الجمعة

1446-04-15

|

2024-10-18

الحلقة السادسة والتسعون (96)

مجيء نصر الله والوصف القرآني لغزوة الأحزاب

أولاً: شدَّة تضرُّع الرَّسول (ﷺ) ونزول النَّصر:

كان رسول الله (ﷺ) كثير التَّضرُّع والدُّعاء، والاستعانة بالله، وخصوصاً في مغازيه، وعندما اشتدَّ الكرب على المسلمين أكثر ممَّا سبق حتَّى بلغت القلوب الحناجر وزلزلوا زلزالاً شديداً، فما كان من المسلمين إلا أن توجَّهوا إلى الرَّسول (ﷺ) وقالوا: يا رسول الله! هل من شيءٍ نقوله؟ فقد بلغت القلوب الحناجر، فقال: «نعم، اللَّهمَّ!! استر عوراتنا وامن روعاتنا» [أحمد (3/3)، والبزار (3119)، ومجمع الزوائد (10/136)].

وجاء في الصَّحيحين من حديث عبد الله بن أبي أوفى، قال: دعا رسول الله (ﷺ) على الأحزاب، فقال: «اللَّهمَّ! منزلَ الكتاب، سريعَ الحساب، هازم الأحزاب، اللَّهمَّ! اهزمهم، وزلزلهم». [البخاري (2933)، ومسلم (1742 /20 و21)].

فاستجاب الله - سبحانه - دعاء نبيِّه (ﷺ) فأقبلت بشائر الفرج، فقد صرفهم الله بحوله وقوَّته، وزلزل أبدانهم، وقلوبهم، وشتِّت جمعهم بالخلاف، ثمَّ أرسل عليهم الرِّيح الباردة الشَّديدة، وألقى الرُّعب في قلوبهم، وأنزل جنوداً من عنده سبحانه.

قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴾ [الأحزاب: 9].

قال القرطبيُّ - رحمه الله -: وكانت هذه الرِّيح معجزةً للنَّبيِّ (ﷺ) ؛ لأنَّ النَّبيَّ (ﷺ) ، والمسلمين كانوا قريباً منها، لم يكن بينهم وبينها إلا عرض الخندق، وكانوا في عافيةٍ منها، ولا خبر عندهم بها...، بعث الله عليهم الملائكة، فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النِّيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيول بعضُها في بعضٍ، وأرسل الله عليهم الرُّعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب المعسكر؛ حتَّى كان سيِّد كلِّ خباءٍ يقول: يا بني فلان! هلمَّ إليَّ، فإذا اجتمعوا؛ قال لهم: النَّجاءَ، النَّجاءَ! لما بعث الله عليهم الرُّعب.

وحرَص الرَّسول (ﷺ) أن يؤكِّـد لصحبـه، ثمَّ للمسلمين في الأرض: أنَّ هذه الأحزاب الَّتي تجاوزت عشرة الاف مقاتلٍ لم تُهزم بالقتال من المسلمين - رغم تضحياتهم - ولم تهزم بعبقرية المواجهة، إنَّما هُزمت بالله وحده ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴾ [الأحزاب: 9].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله (ﷺ) كان يقول: «لا إله إلا الله وحدَه، أعزَّ جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيءَ بعدَه». [البخاري (4114)، ومسلم (2724)].

ودعاء رسول الله (ﷺ) ربَّه، واعتماده عليه وحدَه، لا يتناقض أبداً مع التماس الأسباب البشريَّة للنَّصر، فقد تعامل (ﷺ) في هذه الغزوة مع سنَّة الأخذ بالأسباب، فبذل جهده لتفريق الأحزاب، وفك الحصَار، وغير ذلك من الأمور الَّتي ذكرناها.

إنَّ رسول الله (ﷺ) يعلِّمنا سنَّة الأخذ بالأسباب، وضرورة الالتجاء إلى الله، وإخلاص العبوديَّة له؛ لأنَّه لا تجدي وسائل القوَّة كلُّها إذا لم تتوفر وسيلةُ التَّضرع إلى الله، والإكثار من الإقبال عليه بالدُّعاء، والاستغاثة، فقد كان الدُّعاء والتَّضرُّع إلى الله من الأعمال المتكرِّرة الدَّائمة الَّتي فزع إليها رسولُ الله (ﷺ) في حياته كلِّها.

ثانياً: تحرِّي انصراف الأحزاب:

كان رسول الله (ﷺ) يتابع أمر الأحزاب، ويحبُّ أن يتحرَّى عمَّا حدث عن قربٍ فقال: «ألا رجل يأتينا بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة؟» [مسلم (1788]، فاستعمل (ﷺ) أسلوب التَّرغيب، وكرَّره ثلاث مرَّاتٍ، وعندما لم يُجْدِ هذا الأسلوب لجأ إلى أسلوب الجزم، والحزم في الأمر، فعيَّن واحداً بنفسه، فقال: «قم يا حذيفة! فائتنا بخبر القوم، ولا تَذْعَرْهُم عليَّ» [مسلم (1788)].

وفي هذا معنىً تربويٌّ وهو أنَّ القيادة النَّاجحة هي الَّتي توجِّه جنودها إلى أهدافها عن طريق التَّرغيب، والتَّشجيع، ولا تلجأ إلى الأمر، والحزم إلا عند الضَّرورة.

قال حذيفة رضي الله عنه: فمضيت كأنَّما أمشي في حَمَّامٍ، فإذا أبو سفيان يَصْلِي ظهرَه بالنَّار - أي: يدفئه، ويدنيه منها - فوضعت سهماً في كبد القوس، وأردت أن أرميه، ثم ذكرت قول رسول الله (ﷺ) : «لا تَذْعَرْهُمْ عليَّ»، ولو رميتُه لأصبته، فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمَّام، فأتيت رسول الله (ﷺ) ، وأصابني البرد حين رجعت وقررت فأخبرت رسول الله (ﷺ) ، وألبسني فضل عَبَاءَةٍ كانت عليه يُصَلِّي فيها، فلم أَزَلْ نائماً حتَّى أصبحت، فلـمَّا أصبحت، قال رسول الله (ﷺ) : «قم يا نومان!». [مسلم (1788)].

ويؤخذ من قصَّة حذيفة دروسٌ، وعبرٌ منها:

1 - معرفة رسول الله (ﷺ) بمعادن الرِّجال؛ حيث اختار حذيفة؛ ليقوم بمهمَّة التَّجسس على الأحزاب، وأنَّ معدن حذيفة معدنٌ ثمينٌ، فهو شجاعٌ، ولا يقوم بهذه الأعمال إلا من كان ذا شجاعةٍ نادرة، وهو بالإضافة إلى ذلك لبقٌ ذكيٌّ خفيف الحركة، سريع التخلُّص من المازق الحرجة.

2 - الانضباط العسكريُّ الَّذي كان يتحلَّى به حذيفة؛ فلقد مرَّت به فُرصةٌ سانحةٌ يستطيع أن يقتل فيها قائد الأحزاب، وهَمَّ بذلك، ولكنَّه ذكر أمر الرَّسول (ﷺ) ألا يَذْعَـرَهُمْ، وأنَّ مهمَّته الإتيان بخبرهم، فنزع سهمه من قوسه.

3 - كرامات الأولياء: إنَّ ما حدث لحذيفة بن اليمان عندما سار لمعرفة خبر الأحزاب في جوٍّ باردٍ ماطرٍ شديد الرِّيح وإذا به لا يشعر بهذا الجوِّ البارد، ويمشي وكأنما يمشي في حمَّامٍ، وتلازمه هذه الحالة مُدة بقائه بين الأحزاب وحتَّى عودته إلى معسكر المسلمين، لاشك هذه كرامةٌ يمنُّ الله بها على عباده المؤمنين.

4 - لطف النَّبيِّ (ﷺ) مع حذيفة عند رجوعه، فقد كان (ﷺ) يترفَّق بأصحابه، ولم تمنعه صلاة اللَّيل، وحلاوة المناجاة من التلطُّف بحذيفة الَّذي جاء بأحسن الأنباء، وأصدق الأخبار، وأهمِّها، فشمله بكسائه الَّذي يصلِّي فيه؛ ليدفئه، وتركه ملفوفاً به حتَّى أتمَّ صلاته، بل حتَّى بعد أن أفضى إليه بالمهمَّة، فلـمَّا وجبت المكتوبة؛ أيقظه بلطفٍ، وخفَّةٍ، ودُعابةٍ، قائلاً: «قم يا نومان!» دُعابة تقطر حلاوةً، وتفيض بالحنان، وتسيل رقَّةً، إنَّها صورةٌ نموذجيَّةٌ للرَّأفة، والرَّحمة، اللَّتين تحلَّى بهما فؤاد الرَّسول (ﷺ) ، وتطبيقٌ فريدٌ رفيعٌ لهما في أصحابه الكرام وصدق الله العظيم في قوله: ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128].

5 - وتستوقفنا سرعة البديهة لدى الصَّحابيِّ الكريم، وقد دخل في القوم، كما في رواية الزُّرقاني، وقال أبو سفيان: ليأخذ كلُّ رجلٍ منكم بيد جليسه، قال حذيفة: فضربت بيدي على يد الَّذي على يميني، فقلت: من أنت؟ قال: معاوية بن أبي سفيان، ثمَّ ضربت بيدي على يد الَّذي عن شمالي، فقلت: مَنْ أنت؟ قال: عمرو بن العاص..... وهكذا بَدَرَهُم بالمسألة حتَّى لا يتيح لهم فرصةً ليسألوه، وبهذا تخلَّص من هذا المأزِق الحرج الَّذي ربما أودى بحياته.

ثالثاً: الوصف القرآني لغزوة الأحزاب، ونتائجها:

تحدَّث القرآن الكريم عن غزوة الأحزاب، وردَّ الأمر كلَّه لله سبحانه، وقد سجَّل القرآن الكريم غزوتي الأحزاب، وبني قريظة، والقرآن كعهدنا به يُسَجِّل الخالدات الَّتي تسع الزَّمان، والمكان، فالمسلمون معرَّضون دائماً لأن يُغزوا في عقر دارهم، في عواصم بلدانهم، ومعرَّضون لأن يتكالب عليهم الأعداء جميعاً، فإذا كان القرآن قد سجل حادثتي الأحزاب، وبني قريظة، فذلك من سمة التَّكرار على مدى العصور؛ لكي يستفيد المسلمون من الدُّروس والعبر من الحوادث السَّابقة الَّتي ذكرت في القرآن الكريم على وجه الخصوص، والَّذي يتدبَّر حديث القرآن عن غزوة الأحزاب يراه قد اهتم ببيان أمورٍ، من أهمِّها ما يلي:

1 - تذكير المؤمنين بنعم الله عليهم، كما قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴾ [الأحزاب: 9].

2 - التَّصوير البديع لما أصاب المسلمين من همٍّ بسبب إحاطة الأحزاب بالمدينة: ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ﴾ [الأحزاب: 10].

3 - الكشف عن نوايا المنافقين السَّيئة، وأخلاقهم الذَّميمة، وجبنهم الخالع، ومعاذيرهم الباطلة، ونقضهم للعهود، قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا ﴾ [الأحزاب: 12].

4 - حضُّ المؤمنين في كلِّ زمانٍ، ومكانٍ على التأسِّي برسول الله (ﷺ) ، في أقواله، وأفعاله، وجهاده، وكلِّ أحواله، استجابةً لقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].

5 - مدح المؤمنين على مواقفهم النَّبيلة، وهم يواجهون جيوش الأحزاب بإيمانٍ صادقٍ، ووفاء بعهد الله تعالى، قال تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾ [الأحزاب: 23].

6 - بيان سنَّةٍ من سنن الله الَّتي لا تتخلَّف، وهي جعل العاقبة للمؤمنين والهزيمة لأعدائهم، قال تعالى: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾ [الأحزاب: 25].

7 - امتنانه سبحانه على عباده المؤمنين؛ حيث نصرهم على بني قريظة وهم في حصونهم المنيعة بدون قتالٍ يُذْكَر، حيث ألقى - سبحانه - الرُّعب في قلوبهم فنزلوا على حكم الله، ورسوله (ﷺ) ، قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ﴾ [الأحزاب: 26 - 27].

لقد كانت غزوة الأحزاب من الغزوات المهمَّة الَّتي خاضها المسلمون ضدَّ أعدائهم وحقَّقوا فيها نتائج مهمَّةً منها:

  • انتصار المسلمين، وانهزام أعدائهم، وتفرُّقهم، ورجوعهم مدحورين بغيظهم، قد خابت أمانيهم، وامالهم.
  • غيُّر الموقف لصالح المسلمين؛ فانقلبوا من موقف الدِّفاع إلى الهجوم، وقد أشار إلى ذلك النَّبيُّ (ﷺ) حيث قال: «الآن نغزوهم، ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم». [البخاري (4110)، وأحمد (4/262، و6/394)].
  • كشفت هذه الغزوة يهود بني قريظة، وحقدهم على المسلمين، وتربُّص الدَّوائر بهم، فقد نقضوا عهدهم مع النَّبيِّ (ﷺ) في أحلك الظُّروف، وأصعبها.
  • كشفت غزوة الأحزاب حقيقة صدق إيمان المسلمين، وحقيقة المنافقين، وحقيقة يهود بني قريظة، فكان الابتلاء بغزوة الأحزاب تمحيصاً للمسلمين، وإظهاراً لحقيقة المنافقين، واليهود.
  • كانت غزوة بني قريظة نتيجةً من نتائج غزوة الأحزاب؛ حيث تمَّ فيها محاسبة يهود بني قريظة الَّذين نقضوا العهد مع النَّبيِّ (ﷺ) في أحلك الظُّروف، وأقساها.

رابعاً: التَّخلُّص من بني قريظة:

بعد عودة النَّبيِّ (ﷺ) من الخندق، ووضعِه السِّلاح أمر الله تعالى نبيَّه (ﷺ) بقتال بني قريظة، فأمر الحبيب (ﷺ) أصحابه بالتوجُّه إليهم، وقد أعلمهم بأنَّ الله تعالى قد أرسل جبريل؛ ليزلزل حصونهم، ويقذف في قلوبهم الرُّعب، وأوصاهم بأن «لا يصلِّيَنَّ أحدٌ العصر إلا في بني قريظة» [البخاري (4119)، ومسلم (1770)].

وضرب المسلمون الحصار على بني قريظة خمساً وعشرين ليلةً، ولـمَّا اشتدَّ الحصار، وعظم البلاء على بني قريظة، أرادوا الاستسلام، والنُّزول على أن يحكِّم الرَّسول (ﷺ) فيهم سعد بن معاذ رضي الله عنه، ونزلوا على حكمه، ورأوا: أنَّه سيرأف بهم بسبب الحلف بينهم وبين قومه الأوس، فجيء بسعدٍ محمولاً؛ لأنَّه كان قد أصابه سهمٌ في ذراعه يوم الخندق، فقضى أن تُقتل المقاتِلة، وأن تُسبى النِّساء والذُّرِّيَّة، وأن تُقسم أموالهم، فأقرَّه رسول الله (ﷺ) وقال: «قضيت بحكم الله» [البخاري (3043 و4122)، ومسلم (1768/64)].

ونفَّذ حكم الإعدام في أربعمئةٍ في سوق المدينة، حيث حفرت أخاديد، وقتلوا فيها بشكل مجموعاتٍ، وقد نجت مجموعةٌ قليلةٌ جدّاً بسبب وفائها للعهد، ودخولها في الإسلام، وقسمت أموالُهم، وذراريهم على المسلمين.

وهذا جزاءٌ عادلٌ نزل بمن أراد الغدر، وتبرَّأ من حلفه للمسلمين، وكان جزاؤهم من جنس عملهم حين عرَّضوا بخيانتهم أرواح المسلمين للقتل، وأموالهم للنَّهب، ونساءهم، وذراريهم للسَّبي، فكان أن عوقبوا بذلك جزاءً وفاقاً.

ولم تقتل من نساء بني قريظة إلا واحدةٌ، ونترك السَّيدة عائشة رضي الله عنها تحدِّثنا عنها قالت السَّيدة عائشة:لم يُقتل مِنْ نسائهم إلا امرأةٌ واحدةٌ قالت: والله! إنَّها لعندي، تتحدث معي، تضحك ظهراً، وبطناً؛ ورسولُ الله (ﷺ) يقتل رجالها بالسُّوق؛ إذ هتف هاتفٌ باسمها: أين فلانة؟ قالت: أنا والله! قالت: قلت لها: ويلك! ما لك؟ قالت: أقتل. قلت: ولم؟ قالت: لحدثٍ أحدثتُه. قالت: فانطلق بها، فضُربت عنقها، وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: والله! ما أنسى عجبي من طيب نفسها، وكثرة ضحكها، وقد عَـرَفَتْ: أنَّها تُقتل. [أحمد (6/277)، وأبو داود (2671)].

بالقضاء على بني قريظة خلت المدينة تماماً من الوجود اليهوديِّ، وصارت خالصةً للمسلمين، وخلت الجبهة الدَّاخلية من عنصرٍ خطرٍ، لديه القدرة على المؤامرة، والكيد، والمكر، واضمحل حلم قريش؛ لأنَّها كانت تعوِّل، وتؤمِّل في يهود بأن يكون لهم موقف ضدَّ المسلمين، وابتعد خطر اليهود الَّذي كان يمدُّ المنافقين بأسباب التَّحريض والقوَّة.

إنَّ حماية الجبهة الدَّاخليَّة للدَّولة الإسلاميَّة من العابثين منهجٌ نبويٌّ كريمٌ، رسمه الحبيب المصطفى (ﷺ) للأمَّة المسلمة.

يمكن النظر في كتاب السِّيرة النَّبويّة عرض وقائع وتحليل أحداث

                        على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ

http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC-169.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022