الجانب الفكري عند ابن السنوسي من خلال كتابه "إيقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن"؛ الأفكار والخلاصات
بقلم: الدكتور علي محمّد الصلابي
الحلقة التاسعة عشر
صفر 1441 ه/ أكتوبر 2019
تحدث ابن السنوسي في هذا الكتاب عن وجوب العمل بالحديث والقرآن الكريم، وقد صنفه في مقدمة ومقصد، وخاتمة، أما المقدمة، فقد بين فيها جلالة مقدار الأئمة، فقال : أعلم أنه يجب على المسلمين ، بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين، وبالخصوص موالاة العلماء العاملين، الذين حازوا بوراثة الأنبياء كل فخر، وصاروا نجوم هدى يقتدى بهم في ظلمات البر والبحر، واجمع العلماء على هدايتهم ودرايتهم ، إذ كل أمة بعد بعث محمد صلى الله عليه وسلم علماؤها شرارها، إلا المسلمين؛ فعلماؤهم خيارهم، فإنهم خلفاء الرسول في أمته والمحيون لما مات من سنته، بهم قام الكتاب وقاموا به ، وبهم نطق وبأسراره نطقوا كل بحسبه، فلا يجوز لأحد أن يعتقد أن أحداً من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولاً عاماً يتعمد مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته جل أو دق كيف وهم محيوها والمتفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب اتباعها وانه يؤخذ من قول كل أحد ويترك إلا قوله صلى الله عليه وسلم .
إن أبن السنوسي سار على منهج، اهل السنة والجماعة في نظرته الى علماء الأمة قال الطحاوي -رحمه الله- : (وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين، أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم يسؤ فهو على غير السبيل).
ثم اعتذر للعلماء الذين خالفوا ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال لابد أن لهم عذر وجماع الأعذار ثلاثة:
1- عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله.
2- عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول ترجع الى عشرة اسباب هي ؛ عدم بلوغ الحديث، عدم ثبوته، وضعفه بالأسباب المعروفة من فن مصطلح الحديث، أو اشترط مالا يشترط غيره، أو عدم الدلالة منه أو عدم اعتبارها أو معارضتها، بما يدل على أنها غير مرادة أو معارضة الحديث بما يدل على ضعفه أو نسخه أو تأويله بما يصلح كونه معارضاً أو بما ليس من جنس المعارض، وشرع ابن السنوسي في ضرب الأمثلة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، واجتهادات الصحابة الكرام ثم تحدث عن امكانية أن يقع العلماء والفقهاء والقضاة وكذلك أعيان العلماء في الأخطاء المخالفة للسنة، فقال: ( .. فإنا لا نعتقد عصمة القوم بل نجوز عليهم الذنوب ونرجوا لهم مع ذلك أعلى الدرجات لما اختصهم الله به من الأعمال الصالحة والأحوال السنية وليسوا بأعلى درجة من الصحابة التي كانت بينهم وغيرها ويؤيد ذلك تحذير سلف الأمة من الصحابة، والتابعين، وتابعيهم ولاسيما الأئمة الأربعة ولاسيما الأئمة الأربعة من مخالفة الحديث وخصهم على وجوب العمل به مع مخالفة ( رأي كائن من كان ) واستدل بأقوال بعض الصحابة في هذا المعنى منها:
- عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال ( تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم ) فقال عروة : ( نهى أبو بكر وعمر عن المتعة )، فقال: أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقولون قال أبو بكر وعمر ( يوشك أن ينزل عليهم حجارة من السماء ) وذكر أقوال للصحابة في هذا المعنى ثم بين أن حافظ المغرب ابن عبدالبر وصلها في مؤلفاته بأسانيد جيدة حذفها ابن السنوسي من باب الاختصار، وذكر أقوال الأئمة الأربعة وبين أن قولهم إذا خالفه سنة الرسول، فهو مردود ومن ذلك:
- قيل لأبي حنيفة رضي الله عنه إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه قال اتركوا قولي لكتاب الله، فقيل إذا كان خبر رسول الله يخالفه فقال: ( اتركوا قولي لخبر الرسول ) فقيل إذا كان قول الصحابي يخالفه قال ( اتركوا قولي لقول الصحابي).
- قال مالك ابن أنس : ( إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل مالم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه ).
- وأما الشافعي فسأله رجل عن مسألة، فقال يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (كذا وكذا ) فقال له السائل يا أبا عبدالله أتقول بهذا فارتعد الشافعي واصفر وحال لونه وقال: ( ويحك وأي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا رويت عن رسول الله شيئاً ولم أقل نعم على الرأس والعين نعم على الرأس والعين قال وسمعته يقول ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل وفيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي ).
إن ابن السنوسي من خلال بحثه النزيه خرج بنتيجة مفادها أن ما خالف الكتاب والسنة، والإجماع من أقوال المجتهدين وآرائهم ليس مذهباً لهم، ويتعين على المتمسكين بمذاهبهم أن يعتنوا بالكتاب والسنة وأقوال العلماء ليعلموا بذلك ما هو مذهب لإمامهم خلاف مالهج به المتأخرون من فقهاء المذاهب الأربعة من اقتصارهم على المختصرات الخالية من الدليل، وإعراضهم كل الإعراض عن كتب الحديث، وأصول الحديث، والفقه؛ فهم على هذا أجهل الناس بمذاهب أئمتهم.
ونقل قولاً للإمام أحمد، قال : قال ناصر السنة الإمام احمد بن حنبل لأبي داود وقد سأله أيتبع الأوزاعي أم مالك قال : (لا تقلد دينك أحداً من هؤلاء ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به) وذكر أن الرجل مخير في التابعين، وقد فرق بين التقليد والاتباع فقال ابو داود سمعته يقول الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثم هو فيمن يعد من التابعين مخير وقال لأبي داود لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ، ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا وقال من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال.
إن ابن السنوسي في كتابه ايقاظ الوسنان حارب التقليد الأعمى والتعصب لأنه رأى أن ذلك من أعظم أسباب التفرق والانحراف عن منهج الله الرباني، ومن أهم العوامل التي ادت الى انتشار البدع والأهواء بين الناس، وفشت في أوساطهم، وحالت بينهم وبين سماع الحق والهدى، وتركوا بسببها طريق الكتاب والسنة المطهرة، إن التقليد الأعمى والتعصب، يؤديان الى مهاوي الردى، ويقودان صاحبهما الى مسالك الغواية والضلال، ويصدان عن اتباع النور والهدى، فتكون نتيجته تخبطاً وانتكاساً في الدنيا، وهلاكاً وخسراناً في الآخرة.
لقد انتشر مرض التعصب والتقليد في شعوب الامة الاسلامية، لاسيما في العصور المتأخرة، فأصبح هو الأساسي والأصل، ونتج عن تفشيه نتائج وخيمة وأمور جسيمة.
لقد حارب ابن السنوسي التقليد والتعصب ورأى أن تلك الخلوة مهمة للأخذ بأسباب النهوض.وقد تعرض ابن السنوسي في كتابه ايقاظ الوسنان، لمن أعمته العصبية عن الحق وزعم : (إن الكتاب والسنة مشتركان بين أثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي منحصرة في مقلدي الأربعة).
وناقش من قال بذلك القول وطرح عليه اسئلة منها ما هو رايه في من تمسك بالكتاب والسنة، من أصحاب القرون المفضلة الثلاثة؟ فإنهم ما قلدوا الأربعة حتى يخرجهم الاستثناء عن الحكم بما قبله ويرد على أصحاب ذلك الزعم بقوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103] ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا﴾ [آل عمران: 105] ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ﴾ [البقرة: 213].
وفسر حبل الله بكتابه، واستدل بأحاديث شريفة، وبين أن الفرقة الناجية ما كانت على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقال فإن من توهم أن مذاهب الأئمة الأربعة هي ما كان عليه وأصحابه، كان ملتزماً أن كل ما خالف لهم من الصحابة ومن بعدهم، وأصحاب المذاهب المشهورة مخطئ في جميع ما خلفهم فيه، وهم المصيبون في كل خلاف؛ فانظر هل يستند هذا الى نقل أو يقبله عقل؟
وردّ على من كفر مسلماً بشبهة، وقال وأعجب من هذا كله التكفير المرتب على الشبهة التي ستراها في عبث الحق غثاء دون مبالاة يقول الصادق صلى الله عليه وسلم : (من كفر مسلماً فقد كفر) ، وبقوله: (إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما) وذكر أقوال العلماء فقال : قال الرافعي في العزيز نقلاً عن التتمة فإنه إذا قال لمسلم يا كافر بلا تأويل كفر لأنه سمى الاسلام كفراً، ومثله للنووي في الروضة نقلاً عن المتولي، واعتمد ذلك المتأخرون كأبن الرفعة، والقمولى والنثيائي والاسنوي والأذرعي، وأبي زرعة، وصاحب الأنوار، وشارح الأنوار وغيرهم؛ جزموا به من غير عذر ولم ينفرد المتولي بذلك بل سبقه إليه و وافقه عليه جمع من الأصحاب منهم؛ الاستاذ أبو اسحاق الإسفرائني ، والحليمي، والشيخ نصر المقدسي، والغزالي ، وابن دقيق العيد، بل قضية كلام هؤلاء أنه لافرق بين أن يؤول أولا كما تدل عليه عباراتهم التي ذكرها عنهم العلامة ابن حجر في الأعلام؛ وقال فيه ما نصه ووقع في الحديث روايات لابأس بالإشارة إليها فقد روى مسلم : (إذا كفّر المسلم أخاه فقد باء بها أحدهما) وفي رواية له (ايما رجل قال لأخيه كافر فقد باء بها أحدهما) إن كان كما قال وإلا رجعت عليه، وفي رواية له أيضاً (ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر) ومن دعا رجلاً بالكفر أو قال عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه وفي رواية ابي عوانة، فإن كان كما قال وإلا باء بالكفر ، وفي رواية (إذا قال لأخيه يا كافر، فقد وجب الكفر على أحدهما) ومعنى كفّر الرجل أخاه وصفه بالكفر ونسبة إليه في خير كرأيت كافراً أو نداء كيا كافر، أو اعتقاده الكفر فيه، كاعتقاد الخوارج كفر المؤمنين بالذنوب، وليس من ذلك تكفير جماعة من أهل الأهواء لما قام عندهم من الدليل على ذلك، ومعنى باء بها أحدهما رجع بكلمة الكفر انتهى من الأعلام بإيجاز، وذكر فيها وجوهاً في تأويل الحديث الى أن قال الثالث أنه محمول على الخوارج المكفرين للمؤمنين، وهذا نقله القاضي عياض وهو ضعيف لان المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون، والمحققون، إن الخوارج لا يكفرّون كسائر أهل البدع، ....وفي الدرة البهية في جواب سؤال عمن كفّر مسلماً بنحو هذا ما نصه مع تغيير يسير في اللفظ لم يدر هذا القائل مقدار ما قال، ولم يتنبه لما يلزمه في هذا الضلال من الوبال وقد ورد (إذا قال الشخص للشخص يا كافر فقد باء بها أحدهما) ثم تعجب منه كيف يتجرأ على تكفير المسلمين بما ذكر فكأنه، يريد قصر الاسلام على نفسه، وأنه ليس لمحمد صلى الله عليه وسلم أمة ناجية غيره وغير من وافقه على ما قال وليته اعتبر بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ [النساء: 94] وقد تحرزت الأمة قديماً وحديثاً من تكفير المسلم وحذروا من المبادرة فيه مهما أمكن، فقال حجة الاسلام الغزالي الذي ينبغي أن يميل إليه المحصل الاحتراز من التكفير مهما وجد إليه سبيلا (فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين الى القبلة المصرحين بقول لا إله إلا الله خطأ) والخطأ في ترك الكافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمه من دم مسلم....وقد قيل لمالك أيكفر أهل الأهواء؟ فقال هم من الكفر فروا، وقد سئل تقي الدين السبكي؟ رحمه الله : عن حكم تكفير غلاة المبتدعين فقال : (أعلم أيها السائل إن كل من خاف من الله عز وجل استعظم القول بالتكفير لمن يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله) إذ التكفير أمر هائل عظيم الخطر لأن من كفّر شخصاً، فكأنه أخبر أن عاقبته في الآخرة الخلود في النار أبد الآبدين، وأنه في الدنيا مباح الدم والمال، ولا يمكن من نكاح مسلمة ولا تجري احكام المسلمين لا في حياته ولا بعد مماته، والخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم امرئ مسلم وفي الحديث (لأن يخطئ الامام في العفو أحب الى الله من أن يخطئ في العقوبة)، فما بقي الحكم بالتكفير إلا لمن صرح بالكفر واختاره دينا وجحد الشهادة، وخرج من دين الاسلام جملة.
وذكر ابن السنوسي حكاية لطيفة تدل على ابعاد عميقة لفهم قضية التكفير وهي : أن شخصاً بمصر وقع في عبارة موهمة للتكفير فأفتى علماء مصر بتكفيره، فلما أراد قتله قال السلطان هل بقي أحد من العلماء لم يحضر قالوا نعم (الشيخ جلال الدين المحلى شارح المنهاج) ، فأرسل إليه السلطان ، فحضر فوجد الرجل في الحديد بين يدي السلطان، فقال الشيخ مال هذا، فقالوا كفر؛ فقال ما مستند من أفتى بتكفيره، فبادر الشيخ صالح البلقيني ، وقال قد أفتى والدي شيخ الاسلام الشيخ سراج الدين في مثل ذلك بالتكفير؛ فقال يا ولدي أتريد أن تقتل مسلماً موحداً يحب الله ورسوله لفتوى أبيك حلوا عنه الحديد؛ فجردوه وأخذه الشيخ جلال الدين بيده وخرج والسلطان ينظر؛ فما تجرأ أحد يتكلم.
ثم بعد ذلك دخل ابن السنوسي في الباب الأول، وتحدث فيه على وجوب التمسك بالكتاب والسنة، وبين ان دلالة الكتاب والسنة واحدة، وذكر أدلة وجوب اتباعهما، وتقديمهما على رأي كل مجتهد، وتحدث عن عمل الأصوليين، والمحدثين، والفقهاء بالحديث، وطريقة كل قوم، أما في الباب الثاني؛ فبين حقيقة الاجتهاد وأنواعه، وفيما يشترط في المجتهد من الشروط الوصفية والإيقاعية، ووضح حرمة الاجتهاد مع النص في كل ماعمّ وخص، ورد زعم من قال بإنقطاع ودعو أنه إجماع، وذكر الأدلة الشرعية التي تذم التقليد المذموم، وفنّد دعوة القائلين في انحصار التقليد للأئمة الأربعة.
إن دعوة ابن السنوسي لفتح باب الاجتهاد للقادرين عليه، ومحاربة التقليد المذموم، تعني أنه بذلك حارب اسباب الفرقة الداخلية، كالجهل، واتباع الهوى، والابتداع، فالجهل من أعظم أسباب الوقوع في المحرمات جميعها من كفر وفسوق وعصيان، ومن أعظم الجهل القول على الله بغير علم، وقد جعله الله عز وجل أعلى مراتب المحرمات، وأعلى درجة من الإشراك به سبحانه قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 33].
إن ابن السنوسي دعا الناس، بأن يأخذوا الحق ويبحثوا عنه من مصدره الصحيح، كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وبين في كتابه النفيس إيقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن، أن أي حكم لم يقم عليه دليل ولا برهان من وحي الله ؛ فإنه باطل مرفوض، وعلاج مرض الجهل بالدواء الناجع ألا وهو العلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
إن من أخطر الأمور أن يكون على مقدمة الحركات الاسلامية، قيادة تجهل كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا تعطي للعلماء أي وزن أو اهتمام، بل تعلم على تهميشهم والنيل منهم، وتجعل من عقولها وأهوائها مصادر للاجتهادات الحركية، والفكرية، والسلوكية ، ومن المعلوم أن ما سوى الشرع موزون وليس بميزان ، ومحكوم وليس بحاكم.
إن كتاب ابن السنوسي ايقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن يدل الباحث على تأثره بالمنهج السلفي ويظهر فيه تأثره بأفكار ابن تيمية الذي ناد قبله بستة قرون بالتمسك بالكتاب والسنة ، وحارب التقليد الاعمى والتعصب المذهبي، ويبدو أن اطلاعه على كتب ابن تيمية كان في زمن اقامته في الحجاز، كما تعرّف على آرائه من خلال احتكاكه بدعاة السلفية، من تلاميذ الشيخ محمد بن عبدالوهاب الذين تبنوا كتب ابن تيمية وابن القيم، وكتب اهل السنة والجماعة عموماً، ولو قارن الباحث بين كتاب رفع الملام في الأئمة الأعلام لابن تيمية ، وايقاظ الوسنان لوجد تأثر الثاني بالأول، ظاهر العيان.
إن ابن السنوسي لم يكتفي في دعوته لفتح باب الاجتهاد ومحاربة التقليد بالقول، ولكنه قرن قوله بالعمل، حيث خالف مذهبه المالكي في عدة مسائل منها؛ رفع اليدين في الصلاة، حكم القبض ، حكم السكتات الثلاث، حكم الاستعاذة، حكم البسملة للفاتحة والسور، حكم التأمين، حكم التكبير لقيام الثالثة، حكم السلام ، والخروج من الصلاة، حكم القنوت، ورفع اليدين فيه حال الدعاء، حكم تطويل الصلاة، وتقصيرها المشروعين والمتطلع على كتابه المسائل العشر يرأى قوته في إقامة الحجة على ما ذهب إليه من خلال احاديث الرسول صلى الله عليه وسلم واقوال العلماء ، ويذكر ادلته التي خلف فيها المذهب الملكي.
لقد نال ابن السنوس رضى علماء المسلمين بسبب اجتهاده في الدين وعدم تقيده بمذهب من المذاهب، حيث جعل رائده العمل بالكتاب والسنة ولم يقدم عليهما اقوال العلماء والفقهاء، وبسبب دعوته المخلصة التي أثرت في قبائل ليبيا ، والصحراء الكبرى وأفريقيا، والتي اصبحت فيما بعد كتائب للجهاد في سبيل الله تعالى.
إن كتاب إيقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن يوضح لنا معالم سلفية سنية في منهج الحركة السنوسية.
كانت خاتمة كتاب إيقاظ الوسنان في سنن أهل الله وسبيل عملهم فبين فيها مجموعة من الأصول والقواعد في علم التصوف منها:
* إن حكم أهل السلوك في هذا حكم المحديثين في العقائد والفروع وهي عقيد السلف.
* (الطرق كلها مسدودة إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم )، ونسب هذا القول للجنيد وقال أيضاً: عملنا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يستمع الحديث ويجالس الفقهاء ويأخذ أدبه من المتأدبين أفسد من يتبعه.
وقال سهل بن عبدالله التستري بنيت أصولنا على ستة أشياء (كتاب الله وسنة رسوله وأكل الحلال وكف الأذى، واجتناب الآثام وأداء الحقوق).
وقال أبو عثمان الجبري: (من أمر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة. ومن أمر الهوى نطق بالبدعة).
وقال أبو العباس بن عطاء الله (من ألزم نفسه آداب السنة نوّر الله قلبه بنور المعرفة).
ثم بين ابن السنوسي أنه لا مقام أشرف من متابعة الحبيب صلى الله عليه وسلم في الأفعال والأقوال والأوامر والأخلاق.
وبين خطورة الهوى استدل بقول ابن عطاء في حكمه (لا يخاف عليك) أن تلتبس الطرق عليك وإنما يخاف عليك من غلبة الهوى عليك).
وقال أيضاً: (تمكن حلاوة الهوى من القلب هو الداء العضال) وقال بعضهم (نحت الجبال بالأظافير أيسر من زوال الهوى) إذا تمكن قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ [الجاثية: 23].
وبين ابن السنوسي: أن كل طريق لم يمشي فيه الشارع صلى الله عليه وسلم فهو ظلام ولا يكون أحد ممن يمشي فيه على يقين من السلامة، وعدم العطب لأنه صلى الله عليه وسلم هو الإمام وهو النور، والمأموم إذا خرج عن اتبّاع إمامه وتعد ما حده له مشي في الظلام بقدر بعده عن شعاع نور إمامه ولهذا تجد كلام أئمة المذاهب كلهم نوراً صرْفاً لا إشكال فيه لقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف غيرهم ولهذا المعنى أشار صلى الله عليه وسلم بقوله : (رحم الله أمراً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها) يعني حرفاً بحرف من غير زيادة على ما شرعته أو نقصٍ عنه فسّر صلى الله عليه وسلم بأن الابتداع هو الزيادة على التشريع.
لقد كان التصوف عند ابن السنوسي وسيلة لتربية النفس وتزكيتها ، والسمو بها نحو المعالي، وكان تصوفه له مقياس دقيق (كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم )، فأهتم ابن السنوسي بالعلم الرباني ، وتربية النفس، وهذا يظهر من خلال دراسة كتابه ايقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن، وقد ختم ذلك الكتاب بهذه العبارات الجميلة (والله الهادي الى الصواب لا رب غيره لا خير إلا خيره عليه توكلت وإليه أنيب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الذين نالوا ذرى المجد بصحبته، وبلغوا كمال الكرم والشرف برؤيته نسأل الله عز وجل أن يحشرنا في وفدهم إليه وأن ينيلنا مما أعده لهم لديه، إنه كريم رحيم حليم عظيم).
إن ابن السنوسي كان جرئياً في طرح أفكاره التي كانت على جانب كبير من الأهمية بالقياس الى عصره الذي تجمد فيه الفكر، وتأخر فيه العلم، وابتعد الناس عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وكانت دعوته للتمسك بالكتاب والسنة مبنية على علم غزير، وحجج دامعة، وبراهين ساطعة، وكان متأدباً غاية التأدب مع العلماء، فهو لاينكر فضل الأئمة ولكنه يأبى الوقوف عند حدود ما قالوه مادام بالإمكان الرجوع الى النبع والاطلاع على أحاديث قد لا يكونوا وصلوا إليها، ومادام بالإمكان التفكير والاستنباط مع ملاحظة تغير الظروف.
كان ابن السنوسي المؤرخ يمتاز بغزارة معلوماته، ويعتز بتاريخ أجداده، ويؤمن بضرورة حصر الإمامة في قريش ومع هذا ساند الدولة العثمانية حرصاً على وحدة الأمة، ودحر أعدائها وكان اسلوبه في كتابة التاريخ على نمط مؤرخي المسلمين، ويقتصر على سرد الحوادث.
كان ابن السنوسي فقيهاً متصوفاً، اهتم بالعلوم الفقهية ، وغاص في معرفة حقائق النفوس البشرية، واستنبط منهجاً تربوياً لعلاج الامراض النفسية، والرقي بها نحو الكملات الإنسانية مسترشد بكتاب الله وسنة خير البرية.