عمر رضي الله عنه في ميادين الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ مساهمة فعالة في الغزوات والفتوحات
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة السابعة
اتَّفق العلماء على أنَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ شهد بدراً، وأحداً، والمشاهد كلَّها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يغب عن غزوةٍ غزاها رسول الله.
1 ـ غزوة بدر:
شارك عمر رضي الله عنه في غزوة بدر، وعندما استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه قبل المعركة؛ تكلَّم أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ أوَّل مَنْ تكلَّم، فأحسن الكلام، ودعا إِلى قتال الكافرين، ثمَّ الفاروق عمر ـ رضي الله عنه ـ فأحسن الكلام، ودعا إِلى قتال الكافرين، وكان أول من استشهد من المسلمين يوم بدر مهجع مولى عمر ـ رضي الله عنهـ وقتَل عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ خاله العاص بن هشام ضارباً بالقرابة عرض الحائط أمام رابطة العقيدة، بل كان يفخر بذلك تأكيداً لهذه الفكرة، وبعد انتهاء المعركة أشار بقتل أسارى المشركين، وفي تلك الحادثة دروسٌ، وعبرٌ عظيمةٌ، وعندما وقع العبَّاس عمُّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في الأسر حرص عمر على هدايته، وقال له: يا عباس أسلم ! فوالله لئن تسلم أحبُّ إِليَّ من أن يسلم الخطَّاب، وما ذاك إِلا لما رأيتُ رسول الله يعجبه إِسلامك، وكان من بين الأسرى خطيب قريش سهيل بن عمرو، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ! دعني أنتزع ثنيتي سهيل بن عمرو، فيدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيباً في موطنٍ أبداً ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا أمثِّل به، فيمثل الله بي، وإِن كنت نبيّاً، وإِن عسى أن يقوم مقاماً لا تذمُّه ».
وهذا ما حدث فعلاً بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إِذ همَّ عددٌ من أهل مكَّة بالرُّجوع عن الإِسلام؛ حتَّى خافهم والي مكَّة عتاب بن أسيد، فتوارى، فقام سهيل بن عمرو، فحمد الله، وأثنى عليه، ثمَّ ذكر وفاة النَّبيِّ، وقال: إِنَّ ذلك لم يزد الإِسلام إِلا قوَّة، فَمَنْ رابنا؛ ضربنا عنقه ! فتراجع النَّاس عن رأيهم. وحدَّثنا عمر عن حديثٍ سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما خاطب مشركي مكَّة الذين قتلوا ببدرٍ، فعن أنسٍ قال: كنَّا مع عمر بين مكَّة والمدينة، فتراءينا الهلال، وكنت حديد البصر، فرأيته، فجعلت أقول لعمر: أما تراه ؟ قال: سأراه وأنا مستلقٍ على فراشي، ثمَّ أخذ يُحدِّثنا عن أهل بدرٍ، قال: إِن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرينا مصارعهم بالأمس، يقول: « هذا مصرع فلانٍ غداً ـ إِن شاء الله ـ وهذا مصرع فلانٍ غداً إِن شاء الله ». قال: فجعلوا يصرعون عليها. قال: قلت: والذي بعثك بالحق ما أخطؤوا تيك ! كانوا يصرعون عليها، ثمَّ أمر بهم، فطُرحوا في بئرٍ، فانطلق إِليهم، فقال: « يا فلان ! يا فلان ! هل وجدتم ما وعدكم الله حقّاً، فإِنِّي وجدت ما وعدني الله حقّاً » قال عمر: يا رسول الله !
أتُكلِّم قوماً قد جَيَّفوا ؟ قال: « ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ! ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا ».
وعندما جاء عمير بن وهب إِلى المدينة قبل إِسلامه في أعقاب بدرٍ يريد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كان عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ في نفرٍ من المسلمين يتحدَّثون عن يوم بدرٍ، ويذكرون ما أكرمهم الله به، وما أراهم في عدوِّهم؛ إِذ نظر عمر إِلى عمير بن وهب؛ وقد أناخ راحلته على باب المسجد متوشِّحاً سيفه، فقال: هذا الكلب عدوُّ الله عمير بن وهبٍ ما جاء إِلا لشرٍّ، وهو الَّذي حرَّش بيننا، وحزرنا للقوم يوم بدر. ثمَّ دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله ! هذا عدوُّ الله عمير بن وهب قد جاء متوشِّحاً سيفه. قال: « فأدخله عليَّ ». قال: فأقبل عمر حتَّى أخذ بحمالة سيفه في عنقه، فلبَّبه بها، وقال لمن كان معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده، واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإِنَّه غير مأمونٍ. ثمَّ دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا راه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر اخذ بحمالة سيفه في عنقه قال: « أرسله يا عمر ! ادن يا عمير ! » فدنا، ثم قال: انعموا صباحاً ! وكانت تحية أهل الجاهليَّة بينهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أكرمنا الله بتحيَّةٍ خيرٍ من تحيَّتك يا عمير ! بالسَّلام تحية أهل الجنة ». فقال: أما والله يا محمد إن كنتُ بها لحديثُ عهد. فقال: « فما جاء بك يا عمير ؟! » قال: جئت لهذا الأسير الَّذي في أيديكم، فأحسنوا فيه. قال: « فما بال السَّيف في عنقك ؟ » قال: قبَّحها الله من سيوفٍ ! وهل أغنت عنَّا شيئاً ؟! قال: « اصدقني، ما الَّذي جئت له ». قال: ما جئت إِلا لذلك. قال: « بل قعدت أنت وصفوان بن أميَّة في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريشٍ، ثمَّ قلت: لولا دينٌ عليَّ، وعيالٌ عندي، لخرجت حتَّى أقتل محمداً، فتحمَّل لك صفوان بن أميَّة بدينك، وعيالك، على أن تقتلني له، والله حائلٌ بينك وبين ذلك » قال عمير: أشهد أنَّك لرسولُ الله! قد كنَّا يا رسول الله ! نكذِّبك بما كنت تأتينا به من خبر السَّماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمرٌ لم يحضره إِلا أنا، وصفوان، فوالله إِنِّي لأعلم ما أتاك به إِلا الله، فالحمد لله الَّذي هداني للإِسلام، وساقني هذا المساق. ثمَّ شهد شهادة الحقِّ، فقال رسول الله: « فقِّهوا أخاكم في دينه، وعلِّموه القران، وأطلقوا أسيره ». ففعلوا.
ومن خلال هذه القصَّة يظهر الحسُّ الأمنيُّ الرَّفيع الَّذي تميَّز به عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ فقد انتبه لمجيء عمير بن وهب، وحذّر منه، وأعلن: أنَّه شيطان ما جاء إِلا لشرٍّ، فقد كان تاريخه معروفاً لدى عمر، فقد كان يؤذي المسلمين في مكَّة، وهو الَّذي حرَّض على قتال المسلمين في بدرٍ، وعمل على جمع المعلومات عن عددهم، ولذلك شرع عمر في أخذ الأسباب لحماية الرَّسول صلى الله عليه وسلم، فمن جهته فقد أمسك بحمَّالة سيف عمير الذي في عنقه بشدَّة، فعطله عن إِمكانية استخدام سيفه للاعتداء على الرَّسول صلى الله عليه وسلم، وأمر نفراً من الصَّحابة بحراسة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم .
2 ـ غزوة أحد، وبني المصطلق، والخندق:
من صفات الفاروق الجهادية علوُّ الهمَّة، وعدم الصَّغار، والتَّرفُّع عن الذلَّة حتَّى ولو بدت الهزيمة تلوح أمامه، كما حدث في غزوة أحدٍ، ثانية المعارك الكبرى الَّتي خاضها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعندما وقف أبو سفيان في نهاية المعركة، وقال: أفي القوم محمَّد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تجيبوه » فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: « لا تجيبوه » فقال: أفي القوم ابن الخطَّاب ؟ فقال: إِنَّ هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا. فلم يملك عمر ـ رضي الله عنه ـ نفسه فقال: كذبت يا عدو الله ! أبقى الله عليك ما يخزيك ! قال أبو سفيان: اعل هبل، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: « أجيبوه ». قالوا: ما نقول ؟ قال: « قولوا: الله أعلى وأجلُّ ». قال أبو سفيان: لنا العُزَّى، ولا عُزَّى لكم. فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: « أجيبوه ». قالوا: ما نقول ؟ قال: « قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم »، قال أبو سفيان: يومٌ بيوم بدرٍ، والحرب سجال، وتجدون مثلةً لم امر بها، ولم تسؤني.
وفي روايةٍ قال عمر: لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. فجاءه فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمداً ؟ قال عمر: اللهم لا، وإِنه ليسمع كلامك الان، قال: أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبر، لقول ابن قمئة لهم: إِني قد قتلت محمداً.
كان في سؤال أبي سفيان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر دلالةٌ واضحةٌ على اهتمام المشركين بهؤلاء دون غيرهم؛ لأنَّه في علمهم: أنَّهم أهل الإِسلام، وبهم قام صرحه، وأركان دولته، وأعمدة نظامه، ففي موتهم يعتقد المشركون: أنَّه لا يقوم الإِسلام بعدهم، وكان السُّكوت عن إجابة أبي سفيان أولاً تصغيراً له؛ حتَّى إِذا انتشى، وملأه الكبر أخبروه بحقيقة الأمر، وردُّوا عليه بشجاعة.
وفي غزوة بني المصطلق كان للفاروق موقفٌ متميِّز، ونترك شاهد عيان يحكي لنا ما شاهده. قال جابر بن عبد الله الأنصاريُّ: كنَّا في غزاة، فكسع رجلٌ من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاريُّ: يا للأنصار ! وقال المهاجريُّ: يا للمهاجرين ! فسمع ذلك رسول الله، فقال: « ما بال دعوى الجاهليَّة »، قالوا: يا رسول الله ! كسع رجلٌ من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: « دعوها فإِنها منتنة ». فسمع بذلك عبد الله بن أُبي، فقال: فعلوها ؟ أما والله لئن رجعنا إِلى المدينة ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ، فبلغ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: يا رسول الله ! دعني أضرب عنق هذا المنافق ! فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: « دعه لا يتحدَّث النَّاس: أنَّ محمَّداً يقتل أصحابه».
وفي روايةٍ: قال عمر بن الخطَّاب: مُرْ به عبَّاد بن بشر، فليقتله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فكيف يا عمر ! إِذا تحدَّث النَّاس: أنَّ محمداً يقتل أصحابه ؟ لا. ولكن أذِّن بالرَّحيل » وذلك في ساعةٍ لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها، فارتحل النَّاس.
ومن مثل هذه المواقف والتَّوجيهات النَّبويَّة استوعب عمر ـ رضي الله عنه ـ فقه المصالح والمفاسد، فهذا الفقه يظهر في قوله صلى الله عليه وسلم: « فكيف يا عمر ! إِذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ». إِنَّها المحافظة التَّامَّة على السُّمعة السِّياسيَّة، ووحدة الصَّفِّ الدَّاخليَّة، والفرق كبيرٌ جدّاً بين أن يتحدَّث النَّاس عن حبِّ أصحاب محمَّد محمَّداً، ويؤكِّدون على ذلك بلسان قائدهم الأكبر أبي سفيان: ما رأيت أحداً يحبُّ أحداً كحبِّ أصحاب محمد محمَّداً، وبين أن يتحدَّث النَّاس: أنَّ محمَّداً يقتل أصحابه، ولا شكَّ: أنَّ وراء ذلك محاولاتٍ ضخمةً، ستتمُّ في محاولة الدُّخول إِلى الصَّفِّ الدَّاخلي في المدينة من العدوِّ، بينما هم يائسون الان من قدرتهم على شيءٍ أمام ذلك الحبِّ، وتلك التَّضحيات.
وفي غزوة الخندق يروي جابرٌ، فيقول: إِنَّ عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعدما غربت الشَّمس، فجعل يسبُّ كفار قريش، وقال: يا رسول الله ! ما كدت أصلِّي العصر حتَّى كادت الشمس تغرب. قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: « والله ما صليتها ! » فقمنا إِلى بطحان، فتوضَّأ للصَّلاة، وتوضَّأنا لها، فصلَّى العصر بعد ما غربت الشَّمس، ثمَّ صلى بعدها المغرب.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf