ما يستفاد من سيرة الصديق... الخلاصات والإستنتاجات ج٤
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الأخيرة
- يمكن للباحث أن يستنبط أهمَّ معالم السِّياسة الخارجيَّة في دولة الصِّدِّيق: وهي بَذْرُ هيبة الدَّولة في نفوس الأمم الأخرى، ومواصلة الجهاد الَّذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم ، والعدل بين الأمم المفتوحة، والرِّفق بأهلها، ورفع الإِكراه عن الأمم المفتوحة، وإِزالة الحاجز البشريِّ بينهم وبين الإِسلام.
- إِنَّ المُطالع للفتوحات في عهد الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ يمكن له أن يستنتج خطوطاً رئيسةً للخطَّة الحربيَّة الَّتي سار عليها، وكيف تعامل هذا الخليفة العظيم مع سنَّة الأخذ بالأسباب؟ وكيف كانت الخطة المحكمة عاملاً من عوامل نزول النَّصر والتَّمكين من الله ـ عزَّ وجلَّ للمسلمين، ومن هذه الخطوط ما يلي: عدم الإِيغال في بلاد العدو حتَّى تدين للمسلمين، التَّعبئة وحشد القوات، تنظيم عملية الإِعداد للجيوش، تحديد الهدف من الحرب، إِعطاء الأفضلية لمسارح العمليَّات، عزل ميدان المعركة، التطوُّر في أساليب القتال، سلامة خطوط الاتِّصال مع القيادة، ذكاء الخليفة، وفطنته.
- بيَّن الصِّدِّيق في توجيهاته للقادة والجنود حقوق الله تعالى، كمصابرة العدوِّ، وإِخلاص قتالهم لله، وأداء الأمانة، وعدم الممالأة والمحاباة في نصر دين الله. ووضع حقوق القادة على الجنود والرَّعية، كالتزام طاعته، والمسارعة إِلى امتثال أمره، وعدم مسارعته في شيءٍ من قسمة الغنائم، وغير ذلك من الحقوق. وفصَّل الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ من خلال وصاياه ورسائله في حقوق الجند كاستعراضهم، وتفقُّد أحوالهم، والرِّفق بهم في السير، وأن يقيم عليهم العرفاء، والنقباء، واختيار مواضع نزولهم لمحاربة العدوِّ، وإِعداد ما يحتاج إِليه الجند من زادٍ، وعلوفةٍ، والتعرُّف على أخبار العدو بالجواسيس الثِّقات لسلامة الجند، وتحريضهم على الجهاد وتذكيرهم بثواب الله، وفضل الشَّهادة، ومشاورة ذوي الرَّأي منهم، وأن يلزمهم بما أوجبه الله من حقوق، وأن ينهاهم عن الاشتغال عن الجهاد بزراعةٍ، أو تجارةٍ. وكلُّ هذه الحقوق قد استخرجت من رسائله، ووصاياه للقادة.
- إِنَّ المتأمِّل في حركة الفتح الإِسلاميِّ يرى توفيق الله تعالى لجيوش الخليفة أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ فقد استطاعت تلك الجيوش المظفَّرة أن تكسر شوكة الرُّومان، والفرس، وفتح تلك الدِّيار في وقتٍ قياسيٍّ في تاريخ الحروب، ومن أهمِّ أسباب تلك الفتوح، إِيمان المسلمين بالحقِّ؛ الذي يقاتلون من أجله، وتأصُّل الصِّفات الحربيَّة في المسلمين، وسماحة المسلمين وعدالتهم مع تلك الشُّعوب، ورحمة المسلمين في تقدير الجزية والخراج ووفاؤهم بعهودهم، وثروة المسلمين الواسعة من الرِّجال والقادة العظام، وإِحكام الخطَّة الإِسلاميَّة الحربيَّة، وغير ذلك من الأسباب .
- عندما نزل المرض بالصدِّيق، وأشرف على الموت، قام بعدَّة إِجراءات عمليَّة؛ لتتمَّ عملية اختيار الخليفة القادم، وهي: استشار كبار الصَّحابة من المهاجرين والأنصار. وبعد أن تمَّ ترشيح الصِّدِّيق لعمر، ووافق معظم الصَّحابة على ذلك، كتب عهداً مكتوباً يُقرأ على النَّاس في المدينة وفي الأمصار، وأخبر عمر بن الخطاب بخطواته القادمة، وعرَّفه ما عزم عليه، وألزمه بذلك، وأبلغ الناس بلسانه واعياً مدركاً حتَّى لا يحصل أي لَبْسٍ، وتوجَّه بالدُّعاء إِلى الله يناجيه، ويبثُّه كوامن نفسه، وكلَّف عثمان بن عفان أن يتولَّى قراءة العهد على النَّاس، وأخذ البيعة لعمر قبل موته، وقام بتوجيه الفاروق عندما اختلى به.
- إِنَّ الخطوات الَّتي سار عليها أبو بكرٍ الصِّدِّيق في اختيار خليفته من بعده لا تتجاوز الشُّورى بأيِّ حالٍ من الأحوال، وإِن كانت الإِجراءات المتَّبعة فيها غير الإِجراءات المتَّبعة في تولية أبي بكرٍ نفسه، وهكذا تمَّ عقد الخلافة لعمر بالشُّورى، والاتِّفاق، ولم يرد في التَّاريخ أيُّ خلافٍ وقع حول خلافته بعد ذلك، ولا أنَّ أحداً نهض طوال عهده لينازعه الأمر، بل كان هناك إِجماعٌ على خلافته، وعلى طاعته في أثناء حكمه، فكان الجميع وحدةً واحدةً.
- خرج أبو بكر الصِّدِّيق من هذه الدُّنيا بعد جهادٍ عظيمٍ في سبيل نشر دين الله في الآفاق، وستظلُّ الحضارة الإِنسانيَّة مدينةً لهذا الشَّيخ الجليل؛ الذي حمل لواء دعوة الرَّسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، وحمى غرسه عليه الصَّلاة والسَّلام، وقام برعاية بذور العدل والحريَّة، وسقاها أزكى دماء الشُّهداء، فاتت من كلِّ الثَّمرات عطاءً جزيلاً، حقَّق عَبْرَ التَّاريخ تقدُّماً عظيماً في العلوم، والثَّقافة، والفكر، وستظلُّ الحضارة مدينةً للصِّدِّيق؛ لأنَّه بجهاده الرَّائع، وبصبره العظيم حمى الله به دين الإِسلام في ثباته في الردَّة، ونشر الله به الإِسلام في الأمم، والدُّول، والشُّعوب بحركة الفتوحات العظيمة
- إِنَّ هذا المجهود المتواضع قابلٌ للنَّقد والتَّوجيه، وما هي إِلا محاولةٌ متواضعةٌ هدفها معرفة حقيقة عصر الخلافة الرَّاشدة، لكي نستفيد منها في حركتنا المستمرَّة لتحكيم شرع الله، ونشر دعوته في دنيا النَّاس، وبيني وبين النَّاقد قول الشاعر:
إِنْ تَجِدْ عَيْباً فَسُدَّ الخللان جلَّ مَنْ لا عَيْبَ فِيْهِ وَعَلاَ
وأسألُ الله العليَّ العظيم ربَّ العرش الكريم أن يتقبَّل هذا الجهد قبولاً حسناً، وأن يبارك فيه، وأن يجعله من أعمالي الصَّالحة الَّتي أتقرَّب بها إِليه، وأن لا يحرمني، ولا إِخواني الذين أعانوني على إِكماله من الأجر، والمثوبة، ورفقة النَّبيِّين، والصِّدِّيقين، والشُّهداء والصَّالحين، وأختم هذا الكتاب بقول الله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ *} [الحشر: 10] وبقول الشَّاعر ابن الورديِّ لابنه:
اطْلُبِ العِلْمَ وَلا تَكْسَلْ فَمَا أَبْعَد الخَيْر على أهلِ الكسل
احتفل لِلْفِقْهِ في الدِّينِ وَلا تَشْتَغلْ عَنْهُ بِمَالٍ وخول
واهجر النَّوْمَ وَحَصِّلْه فَمَنْ يَعْرِفِ المطلوبَ يَحْقِرْ مَا بذل
لا تَقُلْ قَدْ ذَهَبَتْ أَرْبَابُه كلُّ مَنْ سَار عَلَى الدَّرْبِ وصل
سبحانك اللَّهُمَّ وبحمدك، أشهد أن لا إِله إِلا أنت، أستغفرك، وأتوب إِليك
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book01(1).pdf