ما يستفاد من سيرة الصديق...
الخلاصات الاستنتاجات
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الثانية و الخمسون
- إِنَّ سيرة الخلفاء الرَّاشدين، وتاريخهم المجيد من أقوى مصادر الإِيمان، والعاطفة الإِسلاميَّة الصَّحيحة، الَّتي لا تزال هذه الأمَّة تقتبس منها شعلة الإِيمان، وتحمل زاد الدَّعوة، فتشعل أنوار الحقِّ في قلوب النَّاس حتَّى لا تنطفئ بريح الهدم؛ الَّتي يوجِّهها أعداء الأمة ضدَّ دعوتها، وتاريخها.
- إِنَّ المسلمين ـ بل الإِنسانية كلُّها ـ أشدُّ ما كانوا اليوم حاجةً إِلى معرفة فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه سلم، وكرم معدِنهم، وأثر تربية رسول الله فيهم، وما كانوا عليه من علوِّ المنزلة؛ التي صاروا بها الجيل المثاليَّ الفذَّ في تاريخ البشر.
- لقد تعرَّض التَّاريخ الإِسلاميُّ في عمومه، وتاريخ صدر الإِسلام على الخصوص للتَّزوير، والتَّشكيك، والتَّحريف، والبتر، والزِّيادة، وسوء التَّأويل من الإمامة، والمستشرقين، والنَّصارى، واليهود، والعلمانيِّين، ولذلك أصبح من الفروض الكفائي على الأمَّة تصحيح الحقائق، فعلى كلِّ مَنْ يستطيع تصحيح تاريخ صدر الإِسلام أن يعتبر ذلك من أفضل العبادات، وأن يبادر له، ويجتهد فيه ما استطاع، حتَّى يكون أمام أبناء الأمَّة مثالٌ صالحٌ من سلفهم، يقتدون به، ويجدِّدون عهده، ويصلحون من سيرتهم بالسَّيْر على منهجهم.
-إنَّ سيرة الصِّدِّيق مليئةٌ بالدُّروس، والعبر، فهو أعظم شخصيةٍ في الإِسلام بعد النَّبيِّ صلى الله عليه سلم، فقد كان هذا الصَّحابيُّ الجليل قد اتَّصف بمكارم الأخلاق، والصِّفات الحميدة منذ الجاهليَّة، فلم يعرف عنه أنَّه سجد لصنمٍ، أو شرب الخمر.
-كان الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ عالماً بالأنساب، وكانت له مزيَّةٌ حبَّبته إِلى قلوب العرب وهي أنَّه لم يكن يعيب الأنساب، ولا يذكر المثالب، بخلاف غيره، فقد كان أنسب قريشٍ لقريش، وأعلم قريش بها، وبما فيها من خيرٍ وشرٍّ، وقد اشتهر بالتِّجارة، وكان ينفق من ماله بسخاءٍ، وكرمٍ عرف به في الجاهليَّة.
-كان أبو بكر كنزاً من الكنوز اذخره الله تعالى لنبيِّه، وكان من أحبِّ قريشٍ لقريش، فذلك الخُلُق السَّمح؛ الذي وهبه الله إِيَّاه، جعله من الموطَّئين أكنافاً، من الذين يألفون ويُؤلفون.
-كان تحرُّك الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ في الدَّعوة إِلى الله يوضِّح صورةً من صور الإِيمان بهذا الدِّين، والاستجابة لله ورسوله، صورة المؤمن الَّذي لا يقرُّ له قرار، ولا يهدأ له بالٌ حتَّى يحقِّق في دنيا النَّاس ما امن به.
-تعرَّض الصِّدِّيق للابتلاء، فقد أوذي أبو بكرٍ الصِّدِّيق، وحُثي على رأسه التُّراب، وضرب في المسجد الحرام بالنِّعال حتَّى ما يعرف وجهه من أنفه، وحمل إِلى بيته.
-من صفات الصِّدِّيق الَّتي تميَّز بها: الجرأة، والشَّجاعة، فقد كان لا يهاب أحداً في الحقِّ، ولا تأخذه لومة لائم في نصرة دين الله، والعمل له والدِّفاع عن رسوله صلى الله عليه سلم.
-ساهم الصِّدِّيق في سياسة فكِّ المسلمين المعذَّبين، وأصبح هذا المنهج من ضمن الخطَّة الَّتي تبنتها القيادة الإِسلاميَّة لمقاومة التَّعذيب؛ الذي نزل بالمستضعفين، فدعم الدَّعوة بالمال، والرِّجال، والأفراد، فراح يشتري العبيد والإِماء المملوكين من المؤمنين والمؤمنات، وأعتقهم لوجه الله.
-استخدم الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ علم الأنساب كوسيلةٍ من وسائل الدَّعوة، ولذلك كان مرافقاً لرسول الله صلى الله عليه سلم أثناء دعوته للقبائل في أسواق العرب في المواسم.
-رافق الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ رسول الله في هجرته إِلى المدينة، فكان السَّاعد الأيمن لرسول الله منذ بزوغ الدَّعوة حتَّى وفاته صلى الله عليه سلم، فكان رضي الله عنه ينهل بصمتٍ وعمقٍ من ينابيع النُّبوَّة: حكمةً، وإِيماناً، ويقيناً، وعزيمةً، وتقوى، وإِخلاصاً، فأثمرت هذه الصُّحبة صلاحاً وصدِّيقيَّةً، ذِكْراً ويقظة، حُبّاً وصفاءً، عزيمةً وتصميماً، إِخلاصاً وفهماً، فوقف مواقفه المشهودة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه سلم في سقيفة بني ساعدة، وغيرها من المواقف كبعث جيش أسامة، وحروب الردَّة، فأصلح ما فسد، وبنى ما هُدم، وجمع ما تفرَّق، وقَوَّم ما انحرف .
- شهد أبو بكر مع النَّبي صلى الله عليه سلم المشاهد كلَّها، ولم يفته منها مشهد، وثبت مع رسول الله يوم أحدٍ حين انهزم النَّاس، ودفع إِليه النَّبيُّ صلى الله عليه سلم رايته العظمى يوم تبوك، وكانت سوداء.
- كانت حياة الصِّدِّيق في المجتمع المدني مليئةً بالدُّروس، والعبر، وتركت لنا نموذجاً حيّاً لفهم الإِسلام، وتطبيقه في دنيا النَّاس، وقد تميَّزت شخصية الصِّدِّيق بصفاتٍ عظيمةٍ، ومدحه رسول الله صلى الله عليه سلم في أحاديث كثيرةٍ، وبيَّن فضله، وتقدُّمه على كثيرٍ من الصَّحابة رضي الله عنهم أجمعين.
- كان إِيمان الصِّدِّيق بالله عظيماً، فقد فهم حقيقة الإِيمان، وتغلغلت كلمة التَّوحيد في نفسه، وقلبه، وانعكست اثارها على جوارحه، وعاش بتلك الآثار في حياته، فتحلَّى بالأخلاق الرَّفيعة، وتطهَّر من الأخلاق الوضيعة، وحرص على التمسُّك بشرع الله، والاقتداء بهديه صلى الله عليه سلم، وكان إِيمانه بالله باعثاً له على الحركة، والهمَّة، والنَّشاط، والسَّعي، والجهد، والمجاهدة، والجهاد، والتَّربية، والاستعلاء، والعزَّة، وكان في قلبه من اليقين والإِيمان شيءٌ عظيمٌ لا يساويه فيه أحدٌ من الصَّحابة.
- كان الصِّدِّيق من أعلم النَّاس بالله، وأخوفهم له، وقد اتَّفق أهل السُّنَّة على أن أبا بكرٍ أعلمُ الأمَّة، وحكى الإِجماع على ذلك غير واحدٍ، وسبب تقدُّمه على كلِّ الصَّحابة في العلم والفضل ملازمتُه للنَّبيِّ صلى الله عليه سلم، فقد كان أدوم اجتماعاً به ليلاً ونهاراً، وسفراً وحضراً، وكان يسمر عند النَّبيِّ صلى الله عليه سلم بعد العشاء، يتحدَّث معه في أمور المسلمين، وقد استعمله النَّبيُّ صلى الله عليه سلم على أوَّل حجَّةٍ حُجَّت من مدينة النَّبيِّ صلى الله عليه سلم، وَعِلْمُ المناسك أدقُّ ما في العبادات، ولولا سعة علمه لم يستعمله، وكذلك الصَّلاة استخلف عليها، ولولا علمه لم يستخلف، ولم يستخلف غيره لا في حجٍّ ولا في صلاةٍ، وكتاب الصَّدقة الَّتي فرضها رسول الله أخذه أنس من أبي بكر، وهو أصحُّ ما روي فيها، وعليه اعتمد الفقهاء وغيرهم في كتابة ما هو متقدِّم منسوخٌ، فدلَّ على أنَّه أعلم بالسُّنَّة النَّاسخة، ولم يُحفظ له قولٌ يخالف فيه نصّاً، وهذا يدلُّ على غاية البراعة، والعلم .
-لمَّا مات رسول الله صلى الله عليه سلم اضطرب النَّاس، فثبَّت الله الأمَّة بالصِّدِّيق، فوقف موقفه العظيم، وقال: من كان يعبد محمَّداً فإِنَّ محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإِنَّ الله حيٌّ لا يموت، وظهر موقفه العظيم في سقيفة بني ساعدة، حيث استطاع أن يقنع الأنصار بما راه هو الحقُّ، من غير أن يعرِّض المسلمين للفتنة، فأثنى على الأنصار ببيان فضلهم من الكتاب، والسُّنَّة.
-بايع سعدُ بن عبادة الصِّدِّيقَ بالخلافة في أعقاب النِّقاش الَّذي دار في سقيفة بني ساعدة؛ إِذ أنَّه نزل عن مقامه الأوَّل في دعوى الإِمارة، وأذعن للصِّدِّيق بالخلافة، وكان ابن عمِّه بشير بن سعد الأنصاري أوَّل من بايع الصِّدِّيق بالخلافة في اجتماع السَّقيفة، ولم يُثبت النَّقل الصحيح أيَّة أزماتٍ لا بسيطةٍ، ولا خطيرةٍ، ولم يثبت أيَّ انقسامٍ، أو فِرَقٍ لكلٍّ منها مرشَّحٌ يطمع في الخلافة، كما زعم بعض كتَّاب التَّاريخ، ولكنَّ الأخوَّة الإِسلاميَّة ظلَّت كما هي بل ازدادت توثُّقاً، كما يثبت النَّقل الصَّحيح .
- وردت آيات كريمةٌ، وأحاديث نبويَّةٌ شريفةٌ أشارت إِلى خلافة الصِّدِّيق، وأجمع أهل السُّنَّة والجماعة ـ سلفاً، وخلفاً ـ على أنَّ أحقَّ النَّاس بالخلافة بعد النَّبيِّ صلى الله عليه سلم أبو بكر الصِّدِّيق، لفضله، وسابقته، ولتقديم النَّبيِّ صلى الله عليه سلم إِيَّاه في الصَّلوات على جميع الصَّحابة، وقد فهم أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه سلم مراد المصطفى عليه الصَّلاة والسَّلام من تقديمه في الصَّلاة، فأجمعوا على تقديمه في الخلافة.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book01(1).pdf