السبت

1446-06-27

|

2024-12-28

(دخول الجنب والحائض المسجد)

اقتباسات من كتاب " فقه الصلاة" للدكتور يوسف عبد الله القرضاوي (رحمه الله)

الحلقة: الخامسة والستون

رجب ١٤٤٤ه/ يناير ٢٠٢٣م

 

اختلف الفقهاء كثيرًا في لبث الجنب والحائض في المسجد، بلا وضوء، لقوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43]. ومعنى «عابري السبيل»: أي مجتاز الطريق.

وأجاز الحنابلة اللُّبث للجنب في المسجد إذا توضأ، لما روى أبو سعيد بن منصور والأثرم عن عطاء بن يسار قال: رأيت رجالًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مُجنِبون، إذا توضؤوا وضوء الصلاة.

وهناك من الفقهاء من أجازوا للجنب - وكذلك للحائض والنفساء - اللبث في المسجد، بوضوء أو بغير وضوء؛ لأنه لم يثبت في ذلك حديث صحيح، وحديث: "إنِّي لا أحل المسجد لحائض ولا جُنب" ضعَّفوه، ولا يوجد ما ينهض دليلًا على التحريم، فيبقى الأمر على البراءة الأصلية. وإلى هذا ذهب الإمام أحمد والمزني وأبو داود وابن المنذر وابن حزم، واستدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين وغيرهما: "المسلم لا ينجس". وكذلك قياس الجنب على المشرك، فقد أجيز للمشرك وغير المسلم دخول المسجد، فالمسلم الجنب أولى.

وأنا أميل إلى هذا اتباعًا للأدلة، وجريًا على منهجنا في التيسير والتخفيف، وخصوصًا على الحائض، فإنها أولى بالتخفيف من الجنب؛ لأن الجنابة يجلبها الإنسان باختياره، ويمكنه دفعها وإزالتها باختياره، أي بالغسل.

بخلاف الحيض، فقد كتبه الله على بنات آدم، فلا تملك المرأة أن تمنعه، ولا أن تدفعه قبل أوانه، فهي أولى بالعذر من الجنب. وبعض النساء يحتجْن إلى المسجد لحضور درس أو محاضرة أو نحو ذلك، فلا تُمنع منه.

وكثيرًا ما سألتني أخوات مسلمات يُرِدْن شهود بعض المحاضرات والدروس في المساجد، فكنت أفتيهن بالمنع، عملًا بقول جمهور الفقهاء، ولِمَا حفظتُه من قديم من حديث: "لا أحل المسجد لحائض ولا جنب". فضيَّقت عليهن في أمرٍ فيه سعة، حتى نظرتُ إلى النصوص الصحيحة الثبوت الصريحة الدلالة. فالحمد الله، قد وجدتُ في هذه النصوص توسعة وتيسيرًا على المسلمين.

قال ابن حزم في «المحلى»: وجائز للحائض والنفساء أن يدخلا المسجد، وكذلك الجُنُب؛ لأنه لم يأت نهي عن شيء من ذلك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن لا ينجس".

وقد كان أهل الصُّفَّة يبيتون في المسجد بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم جماعة كثيرة، ولا شك أن فيهم من يحتلم، فما نهوا عن ذلك.

كما استدل ابن حزم بما رواه البخاري من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: أن وليدة سوداء كانت لحي من العرب: فأعتقوها، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، فكان لها خباء في المسجد أو حَفْش.

قال أبو محمد بن حزم: فهذه امرأة ساكنة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعهود من النساء الحَيْض. فما منعها عليه السلام من ذلك، ولا نهى عنه. وكل ما لم ينهَ عنه عليه السلام فمباح.

قال: ولو كان دخول المسجد لا يجوز للحائض، لأخبر بذلك عليه السلام عائشة، إذ حاضت فلم ينهها إلا عن الطواف بالبيت فقط، ومن الباطل المتيقَّن أن يكون لا يحل لها دخول المسجد، فلا ينهاها عليه السلام عن ذلك، ويقتصر على منعها من الطواف. وهذا قول المزني وداود وغيرهما.

ورد ابن حزم ما استدل به المخالفون من حديث: "لا أحل المسجد لحائض ولا جنب" بأن سنده مليء بالضعفاء والمجاهيل، فيسقط الاحتجاج به.

ومما يؤكد ما ذهب إليه ابن حزم: أن ما يُخاف من تلويث المسجد بدم الحيض لم يعد واردا في عصرنا، فقد أصبح النساء يلبسن حفَّاظات واقية في غاية الإحكام، لا تسمح بنزول قطرة دم.

 

هذه الحلقة مقتبسة من كتاب فقه الصلاة للدكتور يوسف عبد الله القرضاوي (رحمه الله) صص147-145


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022