السبت

1446-06-27

|

2024-12-28

(حضور النساء إلى المساجد)

اقتباسات من كتاب " فقه الصلاة" للدكتور يوسف عبد الله القرضاوي (رحمه الله)

الحلقة: السادسة والستون

رجب ١٤٤٤ه/ فبراير ٢٠٢٣م

 

المرأة في العهد النبوي حضرت المسجد بل أقامت فيه، وبلغت الآثار التي نقلت ذلك حد الاستفاضة، ولذلك لا يقبل في منطق الإسلام أن تُحبس المرأة في البيت، وتُحرَم من العبادة الجماعية في بيوت الله.

يقول الأستاذ عبد الحليم أبو شقة- رحمه الله - في كتابه القيم «تحرير المرأة في عصر الرسالة»:

«إن المسجد هو المؤسسة الأولى في المجتمع المسلم، فهو مركز العبادة أولا، ومركز العلم ثانيا، ومركز النشاط الاجتماعي والسياسي ثالثًا. ثم هو قاعة الاجتماعات العامة وساحة الرياضة عند الحاجة.

لهذه العوامل مجتمعة كان يفسح المجال للمرأة في العهد النبوي لتغشى المسجد كلما تيسر لها ذلك. وكان ترددها على المسجد بين حين وآخر يجعلها ترتبط مباشرة بحياة المسلمين العامة. ففضلًا عن مشاركتها في العبادة وسماع القرآن يتلى في الصلاة، فإنها تستمع لدروس العلم، وكلمات التوجيه العامة. وتعرف شيئا من أخبار المسلمين الاجتماعية والسياسية. وفوق كل هذا تتعرف على أخواتها المؤمنات، وتتوثق علاقات الصداقة والمودة، وهذا يعني أن المسجد كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مركز إشعاع عبادي وثقافي واجتماعي للرجل والمرأة على السواء.

ولا يجوز لأحد سلْبُ حقِّها في غشيان المسجد، إذ إجبارها على الصلاة في البيت بدعوى أنها أفضل فيه اقتراف معصية، إذ هو مخالفة لنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن منع النساء المساجد.

وإن قصدت المرأة بغشيان المسجد سماع القرآن، أو سماع العظة، أو حضور اجتماع عام، أو لقاء المؤمنات لتوثيق عرى المودة، أو للتعاون على معروف، فهي وما قصدت من خير. وهذا الخير قد يكون مندوبًا وقد يكون واجبًا.

وفي هذا المعنى يقول ابن دقيق العيد في شرحه لحديث: "صلاة رجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسًا وعشرين ضعفًا، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه. ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة".

قال: «قد قدَّمنا أن الأوصاف التي يمكن اعتبارها لا تُلغَى، فلينظر الأوصاف المذكورة في الحديث، وما يمكن أن يُجعل معتبرًا منها وما لا. أما وصف الرجولية: فحيث يندب للمرأة الخروج إلى المسجد، ينبغي أن تتساوى مع الرجل؛ لأن وصف الرجولية بالنسبة إلى ثواب الأعمال غير معتبر شرعًا».

وإن غشيان المرأة المسلمة المسجد لم يقتصر على مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لفضيلته، بل قد امتدَّ إلى مساجد الأحياء في أطراف المدينة وخارج المدينة وهذه بعض الشواهد:

عن عبد الله بن عمر أنه قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح، إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُنْزل عليه الليلة قرآن، وقد أُمِر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها. وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة.

قال الحافظ في الفتح: ووقع بيان كيفية التحول في حديث ثُويلة بنت أسلم عند ابن أبي حاتم، وقالت فيه: فتحول النساء مكان الرجال، والرجال مكان النساء، فصلينا السَّجدتين الباقيتين إلى البيت الحرام.

عن عمرو بن سلمة قال: جئتكم - والله - من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقًّا فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنا. فنظروا، فلم يكن أحد أكثر قرآنا منِّي، لِمَا كنتُ أتلقَّى من الركبان، فقدَّموني بين أيديهم، وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت عليَّ بُردة، كنت إذا سجدتُ تقلَّصت عني، فقالت امرأة من الحي: ألَا تُغطُّوا عنا استَ قارئكم! فاشتروا، فقطعوا لي قميصًا، فما فرحتُ بشيء فرحي بذلك القميص.

وقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تأكيد حق المرأة في غشيان المسجد، وصيانة هذا الحق من أي عدوان:

فعن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد، فأْذنوا لهن".

وعن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد. وفي رواية: "لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنَّكم إليها". قال: فقال بلال بن عبد الله: والله لنمنعهن. قال: فأقبل عليه عبد الله، فسبه سبًّا سيئًا ما سمعته سبَّه مثله قط، وقال: أُخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: والله لنمنعهن!

وقال ابن دقيق العيد: «وأُخذ من إنكار عبد الله بن عمر على ولده وسبِّه إياه: تأديبُ المعترض على السنن برأيه، وعلى العالم بهواه».

وهذا كله يؤكِّد حقَّ المرأة المسلمة في أن يكون لها مكانٌ في بيوت الله، لا يحل لأحد منعها منه، ولو كان زوجها أو أباها؛ لأن الشارع هو الذي منحها هذا الحق، فلا يجوز لأحد أن يسلبه منها.

وإذا كان المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مركز إشعاع عبادي وثقافي واجتماعي وسياسي- كما سبق أن قلنا– فليس عجبا أن نرى المرأة المسلمة تؤمُّ هذا المسجد المبارك، لاثني عشر داعيا من الدواعي المشروعة، سواء كانت مباحة أو مندوبة أو واجبة».

وقد ذكر الأستاذ أبو شقة هذه الدواعي الاثنتي عشرة بالتفصيل، وأهمها: صلاة الفريضة، وصلاة النافلة، والاعتكاف، وسماع العلم، وتلبية الدعوة لاجتماع عام، وخدمة المسجد... وغيرها.

«وفي أداء الصلاة نجد أن المرأة في عصر النبوة كانت تحضر إلى المسجد في صلاة الفجر وصلاة العشاء، رغم عدم وجود مصابيح في الطرقات، وأن الطرق لم تكن ممهدة في ذلك الزمن، ورغم وجود المنافقين والمرجفين والذين في قلوبهم مرض في المدينة.

عن عائشة رضي الله عنها قالت: كُنَّ النساءُ يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفِّعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغَلَس.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعشاء، حتى ناداه عمر: الصلاة، نام النساء والصبيان. فخرج فقال: ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم. قال: ولا يصلَّى يومئذ إلا بالمدينة، وكانوا يصلون فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول.

وعن ابن عمر قال: كانت امرأة لعمر تشهد صلاة الصبح والعشاء في الجماعة في المسجد.

وعن جابر بن عبد الله قال: بينما نحن نصلي (أي صلاة الجمعة) مع النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أقبلت عِير تحمل طعامًا، فالتفتوا إليها، حتى ما بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلًا، فنزلت هذه الآية: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة:11].

قال الحافظ في الفتح: ووقع في تفسير الطبري وابن أبي حاتم بإسناد صحيح إلى أبي قتادة، قال: قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كم أنتم؟" فعدوا أنفسهم، فإذا هم اثنا عشر رجلًا وامرأة.

وعن عَمْرَة بنت عبد الرحمن عن أختٍ لعمرة قالت: أخذت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} من في رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، وهو يقرأ بها على المنبر في كل جمعة.

بل وردت أحاديثُ صحاح عن تنفُّل النساء في المساجد، وخصوصًا صلاة التراويح في شهر رمضان.

قال الحافظ في الفتح: وروى سعيد بن منصور من طريق عروة: أن عمر جمع الناس (في قيام الليل في رمضان) على أبيِّ بن كعب، فكان يصلي بالرجال.

وكان تميم الداري يصلِّي بالنساء.

وأورد النووي في «المجموع» عن عرفجة الثقفي قال: كان عليُّ بن أبي طالب يأمر الناس بقيام شهر رمضان، ويجعل للرجال إمامًا، وللنساء إمام، فكنتُ أنا إمام النساء».

أقول: لعلَّ المسجد لم يكن يتسع للجميع، لكثرة النساء، أو لضيق المسجد، وإلَّا فالأصل أنَّ المسجد للجنسين.

وبعد نصوص وفيرة ذكرها الأستاذ أبو شقة، عقَّب على ذلك فقال:

«بعد هذا الاستعراض لمشاهد غشيان المرأة المسجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ينبغي أن نقف ونتأمل مُعَلِّمنا ومعلِّمَ الناس الخير رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يؤخر العشاء، وفي ذلك فضيلة، ولكن حين يسمع: "نام النساء والصبيان" يخرج للصلاة، رعاية لحال النساء والصبيان... يدخل في الصلاة يريد إطالتها وفي ذلك خير، ولكنه حين يسمع بكاء الصبي، يتجوز في صلاته، كراهية لأن يشق على أمه.

وهكذا كانت سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم حكيمة رحيمة، ثم إنه رغم وقوع حادث اغتصاب امرأة مسلمة، وهي تؤمُّ المسجد في صلاة الفجر، لم يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم أي قول فيه تضييق على المرأة في الذهاب إلى للمسجد ساعة الفجر، وهي ساعة حرجة، كيلا تُحرم من قرآن الفجر، كما لم يصدر منه أي تحريج على المرأة في حمل طفلها معها للمسجد، لاحتمال ألا يكون هناك من يرعاه في غيابها. كما أن هذا يرشدنا إلى أنه مع التسليم بأن للمرأة قدرًا من التميُّز عن الرجال، فينبغي أن تظل أبواب المساجد مفتوحة لاستقبال النساء، كما هي مفتوحة لاستقبال الرجال. ولا يزعمَنَّ أحد أنه أغير على أعراض المسلمين وأغير على دين الله من رسول صلى الله عليه وسلم. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع غيرته على أعراض المسلمين أن تنتهك، يغار على عقول النساء وقلوبهن أن تضمر وأن تذبل.

هل المرأة الآن أقل حاجة من الصحابيات اللاتي كُنَّ يغشين مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم للاستماع إلى القرآن في الصلاة، وللاستماع إلى العظة والعلم. إن العلماء هم ورثته. ولا يقال: يعلمهن آباؤهن وأزواجهن، فليس كل والد أو زوج بقادر على التعليم وتوجيه العظة المؤثرة. وإن قيل: فسد الزمان، قلنا: إن ذهاب المرأة للمسجد هو من وسائل علاج هذا الفساد.

إن المباح قد يصبح مندوبًا أو واجبًا في ظروف ما. وإن مجتمعنا اليوم وقد غلب عليه الانحراف في كل ما يحيط بالمرأة، في المدرسة والإذاعة المرئية والمسموعة والمجلات والعادات والتقاليد؛ لأشد حاجة إلى أن تحضر المرأة المسجد للصلوات الخمس ما استطاعت، ولصلاة الجمعة، ثم لكل فرصة فيها درس أو توجيه، كذلك تحضر لصلاة التراويح حيث الركعات الطويلة الحسنة.

وما أجمل سماع القرآن خلال القيام الطويل! إنه لا بد من غذاء عقلي وروحي لتحصين المرأة ضد الأغذية الفاسدة. لا بد من جو عام فاضل طاهر تعيش فيه لحظات مقابل الأجواء الموبوءة. لا بد من تعارفٍ وتلاقٍ مع الصالحات القانتات، مقابل الإمَّعات الغافلات، والكاسيات العاريات، والمائلات المميلات.

كما أن حديث: "لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد" يلفتنا إلى أمر هام. ذلك أنه إن كانت صلاة المرأة في المسجد من باب المباح، أي من حقها أن تأخذ به وتدعه. فإن الحديث يتضمن شيئًا آخر بشأن والد المرأة أو زوجها، فرغم ما أعطى الشرع الوالد والزوج من الولاية على المرأة؛ قد حظر عليهما منعها حظَّها من المسجد.

 

هذه الحلقة مقتبسة من كتاب فقه الصلاة للدكتور يوسف عبد الله القرضاوي (رحمه الله) صص154-148


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022