(في مسألة دخول الكافر إلى المسجد)
اقتباسات من كتاب " فقه الصلاة" للدكتور يوسف عبد الله القرضاوي (رحمه الله)
الحلقة: الثالثة والستون
رجب 1444ه/ يناير 2023م
اتفق أهل العلم على منع الكافر غير الذِّمِّي من دخول المسجد الحرام، ودليلهم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:28]. وجوز الحنيفة دخول الذمي إلى المسجد الحرام، واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "من دخل المسجد فهو آمن". وتأولوا الآية على أنهم لا يدخلون مكة للحج لا عن دخول المسجد الحرام نفسه.
أما مساجد الحل، فقد اختلف العلماء في منع الكافرين من دخولها والمكث فيها، وسبب الخلاف تأويل ما وصف الله به الكفار في قوله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28]. وما نقل عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن أبي موسى رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه أمره أن يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في أديم واحد، وكان لأبي موسى كاتب نصراني يرفع إليه ذلك، فعجب عمر رضي الله عنه وقال: إن هذا لحافظ، وقال: إن لنا كُتَّابًا في المسجد. وكان جاء من الشام، فادعه فليقرأ. قال أبو موسى: إنه لا يستطيع أن يدخل المسجد. فقال عمر: أجنب هو؟ قال: لا، بل نصراني. قال: فانتهرني وضرب فخذي وقال: أخرجه.
وما روت أم غراب قالت: رأيت عليًّا رضي الله عنه على المنبر وبصر بمجوسي، فنزل وضربه وأخرجه من باب كِنْدة.
ويقابل هذا ما نُقل من وقائع وأحداث تثبت دخول الكفار مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، منها ما رواه البخاري في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خيلًا قِبَل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد.
ودخول ضمام بن ثعلبة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وسؤاله عنه، ودخول جبير بن المطعم بن عدي المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي المغرب ويقرأ فيها بالطور. فيقول جبير- وهو يومئذ مشرك-: فكأنما صدع قلبي لقراءة القرآن.
وحضور اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أصحابه في المسجد وسألوه عن رجل وامرأة زنيا. وكذلك إنزال سبي بني قريظة وبني النضير في المسجد النبوي.
وأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم عليه وفد أهل الطائف، فأنزلهم من المسجد قبل إسلامهم.
وقال سعيد بن المسيب: قد كان أبو سفيان يدخل مسجد المدينة وهو على شركه.
وقدم عمير بن وهب، فدخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم فيه، ليفتك به، فرزقه الله الإسلام.
ولهذه الآثار انقسم الفقهاء إلى ثلاث فئات:
فالمالكية منعوا دخول الذمي المسجد مطلقًا، وقال بعضهم: إلا لضرورة كعمارة، وإلا فلا. وحجتهم الآية الكريمة: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28]. وقالوا: الآية عامة في سائر المشركين وسائر المساجد؛ لأن العلة وهي النجاسة موجودة فيهم، والحرمة موجودة في المسجد. لقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]، ودخول الكفار فيها مناقض لترفيعها.
وقد أجابوا عن الآثار التي تثبت دخول الكفار للمسجد النبوي بأجوبة منها: أن ذلك وقائع أعيان لا عموم لها، وأن جميع هذه الوقائع حدثت قبل نزول الآية ومنع الكفار من المساجد.
وذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية إلى جواز دخول الكفار المساجد بإذن مسلم أو لعلة مقبولة، فإذا لم يأذن له المسلم في ذلك فليس له الدخول على الصحيح، فإن دخل بغير إذن عُزِّر، إلا أن يكون جاهلًا بتوقفه على الإذن، فلا يُعزَّر.
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب فقه الصلاة للدكتور يوسف عبد الله القرضاوي (رحمه الله) صص143-140