(المرجعية العليا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم من أهم مضامين وثيقة المدينة)
من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:
الحلقة: السادسة عشر
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
محرم 1443 ه/ سبتمبر 2021
جعلت الصحيفة الفصل في كل الأمور بالمدينة يعود إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقد نصّت على مرجع ففي الخلاف في الفقرة "23" وقد جاء فيها: وإنه مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله، وإلى محمد صلى الله عليه وسلم، والمغزى من ذلك واضح، وهو تأكيد سلطة عليا دينية تهيمن على المدينة، وتفصل في الخلافات، منعاً لقيام اضطرابات في الداخل من جراء تعدد السلطات وفي الوقت نفسه تأكيد ضمني برئاسة الرسول على الدولة(1)، فقد حدّدت الصحيفة مصدر السلطات الثلاثة: التشريعية والقضائية والتنفيذية، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على تنفيذ أوامر الله، من خلال دولته الجديدة، لأن تحقيق الحاكمية لله على الأمة هو محض العبودية لله تعالى، لأنه بذلك يتحقق التوحيد، ويقوم الدين، قال تعالى:﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف، آية : 40).
يعني: ما الحكم الحقُّ في الرُّبوبية والعقائد والعبادات والمعاملات، إلا لله وحده، يوحيه لمن اصطفاه من رسله، لا يمكن لبشر أن يحكم فيه برأيه وهواه، ولا بعقله واستدلاله، ولا باجتهاده واستحسانه، فهذه القاعدة هي أساس دين الله تعالى على ألسنة جميع رسله، لا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة(2).
لقد نزل القرآن الكريم من أجل تحقيق العبودية والحاكمية لله تعالى.
ـ قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * أَلَا لِلهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾ (الزمر، آية : 2 ـ 3).
ـ وقال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا﴾ (النساء، آية : 105).
فكما أن تحقيق العبودية غاية من إنزال الكتاب، فكذلك تطبيق الحاكمية غاية من إنزاله، وكما أن العبادة لا تكون إلا عن وحي منزل، فكذلك لا ينبغي أن يحكم إلا بشرع منزل، أو بما له أصل في شرع منزل(3).
إن تحقيق الحاكمية تمكين للعبودية، وقيام بالغاية التي من أجلها خلق الإنسان والجان، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات، آية : 56).
وقد اعترف اليهود في هذه الصحيفة بوجود سلطة قضائية عليا، يرجع إليها سكان المدينة ـ بما فيهم اليهود ـ بموجب بند رقم "43"، لكن اليهود لم يُلزموا بالرجوع إلى القضاء الإسلامي دائماً، بل فقط عندما يكون الحدث، أو الاشتجار بينهم وبين المسلمين، أما في قضاياهم الخاصة وأحوالهم الشخصية، فهم يحتكمون إلى التوراة، ويقضي بينهم أحبارهم، ولكن إذا شاؤوا، فبوسعهم الاحتكام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد خير القرآن الكريم النبي صلى الله عليه وسلم بين قبول الحكم فيهم، أو ردهم إلى أحبارهم، قال تعالى: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (المائدة ، آية ، 42).
ومـن القضايا التي أراد اليهـود تحكيم الرسول صلى الله عليـه وسلم فيها اختلاف بني النضير، وبني قريظة في دية القتلى بينهما، فقـد كانت بنو النضير أعزَّ من بني قريظة، فكانت تعرضهم عليهم دية مضاعفة لقتلاها، فلما ظهر الإسلام في المدينة امتنعت بنو قريظة عن دفع الضعف، وطالبت بالمساواة في الدِّية(4). فنزلت الآية: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (المائدة ، آية : 45). وبهذه الصحيفة التي أقرت المـادة ((43)) على: أنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حديث، أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله، وإلى محمد صلى الله عليه وسلم سلطة قضائية مركزية عليا، يرجع إليها الجميع، وجعلها ترجع إلى الله وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولها قوة تنفيذية، لأن أوامر الله واجبة الطاعة، وملزمة التنفيذ، كما أن أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم هي من الله، وطاعتها واجبة(5).
وبذلك أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم رئيس الدولة وفي الوقت نفسه رئيس السلطة القضائية والتنفيذية والتشريعية، فقد تولى رسول الله صلى الله عليه وسلم السلطات الثلاث، بصفته الرسول الحاكم، ورئيس الدولة، فقد تولى رئاسة الدولة وفق نصوص الصحيفة، وباتفاق الطوائف المختلفة الموجودة في المدينة، ممن شملتهم نصوص الصحيفة(6).
مراجع الحلقة السادسة عشر
([1]) التاريخ السياسي والحضاري للسيد عبد العزيز، ص: 102.
(2) تفسير المنار، محمد رشيد رضا (12/ 309).
(3) الحكم والتحاكم في خطاب الوحي لعبد العزيز مصطفى (1/ 433).
(4) السيرة النبوية الصحيحة لأكرم ضياء العمري (1 / 291).
(5) دولة الرسول من التكوين إلى التمكين لكامل سلامة، ص: 418.
(6) السيرة النبوية للصلابي (1 / 461).
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: