الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

(دستور دولة المدينة...أول وثيقة دستورية في الإسلام)

من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:
الحلقة: الرابعة عشر
بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي

محرم 1443 ه/ سبتمبر 2021


نظم النبي صلى الله عليه وسلم العلاقات بين سكان المدينة، وكتب في ذلك كتاباً أوردته المصادر التاريخية، واستهدف هذا الكتاب أو الصحيفة توضح التزامات جميع الأطراف داخل المدينة، وتحديد الحقوق، والواجبات وقد سُميت في المصادر القديمة بالكتاب والصحيفة، وأطلقت الأبحاث الحديثة عليها لفظة "الدستور" ولقد تعرض الدكتور أكرم ضياء العمري في كتابه "السيرة النبوية الصحيحة" لدراسة طرق ورود الوثيقة، وقال:" ترتقي بمجموعها إلى مرتبة الأحاديث الصحيحة"(1)، وبيّن أن أسلوب الوثيقة ينمُّ عن أصالتها، فنصوصها مكونة من كلمات وتعابير كانت مألوفة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قلّ استعمالها فيما بعد، حتى أصبحت مغلقة على غير المتعمقين في دراسة تلك الفترة وليس في هذه الوثيقة نصوص تمدح أو تقدح فرداً أو جماعة، أو تخص أحد بالإطراء، أو الذم، لذلك يمكن القول بأنها وثيقة أصلية، وغير مزورة(2).
ثم إن التشابه الكبير بين أسلوب الوثيقة، وأساليب كتب النبي صلى الله عليه وسلم يعطيها توثيقاً آخر.
أ ـ كتابه صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار:
نص الوثيقة(3):
ـ هذا كتاب من محمد النبي رسول الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش، وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم.
ـ إنهم أمة واحدة من دون الناس.
ـ المهاجرون من قريش على رِبْعتهم(4)، يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم(5) بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
ـ وبنو عوف على رِبعتهم، يتعاقلون معاقلهم(6) الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
ـ وبنو الحارث "بنو الخزرج" على رِبعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
ـ وبنو ساعدة على رِبعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
ـ وبنو جُشم على رِبعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
ـ وبنو النجار على رِبعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
ـ وبنو عمرو بن عوف على رِبعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
ـ وبنو النّبيب على رِبعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
ـ وبنو الأوس على رِبعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
ـ وإن المؤمنين لا يتركون مُفْرحاً(7) بينهم أن يعطوه بالمعروف من فداء أو عقل وألا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه.
ـ وإن المؤمنين المتقين "أيديهم" على "كل" من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة(8 ظلم أو إثماً، أو عدواناً أو فساداً بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعاً، ولو كان ولد أحدهم.
ـ ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر ولا ينصر كافراً على مؤمن.
ـ وإن ذمة الله واحدة، يُجبر عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.
ـ وإنه من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم.
ـ وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواءٍ وعدل بينهم.
ـ وإن كل غازية غزت معنا يُعقب بعضها بعضاً.
ـ وإن المؤمنين يُبيء(9) بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله.
ـ وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه، وإنه لا يجبر مشرك مالا لقريش، ولا نفساً ولا يحول دونه على مؤمن.
ـ وإنه من اعتبط(10) مؤمناً قتلاً عن بيِّنة، فإنه قَوَد(11) به، إلا أن يرضى ولي المقتول ـ "العقل" وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه.
ـ وإنه لا يحل لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصر مُحدثاً(12)، أو يؤويه وإن من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.
ـ وإنه مهما اختلفتم فيه من شيءٍ فإن مرده إلى الله، وإلى محمد صلى الله عليه وسلم.
ـ وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين.
ـ وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم نفسه وأثم، فإنه لا يُوتغ(13) إلا نفسه، وأهل بيته.
ـ وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.
ـ وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.
ـ وإن ليهود بني جُشم مثل ما ليهود بني عوف.
ـ وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.
ـ وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يُوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
ـ وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.
ـ وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، وإن البر دون الإثم.
ـ وإن موالي ثعلبة كأنفسهم.
ـ وإن بطانة يهود كأنفسهم، بطانة الرجل: أي خاصته، وأهل بيته.
ـ وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم.
ـ وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم.
ـ وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم.
ـ وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين.
ـ وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
ـ وإن الجار كالنفس غير مُضار ولا آثم.
ـ وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.
ـ وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث، أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرّده إلى الله ـ عز وجل ـ وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرّه، أي : إن الله وحزبه المؤمنين على الرّضا به.
ـ وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وإن بينهم النصر على من دهم يثرب.
ـ وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدين وعلى كل أناس حصّتهم من جانبهم الذي قبلهم.
ـ وإن يهود الأوس ـ مواليهم وأنفسهم ـ على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة وإن البرّ دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبرَّه.
ـ وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وإن الله جار لمن برّ وأتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم(14).
واضح من هذه الصحيفة المباركة التي قاربت الخمسين نصاً أنها أسست عدداً من المبادئ السياسية الهامة التي شكلت بمجموعها الدستور السياسي للمدينة الذي حدد حقوق وواجبات أعضاء المجتمع السياسي الجديد، مسلمين وغير مسلمين، وصاغ البنية السياسية للنظام الناشىء من جهة ولأمة الإسلام فيما بعد من جهة أخرى ولقد تناول العديد من الباحثين هذه المبادئ السياسية بالدراسة ونستطيع أن نجمل أهمها فيما يلي:
ب ـ تحديد مفهوم الأمة:
تضمّن دستور المدينة مبادئ عامة، درجت دساتير الدول الحديثة على وضعها فيها، وفي طليعة هذه المبادئ، تحديد مفهوم الأمة، فالأمة في الصحيفة تضم المسلمين جميعهم، مهاجرين وأنصارهم، ومن تبعهم ممن لحق بهم، وجاهد معهم، أمة واحدة من دون الناس(15)، وهذا شيء جديد كل الجدة في تاريخ الحياة السياسية في جزيرة العرب، إذ نقل الرسول صلى الله عليه وسلم قومه من شعار القبلية والتبعية لها إلى شعار الأمة التي تضم كل من اعتنق الدين الجديد، فلقد قالت الصحيفة عنهم: إنهم أمة واحدة.
ـ قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء، آية:92)
ـ وبيَّن سبحانه وسطية هذه الأمة في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾(البقرة، آية: 143).
ـ ووضح سبحانه وتعالى أنها أمة إيجابية، فهي لا تقف موقف المتفرج من قضايا عصرها، بل تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتدعو إلى الفضائل وتحذر من الرذائل(16).
قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (آل عمران، آية : 110).
كما أن مفهوم الأمة مفتوح وغير مغلق على فئة دون فئة، بل هي ممتدة لتشمل الإنسانية كلها إذا ما استجابت لدين الله تعالى، الذي ارتضاه لخلقه ولبني آدم أينما كانوا(17).

مراجع الحلقة الرابعة عشر
([1]) السيرة النبوية للعمري (1/ 275).
(2) تنظيمات الرسول الإدارية لصالح العلي، ص: 4 ـ 5.
(3) مجموعة الوثائق السياسية لمحمد حميد الله، ص: 41 ـ 47.
(4) الربعة: الحالة التي جاء الإسلام وهم عليها.
(5) العاني: الأسير.
(6) معاقلهم: المعاقل: أي الديات والواحدة معقلة.
(7) مفرحاً: المثقل بالدين والكثير العيال.
(8 دسيعة: عظيمة.
(9) يُبيء: من البَوَاء وهو المساواة.
(0[1]) أي: قتله دون جناية أو سبب يوجب قتله.
(1[1]) القود: القصاص.
(2[1]) من نصر جانياً وآواه وأجاره من خصمه.
(3[1]) يوتغ: يهلك الهلاك، والمعنى: فسد وهلك وأثم.
(4[1]) مجموعة الوثائق السياسية،لمحمد حميد الله ص: 41 ـ 47.
(5[1]) التاريخ السياسي والعسكري، د.علي معطي، ص: 169.
(6[1]) دستور الأمة، عبد الناصر العطار، ص: 9.
(7[1]) دولة الرسول من التكوين إلى التمكين، لكامل سلامة ص: 421.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022