الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

(الحريات وحقوق الإنسان في وثيقة المدينة)

من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:
الحلقة: الخامسة عشر
بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي

محرم 1443 ه/ سبتمبر 2021

إن الصحيفة تدل بوضوح وجلاء على عبقرية الرسول صلى الله عليه وسلم في صياغة موادها، وتحديد علاقات الأطراف بعضها ببعض، فقد كانت موادُّها مترابطة وشاملة، وتصلح لعلاج الأوضاع في المدينة آنذاك، وفيها من القواعد والمبادئ ما يحقق العدالة المطلقة والمساواة التامة بين البشر، وأن يتمتع بنو الإنسان على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأديانهم بالحقوق والحريات بأنواعها(1)، يقول الدكتور محمد سليم العوّا: ولا تزال المبادئ التي تضمنها الدستور ـ في جملتها ـ معمولاً بها، والأغلب أنها ستظل كذلك في مختلف نظم الحكم المعروفة إلى اليوم.. وصل إليها الناس بعد قرون من تقريرها، في أول وثيقة سياسية دوّنها الرسول صلى الله عليه وسلم(2).
فقد أعلنت الصحيفة أن الحريات مصونة، كحرية العقيدة والعباد، وحق الأمن ..إلخ، فحرية الدين مكفولة للمسلمين دينهم ولليهود، قال تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة، آية : 256).
وقد أنذرت الصحيفة بإنزال الوعيد، وإهلاك من يخالف هذا المبدأ، أو يكسر هذه القاعدة، وقد نصّت الوثيقة على تحقيق العدالة بين الناس، وعلى تحقيق مبدأ المساواة إن الدولة الإسلامية واجب عليها أن تقيم العدل بين الناس وتفسح المجال وتيسير السبل أمام كل إنسان ـ يطلب حقه ـ أن يصل إلى حقه بأيسر السبل وأسرعها، دون أن يكلفه ذلك جهداً أو مالاً(3)، وعليها أن تمنع أي وسيلة من الوسائل التي من شأنها أن تعوق صاحب الحق في الوصول إلى حقه.
لقد أوجب الإسلام على الحكام أن يقيموا العدل بين الناس، دون النظر إلى لغاتهم أو أوطانهم أو أحوالهم الاجتماعية، فهو يعدل بين المتخاصمين ويحكم بالحق ولا يهمه أن يكون المحكوم لهم أصدقاء، أو أعداء، أغنياء أو فقراء، عمالاً أو أصحاب عمل.
يقول الأستاذ أبو الأعلى المودودي ـ رحمه الله ـ معقباً على قوله تعالى : ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ (الشورى، آية : 15).
يعني أني مأمور بالإنصاف دون عداوة، فليس من شأني أن أتعصب لأحد أو ضد أحد، وعلاقتي بالناس كلهم سواء، وهي علاقة العدل والإنصاف، فأنا نصير من كان الحق في جانبه، وخصيم من كان الحق ضده، وليس في ديني أي امتيازات، لأي فرد كائناً من كان، وليس لأقاربي حقوق، وللغرباء حقوق أخرى، ولا للأكابر عندي مميزات لا يحصل عليها الأصاغر والشرفاء والوضعاء، عندي سواء فالحق حق للجميع والذنب والجرم ذنب للجميع، والحرام حرام على الكل، والحلال حلال للكل، والفرض فرض على الكل، حتى أنا نفسي لست مستثنى من سلطة القانون الإلهي(4).
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ (النساء، آية : 135).
وهذا نص قرآني صريح في تكليف المجتمع القيادي المسلم بتحقيق العدل على أتم صورة، وأكمل أحواله، فالعدل على النفس، وعلى أقرب ذوي القربى كالعدل مع غير النفس، وأبعد البُعدَاء، وفي قوله تعالى: ﴿كُونُواْ﴾ أمر للمجتمع المسلم، في جميع أفراده، وجماعاته، أينما حلوا من أرض الله، وحيثما كانوا في أوطانهم المتقاربة أو المتباعدة، وهو أمر كينونة يشعر بمادته بالإلزام والالتزام، والتهيّوء والانبعاث للقيام بإقامة منهج العدل في الحياة، وفي قوله تعالى ﴿ قَوَّامِينَ﴾ بصيغة المبالغة، إيماء إلى ما يجب أن يكون عليه المجتمع المسلم من النهوض بإقامة معالم العدل بكل ما أوتي من قوة مادية وروحية، مشمّراً على ساق العزم في بذل الجهد، والتحفز للعمل في سبيل توطيد دعائم العدل الاجتماعي.
والقرآن الكريم بذلك لا يرضى للمجتمع المسلم أن يحمله تعزز الغني بثرائه وغناه على ألا يقام معه العدل، ويظلم له الفقير، ولا يرضى لهذا المجتمع المسلم أن تحمله الرحمة للفقير، فيحابى بظلم الغني لأجله، ولا يرضى القرآن الحكيم لمجتمعه المسلم أن يميل مع الهوى، ويخضع للعواطف، فيحيد عن العدل لياً بالحق، وإعراضاً عنه، وقد جاءت أخت هذه في نسق أسلوبها وألفاظها، لتكمل صورة إقامة العدل على أتّم وجوهه، ولتقرر أن موازين العدل يجب أن يتساوى فيها المحب والمبغض، والقريب والبعيد، والصديق والعدو.
ـ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المائدة، آية : ?.
فصورة الخطاب الكينوني هنا ﴿كُونُواْ﴾ ـ الذي يجعل من العدل طبيعة خلائق المجتمع المسلم، الذي نيط به قيادة الإنسانية ـ هي صورته هناك، لأن العدل أمانة هذا المجتمع المسلم العظمى التي حملوها، ليؤدّوها إلى الناس في حياتهم(5).
بيد أن الأمر قد اختلف في الآيتين اختلافاً جمع متفرق مواطن العدل باعتباره أصلاً من أصول الرسالة الخالدة الخاتمة، الذي يعمّ الحياة من جميع جوانبها، ففي الآية الأولى وجّه الأمر للمجتمع المسلم بأشرف أوصافه، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ ألى أن يكون قوّاماً بالعدل، ولو كان في ذلك مراغمة منازع الحبّ والودّ والقربى، وفي هذه الآية الثانية وجّه الآمر للمجتمع بعنوانه المشرق، إلى أن يكون قوّاماً بالعدل، ولو كان في ذلك مراغمة جميع عواطف البعض والعداوة(6)، وملتقى الآيتين الكريمتين في توجيه المجتمع المسلم توجيهاً صارماً لا هوادة فيه إلى أن يكون نهّاضاً بالعدل، قائماً به بين الناس، له قيادته للإنسانية، وليخلص له التوجه إلى الله تعالى في إخلاص العبودية له وحده، لا تحمله محبة مهما عظمت، أو بغض مهما اشتد على الإعراض عن إقامة العدل، إحقاقاً للحق، وإنصافاً للمظلوم، ونصراً للضعيف(7).
وأما المساواة، فقد جاءت نصوص صريحة في الصحيفة حولها، منها: أن ذمة واحدة، وأن المسلمين ﴿يجير عليهم أدناهم﴾، وأن ﴿المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس﴾، ومعنى الفقرة الأخيرة: أنهم يتناصرون في السراء والضرّاء "الفقرة 15" وتضمنت الفقرة "19" أن: ﴿المؤمنين يُبيء بعضهم على بعض، بما نال دماءهم في سبيل الله﴾، قال السُهيلي ـ شارح السيرة ـ في كتابه "الروض الأنف" ومعنى قوله يبيء: هو من البَوَاء أي المساواة(8)، ويعد مبدأ المساواة أحد المبادئ العامة التي أقرّها الإسلام، وهو من المبادئ التي تساهم في بناء المجتمع المسلم ولقد أقرّ هذا المبدأ، وسبق به تشريعات، وقوانين العصر الحديث ومما ورد في القرآن الكريم تأكيداً لمبدأ المساواة، قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات، آية : 13).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى أبلّغتُ»(9)؟
إن هذا المبدأ كان من أهم المبادئ التي جذبت الكثير من الشعوب قديماً نحو الإسلام، فكان هذا المبدأ مصدراً من مصادر القوة للمسلمين الأولين(10).
وليس المقصود بالمساواة هنا "المساواة العامة" بين الناس جميعاً في أمور الحياة كافة، كما ينادي بعض المخدوعين، ويرون ذلك عدلاً(11)، فالاختلاف في المواهب والقدرات والتفاوت في الدرجات غاية من غايات الخلق(12)، ولكن المقصود المساواة التي دعت إليها الشريعة الإسلامية، مساواة مقيدة بأحوال فيها التساوي وليست مطلقة في جميع الأحوال(13)، فالمساواة تأتي في معاملة الناس أمام الشرع، والقضاء والأحكام الإسلامية كافة، والحقوق العامة دون تفريق بسبب الأصل أو الجنس أو اللون أو الثروة أو الجاه أو غير ذلك(14)، إن الناس جميعاً في نظر الإسلام سواسية، الحاكم والمحكوم، الرجال والنساء، العرب والعجم، الأبيض والأسود، لقد ألغى الإسلام الفوارق بين الناس بسبب الجنس واللون أو النسب أو الطبقة، والحكام والمحكومين كلهم في نظر الشرع سواء، ولذلك كانت الدولة الإسلامية الأولى، تعمل على تطبيق هذا المبدأ بين الناس وكانت تراعي الآتي:
ـ إن مبدأ المساواة أمر تعبدي، تؤجر عليه من خالق الخلق سبحانه وتعالى.
ـ إسقاط الاعتبارات الطبقية والعرفية والقبلية والعنصرية والقومية والوطنية والإقليمية وغير ذلك من الشعارات الماحقة لمبدأ المساواة الإنسانية، وإحلال المعيار الإلهي بدلاً عنها للتفاضل، ألا وهو التقوى.
ـ ضرورة مراعاة مبدأ تكافؤ الفرص للجميع، ولا يُراعى أحد لجاهه أو سلطانه أو حسبه ونسبه، وإنما الفرص للجميع، وكل على حسب قدراته وكفاءاته ومواهبه وطاقته وإنتاجه.
إن تطبيق مبدأ المساواة بين رعايا الدولة الإسلامية، يقوي صفها، ويوحد كلمتها، وينتج عنه مجتمع متماسك متراحم يعيش لعقيدة ومنهج ومبدأ(15).
كانت الوثيقة قد اشتملت على أتمّ ما قد تحتاجه الدولة من مقوماتها الدستورية والإدارية، وعلاقة الأفراد بالدولة، وظل القرآن يتنزل في المدينة عشر سنين، يرسم للمسلمين خلالها مناهج الحياة، ويرسي مبادئ الحكم، وأصول السياسة، وشؤون المجتمع، وأحكام الحرام والحلال، وأسس التقاضي وقواعد العدل، وقوانين الدولة المسلمة في الداخل والخارج، والسنة الشريفة تدعم هذا، وتشيده وتفصّله في تنوير وتبصرة، فالوثيقة خطّت خطوطاً عريضة في الترتيبات الدستورية، وتعد في قيمة المعاهدات التي تحدد صلة المسلمين بالأجانب الكفار المقيمين معهم، في شيء كثير من التسامح والعدل والمساواة، على التخصيص إذا لوحظ أنها أول وثيقة إسلامية تسجل وتنفذ في أقوام كانوا ـ منذ قريب ـ وقبل الإسلام ـ أسرى العصبية القبلية، ولا يشعرون بوجودهم إلا من وراء الغلبة والتسلط، وبالتخوض في حقوق الآخرين وأشيائهم(16).

مراجع الحلقة الخامسة عشر
( ) دولة الرسول صلى الله عليه وسلم،لكامل سلامة ص: 420.
(2) النظام السياسي في الإسلام لأبي فارس، ص: 65.
(3) المصدر نفسه، ص: 58.
(4) الحكومة الإسلامية، ص: 202.
(5) محمد رسول الله لمحمد رضا (3/ 142، 143، 144).
(6) محمد رسول الله (3/ 144، 145).
(7) محمد رسول الله (3/ 145).
(? نظام الحكم للقاسمي (1/ 38).
(9) مسند أحمد (5/ 411).
(0 ) مبادئ نظام الحكم في الإسلام، عبد الحميد متولي، ص: 385.
(1 ) الأخلاق الإسلامية وأسسها للميداني (1/ 624).
(2 ) فلسفة التربية الإسلامية لماجد الكيلاني، ص: 179.
(3 ) مبادئ علم الإدارة، محمد نور الدين، ص: 116.
(4 ) فقه النصر والتمكين، د. علي الصلابي، ص: 463.
(5 ) فقه النصر والتمكين، ص: 466.
(6 ) صور وعبر من الجهاد النبوي، د. محمد فوزي، ص: 29 ـ 30.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022