الجمعة

1446-10-13

|

2025-4-11

الغزو الإيطالي على ليبيا...الظروف والتطورات

بقلم: الدكتور علي محمّد الصلابي

الحلقة: الرابعة

ربيع الأول 1441 ه/ نوفمبر 2019

في خلال فترة (1882 1896 م) تزايدت النشاطات التبشيرية الإيطالية في ولاية طرابلس، وخاصة في مجال التعليم، وأقبل بعض الضباط العثمانيين على إرسال أبنائهم إلى هذه المدارس، فأصدر الوالي كمال باشا (1893 م 1908 م) قراراً في (21 يوليو 1898 م) منع بموجبه أبناء ضباط الجيش العثماني من الانتساب إلى هذه المدارس، وضرورة تحويل أبنائهم إلى المدارس الحكومية العثمانية، ومما جاء في القرار على لسان السلطان قوله: «لقد علمت أن الضباط يرسلون أولادهم إلى المدارس الأجنبية، وحيث إن الحكومة قد فتحت العديد من المدارس التي تسير على المنهج السليم، لذلك لم يبقَ عذر ولا مبرر، لإرسال أبناء الضباط إلى المدارس الأجنبية، ويمنع هذا رسمياً.
استمرت إيطالية بمحاولاتها الرامية لتأكيد مظاهر نفوذها في ولاية طرابلس، وساهمت صحافتها في ذلك عن طريق مجاهرتها بالدعوة إلى احتلال الولاية، والتقليل من شأن العثمانيين، والطرابلسيين، برغم عدم أهليتهم لحكم الولاية وإدارتها، فاجتمع من أهل الولاية جمع غفير، وأرسل نحو خمسين من أعيانهم رسالة بالتلغراف إلى إستانبول يظهرون فيها استياءهم من لهجة الصحف الإيطالية، ويبدون فيها استعداداتهم للدفاع عن وطنهم تحت راية الخلافة العثمانية، ومما جاء في الرسالة: «إن أهالي طرابلس الذين يتباهون بارتباطهم بمقام الخلافة الإسلامية والسلطنة العثمانية الذي هو أعظم من حياتهم، وأنهم لا ينثنون عن الدفاع في هذا السبيل، ولو انثنت عنه الحكومة العثمانية نفسها.. وعلى كل حال فإن رجالنا وأولادنا قد عاهدوا الله والشرف والذمة على أن يريقوا وبكل سرور اخر نقطة من دمائهم قبل أن يدنس وطنهم أعداء السلطة العثمانية.
وهذا الخطاب يدل على مدى ارتباط المسلمين في ليبية بالخلافة الإسلامية، وعلى أصالتهم في مكافحة وجهاد عدوهم، وعلى حبهم للموت في سبيل الله، وصد كل عدو يفكر في الاعتداء على أراضيهم والنيل من مقدساتهم، ولا زالت هذه المعاني تجري في دماء الأحفاد الذين ورثوها من الأجداد من أصالة وديانة وشرف، قال الله تعالى: [ال عمران: 34]. عينت الدولة العثمانية رجب باشا {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ۝} [آل عِمرَان: 34] 1908 م) والياً على طرابلس، وكان من أشد الناس وطأة على سياسة إيطالية، وعهده كان متميزاً بالنشاط والصلاح، «ووقف للسياسة الإيطالية في كل طريق، وما سلكت السياسة الإيطالية سبيلاً إلا وجدت رجب باشا واقفاً لها بالمرصاد».
ومع هذا لم تتوقف المساعي الإيطالية للتغلغل في طرابلس وبرقة، وكانت معظم البعثات الإيطالية التي قدمت إليها في تلك الفترة، قد قامت بزيارتها بناء على مبادرة من الجمعية الإيطالية للاستكشاف الجغرافي والتجاري التي كانت مدينة ميلانو مركزاً لها، وبإيعاز من رئيسها كامبيريو مدير مبعثات كثيرة؛ منها: بعثة (ما نفريد كامبيريو)، و(جوزيتبي هايمان) في سنة (1881 م)، و(يبيترو) عام (1882 م) (1883 م)، (بنيشة) في عام (1895 م)، (فينا بيادي ديني)، و(بيدويتي) في سنة (1901 م)، و(هابنهير) و(دي سانكتيس) في سنة (1910 م) وغيرهم كثير، وبعض هذه البعثات أحدثت ضجة واسعة، إذ إن أعضاءها قد سجنوا من قبل الأتراك الذين لم يطلقوا سراحهم إلا في نوفمبر (1912 م).
قام أول هؤلاء المبعوثين (كامبيريو) في سنة (1880 م) برحلة إلى طرابلس، وزار خلالها الخمس ومسلاته، وعند عودته إلى ميلانو طلب من جمعية الاستكشاف الإيطالية إرسال جواسيس إلى برقة لإقامة مراكز تجارية في بنغازي، ودرنة كنقط انطلاق، وقامت البعثات الإيطالية بالتجسس على أوضاع ليبية الاقتصادية، والزراعية، وقامت بدراسة قرى بنغازي، وتوكرة، والمرج، ودرنة، وشحات، وطلميثة، وطبرق، وأتيحت لهم فرصة الاطلاع على أحوال ليبية وعادات الشعب، وطريقة حياتهم، ثم عادوا إلى إيطالية وقد رفعوا أبحاثهم إلى السلطات الحاكمة، وألقوا المحاضرات، والخطب الرنانة لتشجيع حكوماتهم، وشعبهم على احتلال ليبية. لقد تمكنت إيطالية من فتح بنك روما في طرابلس، وأنشأت فروعه في ليبية، وبنت المصانع، والمدارس، ودرست الأوضاع بعناية، وأرصدت الأموال لذلك يرى الباحث أنهم استمروا أكثر من ثلاثين سنة وهم يجمعون المعلومات ويرسلون الجواسيس ويخططون لغزو البلاد، ويتوغلون في المجتمع بالمؤسسات التجارية، والمدارس العلمية... إلخ، لغزو ديار المسلمين، وهتك أعراضهم وتدمير بلادهم، وقتل أشرافهم، وسبي نسائهم، قال تعالى:{وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البَقَرَة: 217].
وفي سنة (1900 م) قامت شركة (روباتنيو) للملاحة بمد خط بحري منتظم مع مدينة طرابلس، وفي ديسمبر من نفس السنة أبرم بين فرنسة وإيطالية اتفاق، تم التأكيد عليه مجدداً في مايو سنة (1902 م)، وهو عبارة عن بروتوكول يقضي بعدم تدخل متبادل بين الدولتين، وبموجبه أعلنت إيطالية أنها لن تكون لها أي مطامع استعمارية في مراكش، وأعلنت في مقابل ذلك أنه لن تكون لها هي الأخرى أية مطامع استعمارية في طرابلس، وفي سنة (1907 م) فتح مصرف روما فروعاً له في طرابلس، فاستثمرت بها رؤوس أموال، وأنشئت مصالح إيطالية، كما تم تطوير الخطوط المحلية معها، والمدارس الإيطالية فيها، وأخذت الحكومة تشجع وتدعم مشاريع مواطنيها الذين كانوا يصطدمون باستمرار بالعقبات التي تواجههم في طريقهم.
كانت إيطالية عازمة على احتلال ليبية، وبذلت في سبيل ذلك جهداً كبيراً على مستوى الولاية نفسها، بتعزيز مظاهر نفوذها أو على المستوى الدولي بالحصول على موافقة أغلب الدول الأوروبية على ذلك، إلا أن شدة تمسك الدولة العثمانية بالولاية في زمن السلطان عبد الحميد الثاني، وقوة نفوذ الحركة السنوسية في دواخل ليبية، وحسن التنسيق القائم بين الطرفين، كل ذلك أدى إلى تأجيل إيطالية تنفيذ مشروعها الاستعماري العدواني الغاشم عام (1911 م).
الهجوم الإيطالي على ليبية
كانت الدولة العثمانية تعاني اضطراباً خطيراً في أوضاعها الداخلية والخارجية بسبب الانقلاب الذي قادته جمعية الاتحاد والترقي ضد السلطان عبد الحميد سنة (1908 م)، وكان ذلك الانقلاب المشؤوم مدفوعاً من قبل اليهود، والماسونية والدول الأوروبية، وكان السلطان محمد رشاد ألعوبة في يد جمعية الاتحاد والترقي، ولم يكن السلطان محمد رشاد بأوفر حظاً من سابقيه، لأن النظم التقدمية الخيالية التي تبنتها جمعية الاتحاد والترقي قيدته، كذلك فإن قادة الانقلاب غالوا في نزعتهم القومية وأفرطوا في سياسة التتريك التي نادوا بها، وساهموا في ضياع ليبية.
يقول الأستاذ محمود الشاذلي: ((لعب (قره صو) أحد قادة الاتحاد والترقي في أيامها الأخيرة (1909 1918 م) دوراً رئيساً في احتلال إيطالية لليبية، وكان يشغل وظيفة مفتش إعاشة، واضطر نتيجة لخيانته أن يهرب إلى إيطالية ويحصل على حق المواطنة الإيطالية، واستقر في تريستا حيث مات عام (1934 م).
وأما متر سالم اليهودي الماسوني فيتحدث عن دورهِ الجنرال جواد رفعت أتلخان في كتابه (أسرار الماسونية)، ترجمة: نور الدين رضا الواعظ، سليمان أمين القابلي: «إن طرابلس الغرب (ليبية حالياً) التي تعتبر موطن أخلص أبناء الدولة العثمانية، قد وقعت في مخالب الإيطاليين بمؤامرة خبيثة، دبرها اليهودي الماسوني (متر سالم) الحائز على الدرجة الثالثة والثلاثين في الماسونية، ورسم الخطط اللازمة، ودفعت الخزينة الإيطالية الملايين من الليرات الذهبية إلى اليهودي (متر سالم) لقاء إقناعه الدولة العثمانية بضرورة سحب الأسلحة والعتاد من طرابلس الغرب إلى إستانبول بحجة التغيير والإصلاح، وبمساعي الماسونيين أيضاً سيقت قطاعات الجيش إلى اليمن، وهكذا سلمت البلاد الطرابلسية (ليبية) لقمة سائغة للطليان».
وكانت وزارة إبراهيم حقي الاتحادية متواطئة مع إيطالية الذي ربطتهم به المال، فضاع كل أمل أن تنال ولاية طرابلس الغرب شيئاً من عناية الدولة واهتمامها بها، لقد قامت حكومة السلطان عبد الحميد الثاني باتخاذ الأهبة لرد أي اعتداء على الولاية، وأرسل إليها السلطان قائداً من خيرة قواده، هو رجب باشا الذي: «أطلقت يده في شؤون الولاية الإدارية والعسكرية، فمرَّن أهلها على الأصول الحربية، ووزع على شبابها وشيوخها البنادق، ومرنهم على استعمالها، وملأ المستودعات العسكرية بالذخائر، حتى أصبح عدد الجيش المرابط في طرابلس حوالي خمسة عشر ألفاً، وهذا عدا الفرق غير النظامية (قول أوغلي)، من الأهلين العرب، وهؤلاء بلغوا الأربعين أو الخمسين ألفاً، ومهمتهم معاونة الجيش النظامي، فقد أبطل الاتحاديون هذه الاستعدادات، وشرعوا ينزعون البنادق من الأفراد بدعوى أن الأهلين قد يقومون في وجه الحكومة إذا طلب منهم تأدية الضرائب والتكاليف الأميرية.
وانتهزت وزارة حقي باشا فرصة استفحال أمر الثورة في اليمن، فسحبت معظم جيشها النظامي من طرابلس الغرب لاستخدامه في إخماد هذه الثورة، على أنها لم تكتفِ بذلك، بل أهملت كل الإهمال الفرق الأهلية، فنقصت قوة الدفاع الطرابلسية إلى أقل من خمسة الاف مقاتل فقط، ومع أن أهالي البلاد طلبوا الانتظام في سلك الجندية بعد إعلان الدستور العثماني، فقد أصمَّ الاتحاديون اذانهم ولم يجيبوا الأهلين إلى ما طلبوه إلا قبيل وقوع الاعتداء الإيطالي بفترة قصيرة، ولم تبدأ الإجراءات اللازمة لتجنيدهم إلا بعد قيام الحرب ذاتها.
وزيادة على ذلك فقد نقلت الحكومة العثمانية حوالي أربعين ألف بندقية كانت الدولة قد درجت على حفظها بالبلاد حتى يستخدمها الأهلون عند الطوارأى، ثم لم تفعل شيئاً من أجل إصلاح الاستحكامات ومراكز الدفاع بالبلاد، أو تمدها بالمدافع والذخيرة اللازمة للسهر على سلامتها».
واستغلت إيطالية نشوب الأزمة المراكشية، وعمدت إلى توقيت البدء بالعمل العسكري ضد ليبية، فوجهت إنذاراً إلى الحكومة العثمانية تضمَّن التالي:
1- تذكير إيطالية المستمر للباب العالي بالضرورة القصوى لوضع حد لتلك الفوضى والإهمال اللذين تركت فيها طرابلس وبرقة من قبل الحكم العثماني، وهو وضع ترى إيطالية ضرورة تعديله وفقاً لمقتضيات المدنية والمصلحة الحيوية لإيطالية بحكم قرب سواحلها من أراضي الولاية.
2- إن مساندة الحكومة الإيطالية الدائمة للإمبراطورية العثمانية في كثير من المسائل السياسية حتى في الفترة الأخيرة قوبلت بتجاهل رغبات إيطالية في ولاية طرابلس، وبمعارضة أنشطة الإيطاليين فيها.
3- رفض الحكومة الإيطالية لاقتراح إستانبول بإجراء مفاوضات تمنح بمقتضاها إيطالية امتيازات اقتصادية في الولاية، «وتحفظ لإستانبول شرفها ومصالحها العليا»؛ لأنها تعتقد بأن تجارب الماضي أوضحت عدم جدوى مثل هذه المفاوضات التي قد تطرح أموراً تصبح محل نزاع أو احتكاك جديد.
4- الادعاء بأن قناصل إيطالية في طرابلس وبرقة تصور «خطورة الحركة السائدة ضد الإيطاليين، والتي خلفها فيما بعد ضباط وهيئات أخرى من السلطات المحلية»، وهي خطورة ليست قاصرة على الإيطاليين وحدهم، بل على جميع الأجانب مما دفعهم لمغادرة البلاد.
5- إن الحكومة العثمانية ترسل الناقلات العسكرية لتزيد من تأزم الموقف في البلاد، الأمر الذي يدفع إيطالية لاتخاذ التدابير اللازمة ضد هذا العمل.
6- قررت الحكومة الإيطالية الإقدام على احتلال طرابلس عسكرياً؛ لأن ذلك الحل الوحيد الذي يمكن أن تقبله إيطالية.
7- تطلب الحكومة الإيطالية إصدار الأوامر للممثلين والسلطات العثمانية في الولاية بعدم مقاومة الغزو، ومن الممكن الاتفاق على تنفيذه دون أي عراقيل، وستتخذ بعده بالقرارات اللازمة لتسوية الحالة التي ستنتج عنه.
قام السفير الإيطالي بتسليم مذكرة الإنذار لرئيس الحكومة العثمانية حقي باشا؛ الذي دعا وزارته للانعقاد وبحث الأمر معها، ثم عرض الموقف على السلطات، وتضمَّن الرد العثماني إلقاء مسؤولية التخلُّف الذي شهدته الولاية على حكومات العهد السابق، ونفي وجود أي عراقيل تحول دون الفعاليات الإيطالية في الولاية، وحرصت الحكومة العثمانية على تلبية الطلبات بصورة دائمة، وأن الاحتجاجات المقدمة إليها من قبل سفارة دولة إيطالية نفذت بالكامل، وأعطيت تعليمات مشددة لولاتها العاملين في الولاية، وبينت الحكومة التركية أنه لا مانع لديها من العمل على تقديم امتيازات اقتصادية واسعة لدولة إيطالية في ولاية طرابلس الغرب، ومع هذا كله، فقد ادعت الحكومة الإيطالية أن رد الحكومة العثماني تأخَّر، فأعلنت الحرب على ليبية، علماً بأن بوارجها الحربية تحاصر الشواطأى الطرابلسية منذ منتصف شهر أيلول (سبتمبر)؛ أي: قبل إرسال الإنذار إلى الحكومة العثمانية بثلاثة عشر يوماً، ولهذا كلفت بارجاتها بقصف السراي الحمراء الكائنة في مدينة طرابلس، وكانت الأساطيل البحرية تقصف في مدينة طرابلس.

مراجع البحث:

1.علي محمد محمد الصلابي، مِنْ أَعْلَامِ التَّصَوُّفِ السُّنِّيِّ: 7سيرة الزعيم أحمد الشريف السنوسي،دار الروضة،اسطنبول،1438ه،2017م ص(34:42)
2.محمود عامر تاريخ ليبيا المعاصر، جامعة دمشق،1992،ص(50).
3.شارل فيرو، الحوليات الليبية من الفتح العربي حتى الغزو الإيطالي، ترجمة:محمد عبد الكريم الوافي، مطبوعات جامعة قاريونس، ينغازي،1994،ص(51)
4. محمد فؤاد شكري، السنوسية دين ودولة، دار الفكر، 1948، ص(115).
5. جهاد الأبطال في طرابلس الغرب، الطاهر أحمد الزاوي، ط 3، بيروت: دار الفتح للطباعة والنشر، 1962،ص(14-15)


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022