معناه الأصلي وبقي رمزاً ظاهرياً تقديسياً ليس من أوضاع الإسلام في شيء.
فيوم ألغى الأتراك الخلافة ـ ولسنا نبرر كل أعمالهم ـ لم يلغوا الخلافة الإسلامية بمعناها الإسلامي، وإنما ألغوا نظاماً حكومياً خاصاً بهم،، وأزالوا رمزاً خيالياً فتن به المسلمون لغير جدوى، وحاربتهم من أجله الدول الغربية المتعصبة والمتخوفة من شبح الإسلام، علمت الدول الغربية المستعمرة فتنة المسلمين باسم «خليفة»، فأرادت أن تستغل ذلك مرات عديدة أصيبت فيها كلها بالفشل، ليس عجيباً من تلك الدول أن تحاول ما حاولت وغاياتها معروفة ومقاصدها بينة، وإنما العجب أن يندفع في تيارها المسلمون وعلى رأسهم أمراء وعلماء منهم، ومن هذا الاندفاع ما يتحدث به في مصر فتردد صداه الصحف في الشرق والغرب، وتهتم له صحافة الإنجليز على الخصوص، يتحدثون في مصر، وفي الأزهر عن الخلافة كأنهم لا يرون المعاقل الإنجليزية الضاربة في ديارهم، ولا يشاهدون دور الخمور والفجور المعترف بها في قانونهم، وكفى غروراً وانخداعاً أن الأمم الإسلامية اليوم ـ حتى المستجدة منها ـ أصبحت لا تخدعها هذه التهاويل، ولو جاءتها من تحت الجبب والعمائم.
للمسلمين ـ مثلما لغيرهم من الأمم ـ ناحيتان: ناحية سياسية دولية وناحية أدبية اجتماعية:
فأما الناحية السياسية الدولية فهذه من شأن أممهم المستقلة ولا حديث لنا عليها اليوم، وأما الناحية الأدبية الاجتماعية فهي التي يجب أن تهتم بها كل الأمم الإسلامية المستقلة وغيرها، لأنها ناحية تتعلق بالمسلم من جهة عقيدته وأخلاقه وسلوكه في الحياة في أي بقعة من الأرض كان، ومع أي أمة عاش وتحت أي سلطة وجد، وليست هذه الناحية الإنسانية المحضة دون الناحية الأولى في مظهر الإسلام، ولا دونها في الحاجة إلى الحفظ والنظام لأجل خير المسلمين على الخصوص وخير البشرية العام.
إن الأمم الكاثوليكية ـ مثلاً ـ على اختلاف أوضاعها السياسية وتباين مشاربها وأنظارها فيها، ترجع في ناحيتها الأدبية إلى مركز أعلى هو بابا روما المقدس الشخص والقول في نظر جميعهم.
نعم ليس لنا ـ والحمد لله ـ في الإسلام بعد محمد صلى الله عليه واله سلم شخص مقدس الذات والقول تُدَّعى له العصمة، ويعتبر قوله تنزيلاً من حكيم حميد، ولكن لنا جماعة المسلمين وهم أهل العلم والخبرة الذين ينظرون في مصالح المسلمين من الناحية الدينية والأدبية، ويصدرون عن تشاور ما فيه خير وصلاح، فعلى الأمم الإسلامية جمعاء أن تسعى لتكوّن هذه الجماعة من أنفسها، بعيدة كل البعد عن السياسة وتدخّل الحكومات، لا الحكومات الإسلامية ولا غيرها.
لقد كنت كاتبت صاحب الفضيلة شيخ الأزهر الشريف بهذا المعنى، ولكنني لم أتلق منه جواباً، وعرفت السبب يوم بلغنا أن أخواننا الأزهريين هتفوا ـ يوماً ـ بالخلافة لملك مصر فاروق الأول. وسيرى صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر ؛ أن خيال الخلافة لن يتحقق، وأن المسلمين سينتهون يوماً ما ـ إن شاء الله ـ إلى هذا الرأي.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022