تأثير الأسباب بالمسببات في قدر الله تعالى ..
مختارات من كتاب " الإيمان بالقدر "
لمؤلفه الشيخ الدكتور علي محمد الصلّابي
الحلقة الواحدة والثلاثون
إن القضاء والقدر اللذان ورد في القرآن ذكرهما ـ وجعلهما الناس مرتبطين بفعل الإنسان ومسلكه في الحياة ـ سوى النظام العام الذي خلق الله عليه الكون وربط فيه بين الأسباب والمسببات، وبين النتائج والمقدمات سنة كونية دائمة، لا تتخلف والحاصل أن الإسلام لا يسمح أن يضل الإنسان أو ينحرف عن أوامر الله في عقائده ودينه، ثم يعتذر بالقضاء والقدر، ولو صح ذلك لبطلت التكاليف وكان بعث الرسل وإنزال الكتب، ودعوة الإنسان إلى دين الله وما يجب، ووعده بالثواب لأهل الخير وبالعقاب لأهل الشر ـ باطلاً ـ لا يتفق وحكمة الخالق الحكيم في تصرفه وتكليفه الرحيم بعباده (1) .
تأثير السبب في المسبب:
إن الذي عليه السلف وأتباعهم وأئمة أهل السنة وجمهور أهل الإسلام المثبتون للقدر إثبات الأسباب، وأن قدرة العبد مع فعله لها تأثير كتأثير سائر الأسباب في مسبباتها، والله تعالى خلق الأسباب والمسببات، والأسباب ليست مستقلة بالمسببات، بل لا بد لها من أسباب أخر تعاونها، ولها ـ مع ذلك ـ أضداد تمانعها، والمسبب لا يكون حتى يخلق الله جميع أسبابه، ويدفع عنه أضداده المعارضة له، وهو سبحانه يخلق جميع ذلك بمشئته وقدرته، كما يخلق سائر المخلوقات، فقدرة العبد سبب من الأسباب، وفعل العبد لا يكون بها وحدها، بل لا بد من الإرادة الجازمة مع القدرة (2).
ولا قال أحد من أئمة المسلمين ـ لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم ولا مالك، ولا أبو حنيفة ولا الشافعي ولا أحمد بن حنبل، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، ولا الليث، ولا أمثال هؤلاء ـ إن، الله يكلف العباد ما لا يطيقونه. ولا قال أحد منهم: إن قدرة العبد لا تأثير لها في فعله، أو لا تأثير لها في كسبه، ولا قال أحد منهم : إن العبد لا يكون قادراً إلا حين الفعل، وإن الاستطاعة على الفعل لا تكون إلا معه ، وإن العبد لا استطاعة له على الفعل قبل أن يفعله، بل نصوصهم مستفيضة بما دل عليه الكتاب والسنة من إثبات استطاعة لغير الفاعل، كقوله تعالى: "وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً" (آل عمران : 97) . وقوله تعالى: "فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا" (المجادلة : 4) . وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب (3).
والمقصود بتأثير السبب في المسبب، أن خروج الفعل من العدم إلى الوجود كان بتوسط القدرة المحدثة بمعنى أن القدرة المخلوقة هي سبب وواسطة في خلق الله سبحانه وتعالى الفعل بهذه القدرة، كما خلق النبات بالماء، وكما خلق الغيث بالسحاب، وكما خلق جميع المسببات والمخلوقات بوسائط وأسباب، فهذا حق، وهذا شأن جميع الأسباب والمسببات. وليس إضافة التأثير بهذا التفسير إلى قدرة العبد شركاً، وإلا يكون إثبات جميع الأسباب شركاً، وقد قال الحكيم الخبير: "فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ" (الأعراف: 57) . وقال تعالى: "فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ" (النمل: 60) . وقال تعالى: "قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ" (التوبة: 14) .
كما أن تأثير العبد في فعله يتوقف على تحقيق الشرط وانتفاء المانع، فإذا فُسّر التأثير بوجود شرط الحادث أو سبب يتوقف حدوث الحادث به على سبب آخر وانتفاء موانع ـ وكل ذلك بخلق الله تعالى ـ فهذا حق، وتأثير قدرة العبد في مقدورها ثابت بهذا الاعتبار، وإن فُسر التأثير بأن المؤثر مستقل بالأثر من غير مشارك معاون ولا معاوق مانع فليس شيء من المخلوقات مؤثراً، بل الله وحده خالق كل شيء لا شريك له ولا ندله، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. يقول تعالى:"مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ" (فاطر: 2) . وقال تعالى:"قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ" (سبأ: 22 ـ 23) .
وقال تعالى: "قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ" (الزمر: 38) ، ونظائر هذا في القرآن كثيرة (4).
إن من الأسباب ما يعرفه كل إنسان بفطرته مثل الوطء سبب الولد، والقاء البذور سبب للزرع، والأكل سبب للشبع، وشرب الماء سبب للري.
ومن الأسباب ما يجادل فيه بعض الناس مثل اتباع شرع الله سبب للسعادة في الدنيا والآخرة والخروج على هذا الشرع سبب للشقاوة في الدنيا والآخرة، والدعاء سبب لدفع المكروه ونوال المطلوب ومن الأسباب ما يخفى على كثير من الناس مثل أسباب الأحداث الإجتماعية وما يصيب الأمم من عز وذل وتقدم وتأخر ورخاء وشدة وهزيمة وانتصار ونحو ذلك فهذه الأحداث لها أسبابها التي تستدعي هذه النتائج ولا يمكن تخلف هذه النتائج إذا انعقدت أسبابها، فهي كالأحداث الطبيعية من تجمد الماء وغليانه ونزول المطر فهذه أحداث لها أسبابها التي قدّرها الله فمتى تحققت هذه الاسباب تحققت هذه الأحداث وكل الفرق بينها وبين الأحداث الإجتماعية أن الأولى أسبابها منضبطة ويمكن معرفة حصول أكثرها إذا عرفت أسبابها، أما الثانية أي الأحداث الإجتماعية فإن أسبابها كثيرة جداً، ومتشابكة ويصعب الجزم بوقت حصول نتائجها وإن أمكن الجزم بحصول هذه النتائج.
والشرع دلنا على هذا القانون العام قانون السبب والمسبب في نصوص كثيرة والمقصود أن ما قدّره الله وقضاه إنما قدّره بأسباب، فمن أراد الحصول على نتيجة معينة فلابد من مباشرة السبب المفضي إليها (5).
وما ذهب إليه العلماء المحققون في فاعلية السبب في مسببه بإذن الله تعالى هو ما يتفق مع ظاهر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة وهو المنهج الوسط والطريق الاسدّ في إعمال النصوص كلها على وجه الجمع دون الاقتصار على بعضها وهذا ما ذكرناه، هو ما ذهب إليه السلف الصالح وتلقاه أهل العلم بالقبول.
ولا يخفى أن اعتناق هذا الرأي يفسح الطريق أمام القيام بأعباء خلافة الإنسان في الأرض والتفكر في سنن الله في الخلق وتوطئة للوقوف على أسبابها ونتائجها، ومن ثمّ التفاعل مع معطياتها بما يحقق إناطة تحمل المسئولية بالمكلفين في الدنيا والآخرة، وهو الأمر الذي يوسع ويثري من دائرة الدراسات الإجتماعية والنفسية والأخلاقية وفق المنهج الإسلامي، مما يعيد لهذه الأمة شهودها الحضاري ووسطيتها الشاملة التي ضمنها لها الشرع الشريف في قوله تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" (البقرة: 143) ، وبذلك تعود الأمة إلى اصولها وخيريتها : "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" (آل عمران: 110) ، وبالأحرى تتخلص من تبعيتها للثقافات الوافدة التي ترزخ تحت وطأتها إلى يومنا هذا رغم عدم انسجامها مع معطيات الشرع وحقائق الفطرة (6).
---------------------------------------------
مراجع الحلقة الواحدة والثلاثون:
(1) الإسلام عقيدة وشريعة، محمود شلتوت ص 212.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية (8 / 487) .
(3) فتح الباري على صحيح بخاري (2/ 587) .
(4) مجموع فتاوى ابن تيمية (8/ 134 ـ 135) .
(5) الإيمان بالقضاء والقدر د. عبد الكريم زيدان ص 20.
(6) السنن الإلهية د. مجدي عاشور ص 203.
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الإيمان بالقدر في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي: