الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

(سنة التدافع وحركة السرايا)

من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:

الحلقة: السابعة عشر
بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي

محرم 1443 ه/ سبتمبر 2021

إن من السنن التي تعامل معها النبي صلى الله عليه وسلم، سنة التدافع، وتظهر جلياً في الفترة المدنية مع حركة السرايا والبعوث والغزوات التي خاضها النبي صلى الله عليه وسلم ضد المشركين وهذه السنة متعلقة تعلقاً وطيداً بالتمكين لهذا الدين، وقد أشار الله تعالى إليها في كتابه العزيز، وجاء التنصيص عليها في قوله تعالى : ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (البقرة، آية : 251).
ـ وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج، آية : 40).
ونلاحظ في آية البقرة أنها جاءت بعد ذكر نموذج من نماذج الصراع بين الحق والباطل المتمثل هنا في طالوت وجنوده المؤمنين، وجالوت وأتباعه، ويذيل الله تعالى الآية بقوله : ﴿وَلَـكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (البقرة، آية : 251).
مما يفيد أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعمّ الناس كلهم(1).
وتأتي آية الحج بعد إعلان الله تعالى أنه يدافع عن أوليائه المؤمنين، وبعد إذنه لهم ـ سبحانه ـ بقتال عدوّهم، ويختتم الآية بتقرير لقاعدة أساسية ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ لقد أدرك الصحابة هذه السنة، وعلموا أن القضاء على الباطل وتدميره، لابد له من أمة لها قيادة ومنهج، وقوة تدمغ الباطل وترهقه، وأيقنوا أن الحق يحتاج إلى عزائم تنهض به، وسواعد تمضي به، وقلوب تحنو عليه، وأعصاب ترتبط. لقد علَّمهم النبي صلى الله عليه وسلم كيف يتعاملون مع هذه السنة، فاستجابوا لأمر الله تعالى عندما أمرهم بالجهاد في سبيله، فقد شرع الله ـ عز وجل ـ الجهاد لهذه الأمة وجعله فريضة ماضية إلى يوم القيامة، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، وما تركه قوم إلا أذلهم الله، وسلط عليهم عدوهم وقد شرع الله ـ عز وجل ـ الجهاد على مراحل، ليكون أروض للنفس، وأكثر ملاءمة للطبع البشري، وأحسن موافقة لسير الدعوة، وطريقة تخطيطها(2)، فكان تشريع القتال على مراحل:
ـ المرحلة الأولى:الحظر، وذلك عندما كان المسلم في مكة وكانوا يطالبون النبي صلى الله عليه وسلم بالإذن لهم في القتال فيجيبهم صلى الله عليه وسلم: «أصبروا فإني لم أومر بقتال».
ـ المرحلة الثانية: الإذن من غير إيجاب، قال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ (الحج، آية : 39).
ـ المرحلة الثالثة: وجوب قتال من قاتل المسلمين، قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ﴾ (البقرة، آية : 190).
ـ المرحلة الرابعة: فرض قتال عموم الكفار على المسلمين، قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ (التوبة، آية : 36).
إن هذا التدرج في حكم القتال، كان يقتضيه وضع الدولة الإسلامية الناشئة، وحالة الجيش الإسلامي الذي كان آخذاً في التكوين من حيث العدد والعُدة، والتدريب وما إلى ذلك، فكان لابد من مضي فترة من الوقت، يكون التعرض فيها لأعداء الدعوة الإسلامية من كفار قريش الذين آذوا المسلمين، واضطروهم إلى الخروج من ديارهم، يكون فيها ذلك التعرض لأعداء الدعوة، إنما هو سبيل الاختيار، لا على سبيل الإجبار، وذلك إلى أن يصلب عود الدولة الإسلامية ويشتد بأسها، بحيث تستطيع الصمود أمام قوى الكفر في الجزيرة العربية، حتى لو عملت قريش على تأليبها ضد المسلمين، كما وقع فيما بعد وحينئذ يأتي وجوب القتال، في حالة تكون فيها أوضاع الدولة الإسلامية والجيش الإسلامي، على أهبة الاستعداد، لمواجهة الاحتمالات كافة، هذا فيما يتصل بالقتال الذي يتعرض فيه المسلمون لكفار قريش، جاء النص بالإذن أي بالإباحة لا بالوجوب، أما في حالة ما لو تعرض المسلمون ـ وهم في دولتهم في المدينة ـ لهجوم الأعداء عليهم، فالقتال هنا فرض، لا مجال فيه للخيار، وليس مجرد أمر مأذون فيه، وذلك تطبيقاً لبيعة الحرب، بيعة العقبة الثانية، التي أوجبت على الأنصار حرب الأحمر والأسود من الناس، في سبيل الذود عن الدعوة الإسلامية وصاحبها صلى الله عليه وسلم وأتباعها(3).
ومع نزول الإذن بالقتال شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم في تدريب أصحابه على فنون القتال والحروب، واشترك معهم في التمارين والمناورات والمعارك، وعدّ السعي في هذه الميادين من أجل القربات، وأقدس العبادات التي يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بتطبيق قول الله تعالى : ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾ (الأنفال ، آية : 60).

مراجع الحلقة السابعة عشر
(1) مفاتح الغيب للفخر الرازي (3/ 514).
(2) الهجرة في القرآن الكريم لأحزمي سامعون ص: 438.
(3) القتال والجهاد لمحمد هيكل (1/ 463، 464).
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022