تأملات في الآية الكريمة: {وكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ})
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 50
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
محرم 1444ه/ أغسطس 2022م
{وكَذَلِكَ}: حين وفقناه للتوحيد والدعوة إليه، أي: نبيّن لإبراهيم وجه الدلالة في نظره إلى خالقهما على وحدانية الله في ملكه وخلقه، وأنه لا إله غيره ولا ربّ سواه،(1) وأنَّ الله سيكرمه وسيريه أسراراً في الكون.
{مَلَكُوتَ}: صيغة مبالغة، وزيدت الواو والتاء للمبالغة، فزيادة المبنى تدل على زيادة في المعنى، فكأن الله هدى إبراهيم - عليه السّلام - إلى مشاهدة النواميس الدقيقة المبثوثة في الكون، التي تدلّ على وحدة خالقها ومبدعها جلّ جلاله فهي رؤية بالبصر والبصيرة، يستطيع الإنسان شيئاً من ذلك إذا أحسن استعمال عقله وسمعه وبصره، ولهذا أمرنا الله تعالى بها في عدة آيات كريمة منها قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} ]الأعراف:185[، فرؤية الملكوت للاستدلال بما فيه من حكم ونواميس وبصائر على وحدانية الله الخالق سبحانه، ليست خاصة بإبراهيم - عليه السّلام - .(2)
ونستطيع أن نؤكد أن رؤية إبراهيم - عليه السّلام - لملكوت السماوات والأرض أكمل من رؤية غيره؛ بسبب المواهب الفكرية الكبيرة التي أكرمه الله تعالى بها، فالأنبياء عليهم السلام أكمل الناس عقولاً وأصحّهم أجساماً، فما بالك بإبراهيم - عليه السّلام - خليل ربّ العالمين، وإمام الموحّدين وأفضل المرسلين بعد نبينا محمد صلوات الله عليهم أجمعين، وقد أخبرنا سبحانه وتعالى أنه أكمل عقله وآتاه رشده منذ نعومة أظفاره: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} ]الأنبياء:51[ .(3)
وقال العلّامة الشيخ محمد متولي الشعراوي في معنى "ملكوت"، بأنّها صيغة المبالغة في الملك، مثلها مثل "رحموت"، وهي صيغة مبالغة من الرّحمة، فكلمة الملكوت حسب تفسيره، تعطينا فهم الحقائق غير المشهودة، فالذي يمشي وراء الأسباب المشهودة له يأخذ الملك الآن ما يشهده ويحسّه هو أمامه، والملكوت هو ما يغيب عنه، وهو فيه "ملك"، وفيه "ملكوت".
فالملك هو ما تشاهده أمامك، والملكوت هو ما وراء هذا الملك.(4) وكل من يخلص في الارتباط بخالقه يعطيه ربنا عطاءات من أسرار كونه.(5)
إنَّ إبراهيم - عليه السّلام - بما أعطاه الله تعالى من الهدى ونور الإيمان والفطرة السليمة والبصيرة المفتوحة، والإخلاص لله عزّ وجل، وتصدّيه للباطل، فتح الله له على الأسرار المكنونة في صميم الكون وكشف له عن الآيات المبثوثة في صحائف الوجود وحقق التوحيد وإفراد العبادة لله الواحد القهّار.
وقال الطبري (رحمه الله) بعد أن أورد جملة من الآثار وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب قول من قال: عنى الله تعالى ذكره بقوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، أنه أراه ملك السماوات والأرض، وذلك ما خلق فيهما من الشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب وغير ذلك من عظيم سلطانه فيهما، وجلّى له بواطن الأمور وظواهرها لما ذكرنا قبل من معنى "الملكوت".(6)
وقال الأستاذ البهي الخولي: مما ينبغي بيانه في الآية الكريمة هو قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ]الأنعام:75[، فإن الفعل يُرى مسنداً إلى الله وهو تعبير يدل على إفراد إبراهيم بعناية خاصة {نُرِي إِبْرَاهِيمَ}، ومعناه - فيما أرى- تأهيله بأقوام مواهب الرؤية، ولا سيّما الرؤية القلبية وإمدادها بطاقات الإبصار لا يجد لنفسه معها تهمة في غير ملكوت السماوات والأرض، ولا يرى له غاية دون "اليقين" الذي أهل به أكابر الأنبياء، فقد أعطاه الله حواسّ سليمة، وجعل قوانين تفكيره كلها على سمتها الحق في إدراك الأشياء على ما هي عليه، وإدراك مادتها المحسوسة، وما فيها من معاني صفاته تعالى، مع إمدادها بالطاقات التي أشرنا إليها.
ونحن ننبّه هنا إلى أن قانون الفكر في تلك الرؤية أو تلك الإرادة، بأنه مفتاح العلم القدسيّ في ملكوت السماوات والأرض، وهو قوامُ الرشد الروحي الذي يتمّ به إدراك الحق والباطل وتمييز قيم كل منهما، والتصرف في الحياة على مقتضى هذا الإدراك والتمييز .(7)
وذكر الأستاذ البهي الخولي أن هناك مفهومين في ملكوت السماوات والأرض، وهما:
• المفهوم الأول:
فهو الملكوت بمعناه الحسّي، وهو ما يشهده الحسّ في السماوات والأرض من خلق الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب، وما إلى ذلك من خلائق كثيرة ندركها هنا وهناك بالحسّ المجرّد أو بالوسائل العلمية.
والملكوت بهذا المفهوم الحسّي، هو كل ما يشمل ملك الله من تلك الخلائق الحسّي،كل ما يشمل ملك الله من تلك الخلائق الحسّية العجيبة على كثرتها وتعدد أجناسها، وأنواعها وصنوفها، وقوانين حركتها وتركيبها ونموها، وتسخيرها ومنافعها، وامتداد آفاقها في الفضاء الكوني إلى ما لم يبلغه علم العلماء إلى الآن .(
• المفهوم الثاني:
هو دلالة ذلك الملك الحسّي على المالك تعالى، وما تفتحه تلك الدلالة من آفاق معرفته، فإنّ هذا الملك الحسّي حين يبدو للفكر لا للحسّ لا يشهد فيها جرماً ولا صوتاً، ولا طعماً ولا خاصة من خواص المادة، وإنما ينظر أمراً معيناً محضاً هو الرابطة الحتمية بين السبب والمسبّب، أي لا ينظر سوى الدلالة على الخالق، فإذا كان لا يشهد في صنعة ما إلا مادة المصنوع، فإنَّ الفكر لا يشهد إلا دليل على الصانع، وما له فيها من أثر الإتقان والإجادة، وعلى هذا، ولله المثل الأعلى، تبدو الكائنات كلها للفكر فيّاضة بدلائل الربوبية والإلهية.
مراجع الحلقة الخمسون:
(( تفسير السعدي "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص486.
(2) التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (2/463).
(3) المرجع نفسه، (2/463).
(4) تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، دار أخبار اليوم، القاهرة، 2013م، (6/3739).
(5) المرجع نفسه، (6/3742).
(6) قصص الأنبياء، مصطفى العدوي، (2/79).
(7) بنو إسرائيل في ميزان القرآن، البهي الخولي،.ص 46، 49.
( بنو إسرائيل في ميزان القرآن، البهي الخولي، ص48.
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي