تمَّ الاتفاق بين صلاح الدين، وباليان على تسليم المدينة وفقاً للشروط التي ذكرناها، ودخلها صلاح الدين: يوم الجمعة في 27 رجب 583 هـ وذلك بعد أن أعطى بالباب الأوامر لحاميتها بإلقاء السِّلاح، والاستسلام لجند المسلمين، وكان يوماً مشهوداً ورفعت الأعلام الإسلاميَّة على أسوار المدينة المقدَّسة. وقد استمرَّ حصار صلاح الدين للمدينة اثني عشر يوماً. وبسقوط القدس انهارت أمام صلاح الدين معظم المدن، والمواقع التي كانت لا تزال تحت سيطرة الصَّليبيين في معظم أنحاء بلاد الشام، ودخل صلاح الدين القدس في 27 رجب وكانت ليلة الإسراء سنة 583 هـ، الموافق فيه 2 أكتوبر سنة 1187م
أولا: منبر نور الدين في بيت المقدس:
كان الملك العادل نور الدين محمود زنكي ـ رحمه الله ـ في عهده قد عَرفَ بنور فراسته فتح البيت المقدَّس من بعده، فأمر في حلب باتخاذ منبرٍ للقدس، تَعِبَ النَّجارون، والصُّنَّاع، والمهندسون فيه سنين، وأبدعوا في تركيبه الإحكام، والتَّزيين، وأنفق في إبداع محاسنه، وإبداء مزاينه أُلوفاً، وكان لتردديد النَّظر فيه على الأيام أَلُوفاً، وبقي ذلك المنبر بجامع حلب منصوباً، سيفاً في صِوان الحِفظ مقروباً، حتى أمر السُّلطان في هذا الوقت بالوفاء بالنَّذر النُّوريِّ، ونَقْلِ المنبر إلى موضعه القُدْسيِّ، فَعُرفت بذلك كرامات نور الدين؛ التي أشرق نورُها بعده سنين، وكان من المحسنين؛ الذي قال الله فيهم: ﴿وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ١٣٤ ﴾ [آل عمران:134] .
وفي رواية للعماد الأصفاني: ولم يزل لنور الدين في قلبه من الدِّين نور، وأثر تقواه للمتقين مأثور، أزهد العبَّاد، وأعبد الزُّهاد، ومن الأولياء الأبرار، والأتقياء الأخيار، وقد نظر بنور الفراسة: أن الفتح قريبٌ، وأنَّ الله لدعائه ـ ولو بعد وفاته ـ مجيب، ويزيد قو ة عزمه جِدَّاً، ويَمدُّه بالحياة الربانية مدَّاً، قد طهَّره الله من العَيْب، وأطلعه على سِرِّ الغيب، ونز هه من الرَّيب لنقاء الجيب، وشملت الإسلام بعده بركته، خُتمت بافتتحاح مُلك صلاح الدين مملكته، وهو الذي رَبَّاه، ولَبَّاه، وأحبَّه، وحباه، وهو الذي سنَّ الفتح، وسنَّى النُّجح، واتفق أنَّ جامع حلب في الأيام النُّورية احترق، فاحتيج إلى منبرٍ يُنصب فَنُصِب ذلك المنبر، وحسن المنظر، وتولى حينئذ النجار عمل المحارب على الرَّقم، وشابه المحراب المنبر في الرَّسم، ومن رأى حلب الان شاهد منه على مثال المنبر القُدْسيِّ الإحسان، ولما فتح السُّلطان القدس؛ تقدَّم بحمله، وصَحَّ به في محراب الأقصى اجتماعُ شَمْلِهِ، وظهر سرُّ الكرامة في فوز الإسلام بالسَّلامة، وتناصرت الألسن بالدُّعاء لنور الدين بالرَّحمة، ولصلاح الدين بالنُّصْرَة، والنِّعمة.( المقدسي، 1997، ج3، ص393)
ويدل هذا العمل على مدى إخلاص صلاح الدين لنور الدين محمود زنكي؛ الَّذي بذل الكثير لتحقيق الوحدة الإسلاميـة، تمهيداً لاقتلاع الوجـود الصَّليبي في بلاد الشـام، كما أن ذلك يدلُّ على أنَّ صلاح الدين عندما قضى على دولة الزنكيين ـ التي سادها الضَّعف، والوهن عقب وفاة نور الدين محمـود، وتولَّى ابنه الصغير الملك الصالح إسماعيل ـ لم يكن يقصد بذلك سوى مواصلة المسيرة، والاستعداد للجهاد ضدَّ الصليبيين؛ لإزالتهم، واسترداد بيت المقدس.( الشامي،1991 ص223)
ثانيا: إصلاحات صلاح الدين في بيت المقدس:
قام صلاح الدين بإزالة ما استحدثه الصَّليبيون من الأبنية، والأسوار في بيت المقدس، فقد قام فرسان الدَّاوية غربي المسجد الأقصى أبنية للسكنى، وأدخلوا بعض الأقصى في أبنيتهم، وبنوا على وجه المحراب جداراً، وتركوه مخزناً للغلَّة، وقيل اتخذوه مستراحاً قاصدين بذلك طعن الإسلام، والمسلمين كما بنوا على الصَّخرة في بيت المقدس كنيسةً، وستروها بالأبنية، وملؤوها بالصُّور، ونصبوا عليها مذبحاً، وعيَّنوا بها مواضع الرُّهبان، كما أقاموا على رأس قبة الصخرة صليباً كبيراً، وغير ذلك؛ حتى غيَّروا معالمها. وقام الطَّامعون منهم بقطع قطع منها، وبيعها في أسواق القسطنطينية، وجزيرة صقلية بوزنها ذهباً، فلمَّا كان يوم الجمعة الرابع من شعبان 583 هـ/9 أكتوبر 1187 م وهي الجمعة التالية للجمعة التي دخل فيها المسلمون بيت المقدس، أمر صلاح الدين بإزالة ما استحدثه الصّليبيون من الأبنية، والأسوار، وكشف الجدار الساتر للمحراب، كما أمر بإزالة ما استحدثوه على قبَّة الصخرة المقدَّسة من مبانٍ، وصور، ثم أمر الفقيه ضياء الدين الهكَّاري بأن يكون أميناً عليها، وأدار عليها شبابيك من حديد..( الشامي،1991 ص223)
أما بالنسبة للصَّليب الذَّهبي الذي أقامه الصَّليبيون على قبة الصَّخرة، فيذكر ابن واصل: أنَّ المسلمين ما أن دخلوا البلد حتى تسلَّق جماعةٌ منهم إلى أعلى القبة، واقتلعوا الصليب، الذي سقط، وعند ذلك؛ صاح الناس كلهم صوتاً واحداً، من البلد ومن ظاهره. المسلمون، والفرنج، أما المسلمون فكبروا فرحاً، وأما الفرنج فصاحوا توجعاً، وتفجعاً..( الشامي،1991 ص222)
ولما فرغ صلاح الدين من إزالة ما استحدثه الصَّليبيون داخل بيت المقدس بدأ بعمارة المسجد الأقصى، فبذل جهداً كبيراً في تحسينه، وترصيفه وتدقيق نقوشه، فأحضر له من الرُّخام مالا يوجد مثله، ومن الفصِّ المذهب القسطنطيني، وغير ذلك من المواد للتزيين مالا يمكن وصفه، وشرع في عمارته، وتزيينه، وإزالة ما على جدرانه من الصُّور، والتماثيل وخصَّ صلاح الدين المحراب باهتمام كبيرٍ، فعمل على ترخيمه، وتزيينه، وتقدَّم السلطان في المسجد الأقصى ببسط العراص، وإخلائها لأهل الإخلاص، وتنظيفها من الأدناس، وكنس ما في أرجائها من الأرجاس، وأحضر الملك المظفر تقي الدين عمر إلى قبة الصخرة أحمالاً من ماء الورد، وتولَّى بيده كنس ساحتها، وعراصها، ثمَّ غسلها بالماء مراراً؛ حتى تطهَّرت، ثمَّ أفاض عليها ماء الورد، وطهر حيطانها، وغسل جدرانها، ثم بخَّرها بمجامر الطِّيب.
وجاء الملك الأفضل نور الدين علي بن صلاح الدين؛ بكل نور جليٍّ، وكرمٍ مليٍّ، وبسط بها الضيعة، وفرش فيها البسط الرفيعة. كما قام المسلمون بكنس عراص المسجد، وتنظيفها، ثم فرشها بالبسط عوض الحصر، والبواري، وعلقت القناديل، وصفت السَّجادات..( الشامي،1991 ص224)
وبعد أن أنهى صلاح الدين تطهير بيت المقدس ممَّا علق به من اثار الصليبيين؛ رتب في المسجد الأقصى، وقبَّة الصخرة، وغيرها من المساجد داخل بيت المقدس الخطباء، والأئمة، والمؤذنين، والقومة، وأحضر إليها المصاحف، والربعات؛ كما قام صلاح الدين بإنشاء المدارس، والأربطة، فجعل كنيسةً مدرسةً للفقهاء الشَّافعية، وعيَّن دار البطريك رباطاً للفقراء، وأوقف على ذلك أوقافاً جليلةً..( الشامي،1991 ص224)
وكان لاسترجاع صلاح الدين لبيت المقدس من أيدي الصَّليبيين أهميةٌ خاصَّةٌ بالنسبة لصلاح الدين، ومكانة بين أبطال المسلمين؛ حتى إنَّه يمكن القول: أنَّه إذا كان الخليفة الرَّاشد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قد طهَّر بيت المقدس من براثن الرُّوم في السنة الخامسة عشرة للهجرة، فإنَّ صلاح الدين أعاد تلك الذكرى في القرن السَّادس الهجري بعد أن تعرض بيت المقدس لذلك الاعتداء الصَّليبي؛ الذي استمرَّ ما يقارب المئة عام، ووضع صلاح الدين بذلك العمل الجليل الأساس لمن بعدهم من سلاطين المسلمين للقضاء على بقايا الصَّليبيين في بلاد الشام..( الشامي،1991 ص225)
ملاحظة هامة:
استند هذا المقال بشكل كبير على كتاب ” صلاح الدين والصليبيون (تاريخ الدولة الأيوبية)” للكاتب أحمد الشامي
_____________________________________________________
مراجع البحث:
علي محمد الصلابي، صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس، دار المعرفة، بيروت، 1429ه-2008صص 446-448
ابي شامة شهاب الدين المقدسي، عيون الروضتين في اخبار الدولتين النورية والصلاحية، تحقيق: ابراهيم الزيبق، منشورات وزارة الثقافة، دمشق ،1418-1997
أحمد الشامي، صلاح الدين والصليبيون تاريخ الدولة الأيوبية، مكتبة النهضة العربية، القاهرة.1411ه-1991م
جمال الدين محمد بن سالم بن واصل.مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، (د.ت)