الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

(حركة السرايا دروس وعبر)

من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:
الحلقة: التاسعة عشر
بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي
محرم 1443 ه/ سبتمبر 2021

عندما ندرس حركة السرايا والغزوات التي قادها رسول الله صلى الله عليه وسلم بدقة وعمق وتحليل، نستطيع أن نتلمس كثيراً من الأهداف، وندرك بعض ما توحي به من دروس وعبر وفوائد، فإذا تأملنا في حركة السرايا التي سُيرت قبل بدر، نجد أن أفرادها كلهم من المهاجرين، ليس فيهم واحد من الأنصار، يقول ابن سعد ـ رحمه الله ـ : والمجتمع عليه أنهم كانوا جميعاً من المهاجرين، ولم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً من الأنصار مبعثاً حتى غزا بهم بدراً وهذا كان أمراً مدروساً له أهدافه، ومنها: إحياء قضية المهاجرين في أنفسهم أولاً، وإحياؤها على المستوى الخارجي، وإنهاك الاقتصاد القرشي، ومحاصرته واستعادة بعض الحقوق المسلوبة، وإضعاف قريش عسكرياً، وتدريب الصحابة على إتقان فنون القتال، ورصد تحركات قريش، وإرهاب العدو الداخلي في المدينة وما حولها، واختبار قوة العدوّ(1).
وقد حققت تلك السرايا أهدافها والتي من أهمها:
ـ بسط هيبة الدولة في الداخل والخارج.
ـ كسب بعض القبائل وتحجيم دور الأعراب.
ـ علاقة هذه السرايا بحركة الفتوح:
وقد استمرت حركة السرايا والبعوث، وكانت بمثابة تمرينات عسكرية تعبوية، ومناورات حية لجند الإسلام، وكان هذا النشاط المتدفق على شكل موجبات متعاقبة من جند الإسلام الأوائل، دلالة قاطعة على أن دولة الإسلام في المدينة ـ وبقيادة النبي القائد صلى الله عليه وسلم ـ كانت مثل خلية النحل لا تهدأ ولا تكل، وإن الباحث ليلحظ في حركة السرايا والبعوث والغزوات الكبرى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، حرص الصحابة على المشاركة كقادة وجنود، فكان صلى الله عليه وسلم يعدُهم لتثبيت دعائم الدولة والاستعداد للفتوحات المرتقبة، والتي ما فتئ صلى الله عليه وسلم يُبشّر بها أصحابه بين الفينة والأخرى في أوقات الحرب والسلم والخوف والأمن.
لقد كانت السرايا والغزوات التي أشرف عليها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في حياته، بمثابة تدريب حي نابض، بل يمكن اعتبارها دورات أركان للقادة الذين فتحوا مشارق الأرض ومغاربها، فيما بعد.
إن حياة الصحابة رضي الله عنهم، خلال الأربع والعشرين ساعة اليومية، عبارة عن تدريب مستمر، فالبرنامج اليومي المنتظم يبدأ مبكراً من صلاة الفجر، التي تؤدى في جماعة مع قائدهم الأعلى صلى الله عليه وسلم الذي كان يحثهم على أداء هذه الصلاة جماعة في وقتها موضحاً لهم ولأمته أنها المفتاح العجيب ليوم مليء بالنشاط والحيوية، ثم ينطلق كل منهم إلى عمله الذي تتخلله فترات الصلوات الباقية، حتى إذا ما صلوا الصلاة الآخرة "صلاة العشاء" ناموا حتى إذا ما أخذوا قسطاً وافراً من النوم أول الليل إلى الثلث الأخير منه، قام معظمهم لأداء صلاة التهجد التي تملأ قلوبهم روحانية وتكسبهم مزيداً من النشاط لأدائها في وقت يكون الجسم فيه مرتاحاً.
هذا بالإضافة إلى الاستعداد الدائم واليقظة التامة لمتطلبات دولة الإسلام، فكانوا يقومون بنشاطات تدريبية مركزة، تتمثل ركوب الخيل، والسيف والرماية وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحُثهم على فعل ذلك، بل ويشاركهم فيه، معطياً مع نفسه القدوة، وكان صلى الله عليه وسلم يركز على تعلم الرماية كثيراً، موضحاً أنها خير ما يعد من قوة واستعداداً للكفار.
وكان صلى الله عليه وسلم يشجعهم على الصناعة الحربية، المتمثلة في ذلك الوقت في صناعة الأسهم، يخبرهم: أن الأجر الذي غايته الجنة ينسحب، والمتنبل بها والرامي بها، فيروي لنا عقبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه الذي احتسب في صنعته الخير ومتنبله(2)، والرامي، ارموا وأركبوا، وأن ترموا أحبُّ إليّ من أن تركبوا وليس من اللهو إلا ثلاثة: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته زوجته، ورميه بنبله عن قوسه، ومن عُلّم الرمي ثم تركه، فهي نعمة كفرها»(3).
إن المهمات والأهداف التي سعت لتحقيقها السرايا والبعوث كانت تتفاوت تبعاً لاختلاف الظروف المحيطة والحادثة، فكانت السرايا الأولى في معظمها عبارة عن دوريات استطلاعية وإستكشافية وجس نبض، ثم تطورت إلى سرايا اعتراضية توقع الرعب والفزع في القوافل القرشية، وذلك قبل غزوة بدر الفاصلة، وعندما قويت شوكة المسلمين بعدها، أصبحت مهمة بعض السرايا والبعوث تنصبُّ في تصفية الأفراد من أعداء الدولة الإسلامية، الذين يحاولون النيل من مسيرتها، مثل كعب بن الأشرف، والعصماء بنت مروان، وأبي عفك، فكان في قتل كعب ردع لليهود، وقتل العصماء وأبي عفك ردع للمشركين والمنافقين في المدينة.(4)
وعندما انقلبت الأمور لغير صالح المسلمين بعد أحد، طمع الأعراب في خيرات المدينة، واستهانوا بالمسلمين لدرجة أنهم غدروا ببعض البعوث التعليمية ـ كما في الرجيع وبئر معونة ـ غيّر تبعاً لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم "إستراتيجيته" العسكرية فانتقل بالسرايا من قريش إلى الأعراب، لتأديبهم بطريقة صارمة وسريعة ومباغتة، وكان أهم ما يميز تلك السرايا، هجومها التعرضي للأعراب قبل تحشدهم وجمع أمرهم بالهجوم على المسلمين.
وظلت السرايا والبعوث النبوية تؤدي دورها، وتقوم بمهامها الخاصة لخدمة أهداف الدعوة، فمن درويات قتالية إلى سرايا تعقبية وأخرى تمويهية، حتى إذا ما توطّد الأمر للمسلمين بعد فتح مكة، اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بإزالة كل ما يمت للوثيقة بصلة، فبعث السرايا والبعوث من مكة لتحطيم بقية رموز الشرك والوثنية، فانطلقت السرايا لتحطيم العُزّى ومناة واللات وسواع ذي الخلصة، وغيرها من الأصنام، والطواغيت الوثنية(5)، وبعد ذلك انطلقت دعوة الإسلام في أرجاء الجزيرة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ثم تحركت الجيوش الراشدية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، لنشر دين الله في المعمورة، وإزالة كل العوائق والقوى التي تقف في وجه الدعوة.
لقد أدهشت النتائج السريعة الإيجابية لحركة الفتوح الإسلامية جميع المحللين على اختلاف دياناتهم وأفكارهم ومشاربهم، ولكن ستزول دهشة المحللين المنصفين، عندما يقرؤون تلك التعاليم، والوصايا النبوية لقواد، وجنود السرايا والبعوث، والتي هي نواة حركة الفتوح الإسلامية، والتي صارت تتكرر على ألسنة الخلفاء، وقادة جيوش الفتوح، وتظهر في أعمالهم فيما بعد(6).
عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشاً، قال: «انطلقوا باسم الله، لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً صغيراً ولا امرأة، ولا تغلوا وضموا غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين»(7)، وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أمره قال: «بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا»(8.

مراجع الحلقة التاسعة عشر
( ) غزوة بدر الكبرى لأبي فارس، ص: 14 ـ 24.
(2) المتنبل: هو الذي يناول السهم للرامي.
(3) سنن أبو داوود، الحديث رقم: 2513.
(4) فتح الباري، الحديث رقم: 4355.
(5) السيرة النبوية للصلابي (1/ 519).
(6) المصدر نفسه (1/ 519).
(7) سنن أبو داوود، الحديث رقم: 2614.
(8) أخرجه مسلم، الحديث رقم: 1732.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022