شخصيَّة النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم) وأثرها في صناعة القادة ...
مختارات من موسوعة السيرة النبوية والخلفاء الراشدين ..
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة (37)
كانت دار الأرقم بن أبي الأرقم أعظم مدرسةٍ للتَّربيَة والتَّعليم عرفتها البشريَّة، كيف لا، وأستاذها هو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أستاذ البشريَّة كلِّها، وتلاميذها هم الدُّعاة والهداة، والقادة الرَّبانيُّـون الَّذين حرَّروا البشريـة من رِقِّ العبوديـة، وأخرجوهم من الظُّلمات إلى النُّـور، بعد أن ربَّاهم الله تعالى على عينه تربيةً غير مسبوقةٍ، ولا ملحوقةٍ؟!.
في دار الأرقم وفَّق الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم إلى تكوين الجماعة الأولى من الصَّحابة، الَّذين نقلهم من هباء الجاهلية إلى نور الإيمان، وأصبحوا جميعاً من عظماء الرِّجال ومشاهير العالم، وصنَّاع التَّاريخ البشريِّ، حيث قاموا بأعظم دعوة عرفتها البشريَّة.
إنَّ خريجي مدرسة الأرقم من عظماء الرِّجال في العالم، وهُمُ الَّذين قامت عليهم الدَّعوة، والجهاد، والدَّولة، والحضارة فيما بعد؛ فلم يَجُدِ الزَّمان بواحدٍ مثل أبي بكرٍ الصِّدِّيق، وعمرَ بن الخطَّاب، وعثمان بن عفَّان، وعليِّ بن أبي طالبٍ، وسعدِ بن أبي وقَّاصٍ... إلخ.
لقد استطاع الرَّسول المربِّي الأعظم صلى الله عليه وسلم أن يربِّي في تلك المرحلة السرِّيَّة، وفي دار الأرقم، أفذاذ الرِّجال الَّذين حملوا راية التَّوحيد والجهاد والدَّعوة؛ فدانت لهم الجزيرة، وقاموا بالفتوحات العظيمة في نصف قرن.
كانت قدرة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فائقةً في اختيار العناصر الأولى للدَّعوة، في خلال السَّنوات الثَّلاث الأولى من عمر الدَّعوة، وتربيتهم وإعدادهم إعداداً خاصّاً ليؤهِّلهم لتسلُّم القيادة، وحمل الرِّسالة، فالرِّسالات الكبرى، والأهداف الإنسانيَّة العظمى، لا يحملها إلا أفذاذ الرِّجال، وكبار القادة، وعمالقة الدُّعاة. كانت دار الأرقم مدرسةً من أعظم مدارس الدُّنيا، وجامعات العالم، التقى فيها الرَّسول المربِّي صلى الله عليه وسلم بالصَّفوة المختارة من الرَّعيل الأوَّل (السَّابقين الأوَّلين)، فكان ذلك اللِّقاء الدَّائم تدريباً عمليّاً لجنود المدرسة على مفهوم الجنديَّة، والسَّمع، والطَّاعة، والقيادة، وآدابها، وأصولهـا، ويشحـذ فيـه القائد الأعلى جنـده وأتباعـه بالثِّقـة بالله، والعزيمة، والإصرار، ويأخذهم بالتَّزكية والتَّهذيب، والتَّربية، والتَّعليم. كان هذا اللِّقاء المنظَّم يشحذ العزائم، ويقوِّي الهمم، ويدفع إلى البذل، والتَّضحية، والإيثار.
كانت نقطة البدء في حركة التَّربية الرَّبانيَّة الأولى لقاء المدعو بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فيحدث للمدعو تحوُّلٌ غريب واهتداءٌ مفاجئ بمجرَّد اتِّصاله بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فيخرج المدعو من دائرة الظَّلام إلى دائرةِ النُّور، ويكتسب الإيمان، ويطرح الكفر، ويقوى على تحمل الشَّدائد، والمصائب في سبيل دينه الجديد، وعقيدته السَّمحة.
كانت شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم المحرِّك الأوَّل للإسلام؛ فشخصيته صلى الله عليه وسلم تملك قوى الجذب، والتأثير على الآخرين، فقد صنعه الله على عينه، وجعله أكمل صورةٍ لبشرٍ في تاريخ الأرض، والعظمة دائماً تُحَبُّ، وتحاط من النَّاس بالإعجاب، ويلتفُّ حولها المعجبون، يلتصقون بها التصاقاً بدافع الإعجاب والحبِّ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يضاف إلى عظمته تلك: أنَّه رسول الله، مُتلقِّي الوحي من الله، ومبلِّغه إلى الناس، وذلك بُعْدٌ آخر له أثره في تكييف مشاعر ذلك المؤمن تجاهه؛ فهو لا يحبُّه لذاته فقط، كما يُحبُّ العظماء من النَّاس، ولكن أيضاً لتلك النَّفحة الرَّبَّانيَّـة الَّتي تشملـه من عند الله، فهو معـه في حضرة الوحي الإلهيِّ المكرَّم؛ ومن ثَمَّ يلتقي في شخص الرَّسول صلى الله عليه وسلم البشر العظيم، والرَّسول العظيم، ثمَّ يصبحان شيئاً واحداً في النِّهاية، غير متميِّز البداية، ولا النِّهاية، حبٌّ عميقٌ شاملٌ للرَّسول البشر، أو للبشر الرَّسول، ويرتبط حبُّ الله بحبِّ رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويمتزجان في نفسه، فيصبحان في مشاعره نقطة ارتكاز المشاعر كلِّها، ومحور الحركة الشُّعورية، والسُّلوكية كلِّها، كذلك كان هذا الحبُّ الَّذي حرَّك الرَّعيل الأوَّل من الصَّحابة هو مفتاح التَّربية الإسلاميَّة، ونقطة ارتكازها، ومنطلقها الَّذي تنطلق منه.
مراجع الحلقة:
- السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2004، ص 126-127.
- دولة الرَّسول صلى الله عليه وسلم من التكوين إلى التمكين، كامل سلامة، ص 219-220.
- منهج التَّربيَّة الإسلاميَّة، محمَّد قطب، ص 34 ـ 35.
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب السيرة النبوية في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي