تأملات في الآية الكريمة: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ}
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 52
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
محرم 1444 ه/ أغسطس 2022م
- {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} أي: ستره بظلامه.
- {رَأَى كَوْكَبًا} نجماً.
- {قَالَ هَذَا رَبِّي} أي: قال لقومه: هذا ربي، وهو قول من يُنصف خصمه مع علمه أنه مبطل، فيحكي قوله كما هو، غير متعصّب لمذهبه؛ لأنّه أدعى إلى الحق وأنجى من الشعب، ثم يكرّ عليه بعد حكايته فيبطله بالحجة،(1) إذ علّمنا - عليه السّلام - الطريقة المثلى التي ينبغي اتباعها في مناظرة الخصوم ومجادلتهم، ولا شكّ أنه بهذا استحوذ على انتباه قومه، وتمكّن من جلب أفكارهم وأنظارهم إلى ما سيقوله بعد ذلك ويقرره، وانتظر - عليه السّلام - حتى غاب النجم متّبعاً الأسلوب العلمي كما سبق بيانه.
- {فَلَمَّا أَفَلَ} أي: غاب واحتجب عن الأنظار المشدودة إليه. فوجئ القوم بصوت إبراهيم - عليه السّلام - يدوّي في قلوبهم ويملأ أسماعهم.
- {قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ} ولم يشأ - عليه السّلام - أن يصدمهم بالحقيقة دفعة واحدة، بل تدرّج معهم تألفاً لهم فقال {لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ}، ولم يقل لهم: لا أعبد الآفلين، فكلمة {لَا أُحِبُّ} تتضمن معنى: لا أعبد وتزيد عليه بالمعنى.(2)
فعلى من يجادل المخالفين له في شأن العقيدة أن يُحسن اختيار الألفاظ ذات المعنى الدقيق المناسب، والتي يتوصل بها إلى إفحام خصمه وإلزامه بما يريد،(3) وفي قوله تعالى: {قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ}، وإذا كنت لا أحبها، فإني لا أعبدها؛ لأنَّ العبادة محبةٌ وإذا فُقدت المحبة فلا عبادة.(4)
وكلمة {الْآَفِلِينَ} لها دلالتها الكبيرة في موضوع المناظرة، فالأفول حركة، وهي من لوازم الحدوث، والأفول تغيُّر، والإله لا يتغير، والأفول غياب وضعف، والإله حاضر أبداً لا يغيب قوي لا يعتريه ضعف، والأفول في وقت معين، ومكان معين، يدل على أنَّ النجم محكوم بنظام ثابت لا يستطيع الانفكاك منه، والمحكوم لا يكون حاكماً ولا إلهاً.(5)
ورأى بعضهم أنّ إبراهيم - عليه السّلام - كان في موقفه هذا في مجال النظر لنفسه لا المناظرة، وقولهم هذا لا يتفق مع عصمة الأنبياء - عليهم السلام - وتنزّههم عن الكفر والشرك منذ بداية حياتهم، ومع قوله تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} ]الأنبياء:51[.
وقد احتجَّ أصحاب هذا القول، فقالوا: كيف انتظر قومه معه، حتى غاب النجم؟ ويسقط احتجاجهم هذا، إذا علمنا أنّ القوم كانوا يعظمون النجوم والكواكب ويعبدونها، والمعروف أن عبّاد النجوم ينتظرون ظهورها؛ ليقوموا بمراسم عبادتها، ويمارسوا طقوس تعظيمها، فالقوم كانوا مستغرقين في عبادة النجم مشدودين إليه.(6)
كان لكلام إبراهيم- عليه السّلام - وقعٌ على نفوسهم، فبدأوا يفكرون ويتشككون ويضيقون ذرعاً بآلهتهم وبإبراهيم، وخانهم المنطق في الرد عليه، وأبت عبادتهم ومألوفاتهم أن تستجيب للعقل والمنطق، فكان الضيق بادياً عليهم.
ولكن إبراهيم- عليه السّلام - فاجأهم بما خفّف عن عقولهم ونفوسهم بافتراضه - حينما رأى القمر بازغاً- أنَّه الله عزَّ وجل، وسرت في القوم همسات الارتياح وأصوات الاستحسان، وتطلّعوا إلى القمر مفتونين بشعاعه الفضي وبجماله المتألق، ولكنهم رأوه هو الآخر ينحدر، فأخذت قلوبهم تخفق مع انحداره وتوقّعوا الخاتمة وتوقّعوا ما سيقوله إبراهيم عليه السّلام.(7)
مراجع الحلقة الثانية والخمسون:
( ) التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (2/465).
(2) المرجع السابق، (2/465).
(3) المرجع نفسه، (2/465).
(4) زهرة التفاسير، الإمام محمد أبو زهرة، ، (5/2561).
(5) التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (2/466).
(6) المرجع نفسه (2/466).
(7) قصص الأنبياء في رحاب الكون، د. عبد الحليم محمود، ص115.
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي