الفاروق رضي الله عنه وتربيته لبعض زعماء المجتمع الإسلامي
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة السابعة والعشرون
1 ـ تربيته لبعض زعماء المجتمع:
لم يسمح عمر ـ رضي الله عنه ـ في خلافته للأعيان أن يتسلَّطوا على أبناء المجتمع، أو يتطاولوا عليهم، أو يشعروا بنوعٍ من الرِّفعة على النَّاس، وإِليك بعض هذه المواقف:
ـ أبو سفيان رضي الله عنه وداره بمكَّة:
قدم عمر مكَّة، فأقبل أهل مكَّة يسعون، فقالوا: يا أمير المؤمنين ! إِنَّ أبا سفيان ابتنى داراً، فحبس عنا مسيل الماء؛ ليهدم منازلنا، فأقبل عمر ومعه الدِّرَّة، فإِذا أبو سفيان قد نصب أحجاراً، فقال: ارفع هذا ! فرفعه، ثم قال: وهذا.. وهذا حتّى رفع أحجاراً كثيرةً خمسةً، أو ستَّةً، ثمَّ استقبل عمر الكعبة، فقال: الحمد لله الذي جعل عمر يأمر أبا سفيان ببطن مكَّة، فيطيعه.
ـ عيينة بن حصن ومالك بن أبي زفر:
زار عيينة بن حصن عمر ـ رضي الله عنه ـ وعنده مالك بن أبي زفر من فقراء المسلمين، فتطاول عليه قائلاً: أصبح الضَّعيف قويّاً، والدَّنيُّ مرتفعاً ! فقال مالك: أيفخر علينا هذا بأعظم حائلةٍ، وأرواحٍ في النَّار؟ فغضب عمر لمَّا اعترض عيينة على هذا القِصاص، وقال له: كن ذليلاً في الإِسلام، فوالله لا أرضى عنك حتّى يشفع لك مالكٌ، ولم يجد عيينة بدّاً من أن يستشفع بمالكٍ لدى عمر.
ـ الجارود، وأبي بن كعب رضي الله عنهما:
أقبل الجارود على عمر رضي الله عنهما، فقال رجل: هذا سيِّد ربيعة، فاعتلاه عمر بالدِّرَّة، وقال: خشيت أن يخالط قلبك منها شيءٌ. وفعل عمر ذات الصَّنيع مع أبيِّ بن كعب، لمَّا رأى النَّاس قد اجتمعت عليه تسأله بعد خروجه من المسجد، وقال: إنَّ هذا الذي تصنع فتنةٌ للمتبوع، ومذلةٌ للتَّابع.
2 ـ إِنكاره لبعض التصرفات في المجتمع:
كانت حياة الفاروق ـ رضي الله عنه ـ على وفق شرع الله تعالى الحكيم، ولذلك كان لا يرضى عن أيِّ سلوكٍ منحرفٍ، أو تصرُّفٍ يتولَّد عنه مفاسد للمجتمع الإِسلامي، وهذه بعض المواقف الَّتي وجَّه فيها الفاروق بعض المخطئين إِلى الصَّواب:
ـ مجزرة الزُّبير بن العوَّام رضي الله عنه:
كان عمر ـ رضي الله عنه ـ يأتي إِلى مجزرة الزُّبير بن العوام، وكانت الوحيدة بالمدينة ومعه الدِّرَّة، فإِذا رأى رجلاً اشترى لحماً يومين متتابعين ضربه بالدِّرَّة، وقال له: ألا طويت بطنك لجارك، وابن عمِّك.
ـ الان سل ما بدا لك !
رأى عمر ـ رضي الله عنه ـ سائلاً يسأل، وعلى ظهره جرابٌ مملوء طعاماً، فأخذ الطَّعام ونثره لإِبل الصدقة، ثمَّ قال له: الان سل ما بدا لك!.
ـ دع هذه المشية:
أقبل رجل مرخياً يديه طارحاً رجليه، يتبختر، فقال له عمر ـ رضي الله عنه ـ: دع هذه المشية. فقال: ما أطيق، فجلده، ثمَّ تبختر، فجلده، فترك التَّبختر. فقال عمر: إِذا لم أجلد في مثل هذا، ففيم أجلد ؟ فجاءه الرَّجل بعد ذلك، فقال: جزاك الله خيراً، إِن كان إِلا شيطاناً أذهبه الله بك.
ـ لا تُمِت علينا ديننا:
نظر عمر ـ رضي الله عنه ـ إِلى رجلٍ مظهرٍ للنُّسك، متماوتٍ، فخفقه بالدِّرَّة، وقال: لا تمت علينا ديننا، أماتك الله. وعن الشِّفاء بنت عبد الله وقد رأت فتياناً يقصدون في المشي، ويتكلَّمون رويداً، فقالت: ما هؤلاء؟ قالوا: نسَّاك، فقالت: كان والله عمر بن الخطاب إِذا تكلَّم؛ أسمع، وإِذا مشى؛ أسرع، وإِذا ضرب؛ أوجع، وهو والله النَّاسك حقاً!.
ـ اهتمامه بصحَّة الرَّعية:
اهتم الخليفة عمر ـ رضي الله عنه ـ بصحَّة الرَّعية، فكان يحذِّرهم من مغبة السِّمنة ومخاطرها، ويدعوهم إِلى تخفيف أوزانهم لما فيه من القوَّة على العمل والقدرة على أداء الواجبات، فكان يقول: أيُّها النَّاس ! إِيَّاكم والبطنة عن الطَّعام، فإِنَّها مكسلةٌ عن الصَّلاة، مفسدةٌ للجسم، مورثةٌ للسُّقم، وإِنَّ الله عز وجل يبغض الحبر السَّمين، ولكن عليكم بالقصد في قُوْتِكم، فإِنَّه أدنى من الصَّلاح، وأبعد من السَّرف، وأقوى على عبادة الله عزَّ وجل، ولن يهلك عبدٌ حتّى يؤثر شهوته على دينه.
ويذكر ابن الجوزي: أنَّ عمر رضي الله عنه، رأى رجلاً عظيم البطن، فقال: ما هذه ؟ قال: بركةٌ من الله، فقال: بل عذابٌ من الله.
وأمَّا اهتمامه بالصِّحَّة العامَّة للمواطنين؛ فإِنَّه كان ينهى من به مرضٌ مُعد منهم أن يختلط بهم لمنع انتشار المرض، وكان ينصح المريض بالبقاء في بيته حتّى يتماثل إِلى الشِّفاء، فيروى: أنَّه ـ رضي الله عنه ـ مرَّ بامرأة مجذومةٍ وهي تطوف بالبيت، فقال لها: يا أمة الله ! لو قعدت في بيتك لا تؤذينَّ الناس ! فقعدت، فمرَّ بها رجلٌ بعد ذلك، فقال: إِنَّ الذي نهاك قد مات، فاخرجي. فقالت: والله ما كنت لأطيعه حيّاً وأعصيه ميتاً ! كما كان يؤكد على الرِّياضة، والفروسيَّة، وركوب الخيل، وكان يقول: علِّموا أولادكم العوم، والرِّماية، ومروهم، فليثبوا على الخيل وثباً، وروُّوهم ما جَمُل من الشِّعر.
ـ نصيحةٌ عمريَّة لمن وقع في شرب الخمر:
تفقَّد عمر ـ رضي الله عنه ـ رجلاً ذا بأسٍ شديدٍ من أهل الشَّام، فقيل له: إِنَّه تتابع في الشُّرب. فقال لكاتبه اكتب: من عمر بن الخطاب إِلى فلانٍ، سلام عليك، وأنا أحمد الله إِليك؛ الذي لا إِله إِلا هو، بسم الله الرَّحمن الرَّحيم: {حم *تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ *غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ *} [غافر: 1 ـ 3] ثمَّ ختم الكتاب، وقال لرسوله: لا تدفعه إِليه حتّى تجده صاحياً، ثمَّ أمر من معه بالدُّعاء له بالتَّوبة، فلمَّا أتته الصَّحيفة؛ جعل يقرؤها، ويقول: قد وعدني ربِّي أن يغفر لي، وحذَّرني عقابه، فلم يزل يردِّدها حتّى بكى، ثمَّ نزع، فأحسن النَّزْعَ، وحسنت توبتُه، فلمَّا بلغ عمر أمره قال: هكذا فاصنعوا، إِذا رأيتم أحدَكم زلَّ؛ فسدِّدوه، وادعوا له، ولا تكونوا أعواناً للشَّيطان عليه.
وفي هذا الموقف تظهر عبقرية عمر في تربية النُّفوس، ومعرفته بطبائع البشر، ووسائل التقويم، فما ينفع شخصاً قد يضر غيره، فهذا درسٌ من دروس التَّربية النَّاجحة، وأسلوبٌ رقيقٌ في التَّوجيه. أمير المؤمنين على ضخامة مسؤوليَّاته، ومشاغله يغيب عن مجلسه واحدٌ من روَّاده، فلا يفوته هذا الغياب، ولكن يسأل ليعالج، فيصلح، واليوم يغيب الأخ عن أخيه، فلا يشعر أحدهما بغياب الاخر، وإِن شعر؛ فلا يسأل عن سبب الغياب، وإِذا تحرّى السُّؤال فلا يسعى وراء علاجٍ إِن كان في الأمر ما يستدعي العلاج، إِنَّ هذا التفلُّت معولٌ من معاول هدم الأخوَّة الإِسلاميَّة، وما هذا بحال مسلمين يعرفون أنَّهم إِخوةٌ، فهل من التفاتةٍ، لعلَّ، وعسى؟.
ـ رأي عمر في المجالس الخاصَّة:
كان عمر ـ رضي الله عنه ـ يميل إِلى أن تكون مجتمعات الناس عامَّةً يهوي إِليها جميع النَّاس على اختلاف طبقاتهم، وكان يكره اختصاص النَّاس بمجالس؛ لأن ذلك يدعوهم إِلى أن تكون لهم اراءٌ متفرِّقةٌ متباينةٌ تنتهي بأحزابٍ متعاديةٍ.
روى ابن عباسٍ أن عمر قال لناسٍ من قريش: بلغني أنَّكم تتَّخذون مجالس، لا يجلس اثنان معاً حتّى يقال: مَنْ صحابة فلانٍ ؟ من جلساء فلان ؟ حتّى تُحُومِيت المجالس، وايم الله ! إِنَّ هذا لسريعٌ في دينكم، سريعٌ في شرفكم، سريع في ذات بينكم، ولكأنِّي بمن يأتي بعدكم يقول: هذا رأي فلانٍ، قد قسموا الإِسلام أقساماً، أفيضوا مجالسكم بينكم، وتجالسوا معاً، فإِنَّه أدوم لألفتكم، وأهيب لكم في النَّاس.
وفي الحقِّ: إِن ابتعاد الخاصَّة عن عامَّة النَّاس، واختصاصهم بأفرادٍ يجلسون إِليهم مضيِّعٌ كثيراً لما ينتظر من تربية الخاصَّة للعامَّة، واجتماعهم مفيدٌ فائدةً كبرى، وهي نقل أقوالهم غير محرَّفةٍ، ولا مشوبةٍ بما يطمس حقيقتها، ثمَّ إِن كثرة المجالس تدعو بدون ريبٍ إلى كثرة الاختلاف في المسائل الَّتي تعرض لهم، فتكثر الأقوال المتباينة في الدِّين، وهو الذي خافه عمر ـ رضي الله عنه ـ على النَّاس وعلى مَنْ يأتي.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf