الإثنين

1446-12-06

|

2025-6-2

أهمُّ خصائص الجماعة الأولى الَّتي تربَّت على يدي رسول الله (صلى الله عليه وسلم)

مختارات من موسوعة السيرة النبوية والخلفاء الراشدين ..

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة (36)

 

كانت الجماعة الأولى الَّتي تربَّت على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد برزت فيها خصائص مهمَّة؛ جعلتها تتقدَّم بخطواتٍ رصينةٍ نحو صياغة الشَّخصية المسلمة، الَّتي تقيم الدَّولة المؤمنة، وتصنع الحضارة الرَّائعة، ومن أبرز هذه الخصائص:

1 - الاستجابة الكاملة للوحي، وعدم التَّقديم بين يديه:

إنَّ العلم، والفقه الصَّحيح الكامل في العقائد، والشَّرائع، والآداب وغيرها، لا يكون إلا عن طريق الوحي المنزَّل - قرآناً وسنَّةً - وذلك بالعلم بالله، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، ومعرفة ما يجب له، وما ينزَّه عنه - سبحانه وتعالى - والعلم بالملائكة، والكتاب، والنَّبيِّين، والعلم بالآخرة، والجنَّة، والنَّار، والعلم بالشَّرائع المجملة والمفصَّلة، والأحكام المتعلِّقة بالمكلَّفين، والعلم بالمسلك الصَّحيح الَّذي ينبغي سلوكه في سائر الأحوال: في الغضب والرِّضا، في القصد والغنى، في الأمن والخوف، في الخير والشَّرِّ، في الهدنة والفتنة، والتزام الدَّليل الشَّرعيِّ هو منهج الَّذين أنعم الله عليهم بالإيمان الصَّحيح. قال تعالى: ﴿وَمِمَنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأعراف: 181] .

لقد كان الصَّحابة رضي الله عنهم أعظم من غيرهم انتفاعاً بالدَّليل والوحي، وتسليماً له؛ لأسبابٍ عديدةٍ؛ منها:

أ - نزاهة قلوبهم، وخلوُّها من كلِّ ميلٍ أو هوًى غير ما جاءت به النُّصوص، واستعدادها التَّامُّ لقبول ما جاء عن الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم ، والإذعان، والانقياد له انقياداً مطلقاً دون حرجٍ، ولا تردُّدٍ، ولا إحجامٍ.

ب - معاصرتهم لوقت التَّشريع، ونزول الوحي، ومصاحبتهم للرَّسول صلى الله عليه وسلم ، ولذلك كانوا أعلم النَّاس بملابسات الأحوال الَّتي نزلت النُّصوص فيها، والعلم بملابسات الواقعة أو النَّصِّ من أعظم أسباب فقهه، وفهمه، وإدراك مغزاه.

ج - وكانت النُّصوص - قرآناً وسنَّةً - تأتي في كثيرٍ من الأحيان لأسبابٍ تتعلَّق بهم - بصورةٍ فرديَّةٍ، أو جماعيَّةٍ - فتخاطبهم خطاباً مباشراً، وتؤثِّر فيهم أعظم التأثير؛ لأنَّها تعالج أحداثاً واقعيَّةً، وتعقب في حينها، حيث تكون النُّفوس مشحونةً بأسباب التأثُّر، متهيِّئةً لتلقِّي الأمر، والاستجابة له.

د - قد أعفاهم قرب عهدهم بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من الجهد الَّذي احتاج إليه من بعدهم في تمييز النُّصوص، وتصحيحها، فلم يحتاجوا - في غالب أحوالهم - إلى سلسلة الإسناد، ولا معرفة الرِّجال، والعلل، وغيرها، ولم يختلط عليهم الصَّحيح بغيره، ومن ثمَّ لم يقع عندهم التردُّد في ثبوت النَّص الَّذي وقع عند كثيرٍ ممَّن جاء بعدهم - خاصَّةً من أصحاب النُّفوس المريضة، أو من الجهلة الَّذين لم يدرسوا السُّنَّة، ويفقهوها روايةً، ودرايةً - فكانوا إذا سمعوا أحداً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارُهم، كما يقول ابن عباس رضي الله عنهما.

2 - الـتَّـأثُّـر الوجدانـيُّ العميـق بالوحي والإيمان:

كان الصَّحابة يتعاملون مع العلم الصَّحيح، ليس كحقائق علميَّةٍ مجرَّدةٍ يتعامل معها العقل فحسب، دون أن يكون لها علاقةٌ بالقلب، والجوارح؛ فقد أورثهم العلم بالله، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله - محبَّته، والتألُّه إليه، والشَّوق إلى لقائه، والتَّمتُّع بالنَّظر إلى وجهه الكريم في جنَّة عدنٍ، وأورثهم تعظيمه، والخوف منه، والحذر من بأسه، وعقابه، وبطشه، ونقمته، وأورثهم رجاء ما عنده، والطَّمع في جنَّته، ورضوانه، وحسن الظَّنِّ به، فاكتملت لديهم - بذلك - آثار العلم بالله، والإيمان به، وهي الحبُّ، والخوف، والرَّجاء.

وأورثهم العلم بالجنَّة، والنَّار الرَّغبةَ في النَّعيم الأبديِّ السَّرمديِّ، والخوف من مقاساة العذاب الرَّهيب، فقلوبهم تتراوح بين نعيمٍ ترجوه، وتخشى فوته، وعذابٍ تحذره، وتخشى وقوعه؛ فتعلَّقت قلوبهم بالآخرة - فكرةً، وخوفاً، ورجاءً - حتَّى كأنَّهم يرون البعث، والقيامة، والميزان، والصِّراط، والجنَّة، والنَّار رأيَ العين. وأورثهم علمهم بالقدر، وأنَّه أمرٌ قد فُرِغ منه - التَّوكُّل على الله، وعدم التَّوكلِ على الأسباب، وعدم الفرح بما أوتوا، ولا الأسَى على ما مُنعوا، والإجمال في الطَّلب؛ إذ لن يفوت المرء ما قدِّر له، ولن يأتيه ما لم يقدَّر، كما غرس في نفوسهم الشَّجاعة، والإقدام. وأورثهم علمُهم بالموت، وإيمانُهم به - العزوفَ عن الدُّنيا، والإقبال على الآخرة، والدَّوام على العمل الصَّالح؛ إذ لا يدري المرء متى يموت، والموت منه قريب. وهذه المعاني الوجدانيَّة هي المقصود الأعظم من تحصيل العلم، وإذا فقدت فلا ينفع مع فقدها علمٌ، بل هو ضررٌ في العاجل والاجل.

ولقد كان للصَّحابة رضي الله عنهم من هذه المعاني الوجدانيَّة أعظم نصيبٍ؛ لأنَّ إيمانهم كان أعمق، وأكمل من إيمان غيرهم، ولقد تلقَّوه غضَّاً طريَّاً من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لم يَعْلَقْ بغبرة الأهواء، والغفلان.

وكان الصَّحابة فرساناً بالنَّهار، ورهباناً باللَّيل، لا يمنعهم علمُهم، وإيمانُهم الحقُّ وخشوعُهم للهِ من القيام بشؤونهم الدُّنيويَّة؛ من بيعٍ، وشراءٍ، وحرثٍ، ونكاحٍ، وقيامٍ على الأهل، والأولاد، وغيرهم فيما يحتاجون إليه، وكانوا بعيدين كلَّ البعد عن الإعجاب بالنَّفس، الَّذي أصيب به بعض المتعبِّدين ممَّن جاء بعدهم، فترتَّب عليه ازدراؤهم، واحتقارهم لأعمال الآخرين، واستهانةٌ بمجهوداتهم في سبيل الدِّين، وحطٌّ من قدرهم، فأصبحوا في الحقيقة متعبِّدين في محراب (الذَّات)، معظِّمين لأنفسهم، وهذا مصدر كلِّ رذيلةٍ خلقيَّةٍ، وسببٌ لمحق كلِّ عملٍ صالحٍ.والَّذين يصابون بهذه البليَّة المردية يشعرون بأنَّهم - وحدهم - الأوصياء على الدِّين، ويغلقون عقولهم، وأعينهم عن رؤية فضائل الآخرين، فلا يرون إلا العيوب والمساوئ؛ بل تصبح الفضائل عندهم عيوباً، ومساوئ.

 

مراجع الحلقة:

- السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2004، ص 122-126.

- صفة الغرباء، سلمان العودة، ص 83-104.

 

لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:

كتاب السيرة النبوية في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022