وفاة أمِّ النبي (صلى الله عليه وسلم)، وكفالة جدِّه، ثمَّ عمِّه ...
مختارات من موسوعة: السيرة النبوية والخلفاء الراشدين ..
بقلم د. علي محمد الصلابي
الحلقة (14)
توفِّيت أمُّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو ابن ستِّ سنين بالأبواء بين مكَّة والمدينة، وكانت قد قدمت به على أخواله من بني عديِّ بن النَّجار تُريه إيَّاهم، فماتت، وهي راجعةٌ به إلى مكَّة، ودفنت بالأبواء، وبعد وفاة أمِّه كفله جدُّه عبد المطَّلب، فعاش في كفالته، وكان يؤثره على أبنائه، أي: أعمام النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فقد كان جدُّه مهيباً، لا يجلس على فراشه أحدٌ من أبنائه مهابةً له، وكان أعمامه يتهيَّبون الجلوس على فراش أبيهم، وكـان صلى الله عليه وسلم يجلس على الفراش، ويحاول أعمامـه أن يُبعدوه عن فراش أبيهم، فيقف الأب الجدُّ بجانبه، ويرضى أن يبقى جالساً على فراشه متوسِّماً فيه الخير، وأنَّه سيكون له شأنٌ عظيمٌ، وكان جدُّه يحبُّه حباً عظيماً، وكان إذا أرسله في حاجةٍ جاء بها، وذات يوم أرسله في طلب إبلٍ، فاحتبس عليه، فطاف بالبيت، وهو يرتجل، يقول:
رَبِّ ردَّ راكبي محمَّدا
رُدَّه لي وَاصْنَعْ عِنْدي يَدا
فلـمَّا رجع النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ، وجـاء بالإبل، قال لـه: يا بني! لقد حزنتُ عليك كالمرأة، حزناً لا يفارقني أبداً. [البيهقي في الدلائل (2/20 - 21) والحاكم (2/603 - 604)] .
ثُمَّ توفِّي عبـد المطلب والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في الثَّامنة من عمره، فأوصى جدُّه به عمَّه أبا طالبٍ، فكفله عمُّه، وحنَّ عليه، ورعاه.
أرادت حكمة الله تعالى أن ينشأ رسولُه صلى الله عليه وسلم يتيماً، تتولاَّه عنايـة الله وحدها، بعيداً عن الذِّراع التي تُمعن في تدليله، والمال الذي يزيد في تنعيمه؛ حتَّى لا تميل به نفسه إلى مجد المال، والجاه، وحتَّى لا يتأثَّر بما حوله من معنى الصَّدارة، والزَّعامة، فيلتبس على النَّاس قداسة النُّبوَّة بجاه الدُّنيا، وحتَّى لا يحسبوه يصطنع الأوَّل ابتغاء الوصول إلى الثَّاني، وكانت المصائب الَّتي أصابت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم منذ طفولته؛ كموت أمِّه، ثمَّ جدِّه بعد أن حرم عطف الأب، وذاق كأس الحزن مرَّةً بعد مرَّةٍ، كانت تلك المحن قد جعلته رقيق القلب، مرهف الشعور، فالأحزان تصهر النُّفوس وتخلِّصها من أدران القسوة، والكِبْر، والغرور، وتجعلها أكثر رقَّةً، وتواضعاً.
وليست وفاة والديه في العشرينات من حياتهما ناشئةً عن هُزَالهما، وضعف بُنيتهما، فلم يكن محمَّد صلى الله عليه وسلم سليل أبوين سقيمين، وإنَّما توفَّاهما الله بعد أن قاما بالمهمَّة الَّتي وُجدا من أجلها؛ ليتأسَّى بمحمَّد صلى الله عليه وسلم كلُّ مَنْ فقد والديه، أو أحدَهما وهو صغير، وليكون أدبه، وخلقه مع يُتمه دليلاً على أنَّ الله تعالى تولَّى رعايته، وتأديبه؛ وحتَّى ينشأ قويَّ الإرادة، ماضي العزيمة، غير معتمدٍ على أحدٍ في شؤونه، وحتَّى لا يكون لأبويه أيُّ أثرٍ في دعوته؛ وحتَّى لا تتدخَّل يدٌ بشريةٌ في تربيته، وتوجيهه، فيكون الله - سبحانه وتعالى - هو الَّذي يتولَّى تربيته، ولا يتلقَّى، أو يتلقَّن من مفاهيم الجاهلية، وأعرافها شيئاً، إنَّما يتلقَّى من لدن الحكيم الخبير، فالله - سبحانه وتعالى - آواه، وسخَّر له جدَّه، وعمَّه لتهيئة الجانب المادِّيِّ، بينما كانت التَّربية النَّفسية، والخُلقيَّة، والفكريَّة تعهُّداً ربَّانياً، ورعايةً إلهيَّةً.
مراجع الحلقة:
- علي محمد محمد الصلابي، السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2004، ص 67-68.
- محمد سعيد رمضان البوطي، فقه السِّيرة ، ص 46.
- سيرة ابن هشام، ص (1/168)
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب السيرة النبوية في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي: