الجهاد في طرابلس وفزان عقب الغزو الإيطالي على ليبيا
بقلم: الدكتور علي محمّد الصلابي
الحلقة الخامسة
ربيع الأول 1441 ه/ نوفمبر 2019
رغم ضالة وضعف الإمكانات العسكرية لولاية طرابلس، فقد تبنَّتْ مدفعيتا القلعتين (السلطنة والحميدية) الرد على القصف لتغطية انسحاب الحامية العثمانية والمجاهدين إلى الداخل، وبصعوبة بالغة استمرت مدفعية الولاية تناوش الإيطاليين حتى الثالث من شهر تشرين الأول، وتحسُّباً من تعريض الجاليات الإيطالية للأذى وعدم تعرض قواتهم لأي خطر مفاجأى، تأخَّر الإيطاليون في عملية الإنزال البري حتى الخامس من الشهر نفسه.
وأصدر قائد الحملة الجنرال (كارلو كانيفا) بياناً باللغة العربية يخاطب سكان طرابلس، جاء فيه: «ماذا يصدكم عن القدوم إلينا؟ أما يهمكم رعي مواشيكم وتعاطي تجارتكم امنين؟ نحن أصحاب دين من أهل الكتاب وأحرار، واعلموا أن دولة إيطالية المعظمة قد أصبحت لكم بمقام الوالد بعد أن أخذت أمكم وهي طرابلس الغرب، فاقدموا إلينا بلا خوف، وبكمال الأمان، ونحن نؤكِّد أنه ليس من يؤذيكم وما من يسيء إليكم أو يضركم بأدنى شيء، فإن المال لا يذكر، واعلموا أن كل من يأتي إلينا ببارودته مع المهمات نحسن إليه بعشرين فرنكاً مع كيس قمح أو شعير كيفما شاء، أما رؤساؤكم الدينيون والسياسيون؛ فإن الحكومة الإيطالية تقبلهم وتؤيدهم بالصفة التي كانوا عليها قبلاً، بل يعين لهم رواتب ومعاشات، وناهيكم أن الكلام واحد والله سبحانه وتعالى كريم، فاطلبوا إليه عز وجل أن يفتح عيون عقولكم لتعرفوا الحق وهو يخلصكم».
ولم يكتفِ الجنرال كارلو كانيفا به، بل أصدر عدة بيانات منها:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على كافة الأنبياء، وصلى الله عليهم وسلم أجمعين.
يأمر ملك إيطالية المعظم فكتور عموئيل الثالث نصره الله، وزاد مجده أنا الجنرال كارلوس كافينا قائد العساكر الإيطالية الموكل إليه محو الحكومة التركية من طرابلس، وبرقة، والمقاطعات التابعة لها، بناءً عليه أعلن للشعوب بأجمعهم القاطنين في المقاطعات المنوه عنها من شاطأى البحر إلى اخره والحدود الداخلية الذين يملكون بيوتاً في المدن، وبساتين وحقولاً ومراعي حول المدن نفسها، أو بعيداً عنها، ما يلي:
إن العساكر الخاضعة لأمري لم يرسلها جلالة ملك إيطالية حماه الله لإضعاف واستعباد سكان طرابلس، وبرقة، وفزان، والبلاد الأخرى التابعة لها التي لا توجد الان تحت سيادة الأتراك، بل لتعيد إليهم حقوقهم، وتقتصّ من المعتدين عليهم، وتجعلهم أحراراً يحكمون أنفسهم، وتحميهم من كل من يعتدي عليهم؛ سواء كان من الأتراك أو أي شخص كان يريد استرقاقهم، وعليه فأنتم يا سكان طرابلس وبرقة وفزان والبلاد الأخرى التابعة لها من الان سيحكمكم رؤساء منكم موكل إليهم أن يقضوا بينكم بالعدل والرأفة، عملاً بقوله تعالى: [النساء: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النِّسَاء: 58]، وستكون هذه الأحكام تحت حماية ورعاية ملك إيطالية السامي حرسه الله، واعلموا أن ستبقى الشرائع الدينية والمدنية محترمة، ويحترم الأشخاص والأملاك والنساء والحقوق وجميع الامتيازات المختصة بأماكن العبادة والبر؛ لأن غاية أعمال الرؤساء يجب أن تكون واحدة؛ وهي تحسين حالتكم، والعمل على استتباب راحتكم، ويجب أن يكون ذلك مطابقاً للشريعة الغراء، والسنة المحمدية السمحاء، وسيقضى بينكم بالعدل طبقاً للشريعة الغراء، وحسب أوامرها بوساطة قضاة اشتهروا بثقافتهم في الشرع، ذوي استقامة وسيرة حميدة، كما أنه لا نغض الطرف عمن يظلم من الرؤساء، ولا نغفر غشاً أو خداعاً من أحد من القضاة، فالكتاب والسنة فقط تقضي عليكم، واعلموا جيداً أنه لا تؤخذ منكم ضرائب لتصرف خارجاً عن بلادكم، والضرائب التي توجد الان عليكم، ننظر فيها وتنقضي أو تلغى كما يقتضي العدل، واعلموا جيداً أنه لا يدعى أحد منكم للخدمة العسكرية، بالرغم عن إرادته، وفقط يقبل بها أولئك الذين يرغبون بالانضمام تحت اللواء الإيطالي باختيارهم؛ لأجل حماية النفوس والأملاك، ولكي يتكفلوا للبلاد السلم والنجاح، وأما الاخرون فيبقون في بيوتهم منعكفين على العمل في الحقول ورعاية المواشي، أو معاطاة التجارة، والصناعة، والحرف الضرورية، لقيام الحياة، وعلى هذا فكل امرأى يمكنه الصلاة في معبده حسب تعليم دينه، ويلزمكم أن تتضرعوا لله عز وجل أن يرفع مجد الشعب الإيطالي، ومجد ملكه، لأنه أخذكم تحت ظل حمايته، والإيطاليون يرمون بأن يكون اسمهم مهاباً من جميع أعدائكم، وأما منكم فقط، فيكون محبوباً ومباركاً.
وبناءً عليه وحسبما خولني جلالة ملك إيطالية العادل المنصور وحكومته، أعلنتكم بما تقدم، وسيجري مفعوله من هذا اليوم من شهر شوال سنة (1329 هـ)، ليبقى كأساس للعلاقات المستقبلية التي ستوجه بين الحامية والمجتمعين، وبين الإيطاليين وسكان هذه البلاد، والتي واثق بأنكم تقبلون هذا المنشور بسرور قلبي، لأنه سيكون قانوناً يجب أن يحفظ بأمانة، واستقامة ضمير، وشهامة من كلا الطرفين، وإذا وجد من لا يحترم الشرائع ولا يعتبر الأشخاص أو يمس حرمة النساء، أو يخترق حرمة الملك، أو يقاوم، أو يثور على إرادة العناية الإلـهية التي أرسلت إيطالية إلى هذا البلاد، وباسمها صدرت لي هذه الأوامر قبلها ممن يمتلك حق الأمر، فسيكون الانتقام منه عظيماً، وسأحافظ على تنفيذها بالقوة الموكلة لعهدتي لنبراس العدل والحق، فيا سكان طرابلس، وبرقة، والمقاطعات التابعة لها: اذكروا الله، قد قال في كتابه العزيز: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المُمتَحنَة: 8]، وقد جاء أيضاً:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} [الأنفَال: 61]، [الأنبياء: 105] أي: الذين يصلحون {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبيَاء: 105].
وللأسف الشديد كان كاتب هذا المقال شيخاً من العلماء المحسوبين على الأزهر الشريف، وكتب ذلك مقابل عرض من الدنيا زائل، ولقد تأثر بهذا المنشور من لا عقيدة واضحة في ذهنه، وممن لا يعرف ضروريات ديننا الإسلامي العظيم، وغاب عنه حقيقة الصراع بين عقيدة التوحيد الصافية النقية، وبين عقائد النصرانية الفاسدة، بأنواعها المتعددة.
لقد لجأت إيطالية إلى المكر والخداع، وبثت الفرقة بين أهالي ليبية، والأتراك المساندين لهم، ودعت إلى الانفصال عن العثمانيين عن طريق المنشورات، وكانت الطائرات الإيطالية تلقيها على المعسكرات العربية، سارع أهالي ليبية لإثبات ولائهم للدولة، وأرسلوا برقية للحكومة في الآستانة نقلتها بالنص جريدة (صباح) التركية، جاء فيها: «نحن العرب أبناء هذا الوطن العثماني المقدس، نفديه بالمهج ولا ننفصل عنه، ولو أراد هو الانفصال عنا، وإنا لمدينون في حياتنا القومية واتحادنا للجنود العثمانيين وضباطهم البواسل، على أن ما نبذله وما سنبذله أيضاً من المهج والمال في الذبِّ عن حوضنا لم نبذله طوعاً لأوامر إخواننا الجنود، بل رغبة بالاحتفاظ بكياننا، وإننا نجلُّ هذه الرغبة، لأنها كانت سبباً في شد أواصر الأخوة بيننا وبين إخواننا العثمانيين، فلهذا نعلن لحكومة الآستانة وسائر إخواننا العثمانيين أننا مستعدون لبيع أرواحنا وأرواح أبنائنا على بساط هذه السهول، والرمال المحرقة، دفاعاً عن بلادكم التي هي بلادنا؛ لأننا متأهِّبون للموت حتى لا يبقى منا فرد، والله لا يهدي كيد الخائنين».
ولقد فاخرت جريدة (طنين) التركية بهذه البطولات التي تتفجر من العرب في حرب طرابلس، مشيرة إلى أن: «إخواننا العرب فعلوا المعجزات، فبيضوا صفحة تاريخنا، وعَجْزُ إيطالية في الحال وفي الاستقبال بات أمراً محققاً، ... وبعدما حالف النصر العرب الذين أبلوا بلاء حسناً، ...فلتعلم أوروبة هذا، والسلام».
إن السلطان عبد الحميد الثاني كان يدرك مدى الولاء الذي يحمله العرب في طرابلس للدولة العثمانية، وفي مقدمتهم السيد أحمد الشريف السنوسي، لهذا كان متفائلاً جداً في تصريحه الصحفي الذي أدلى به لمجلة (نور إندسون) الألمانية، وأكد فيه أن الإيطاليين سيجدون مقاومة عنيفة من قبل السنوسيين وأتباعهم، وستكون خسائرهم فادحة وحساباتهم خاطئة؛ لأن العرب هناك لن يسلموا طرابلس بسهولة، وأن الدولة قد أمَّنت لهم ما يكفيهم من البنادق والمدافع؛ لكي يقووا على المقاومة والدفاع عن وطنهم، وهذا القول هو ما أكَّده السفير البريطاني في الآستانة السير جيرارد لوثر في التقرير السنوي لسنة (1912 م) الذي بعثه لوزير خارجيته في 17 أبريل (1913 م).
مراجع البحث:
1.علي محمد محمد الصلابي، مِنْ أَعْلَامِ التَّصَوُّفِ السُّنِّيِّ: 7سيرة الزعيم أحمد الشريف السنوسي،دار الروضة،اسطنبول،1438ه،2017م ص(47:42)
2.محمود عامر تاريخ ليبيا المعاصر، جامعة دمشق،1992،ص(52).
3. جريدة المقطم، عدد (6941)، في 9 صفر 1330ه الموافق ل./29/01/1912
4. جريدة الأهرام، عدد (10613)، في 21 صفر 1331ه الموافق ل 30-01-1913