القائد الإسلامي صلاح الدين الأيوبي وجهوده في التوحيد والتحرير (25)
نتائج معركة حطِّين
بقلم: الدكتور علي محمد الصلابي
كانت معركة حطين معركةً فاصلة في التاريخ الإسلامي، ولها أهميتها الفريدة في التاريخين الإسلامي والغربي، وذلك بسبب نتائجها التي غيرت مجرى التاريخ، فأنهت حقبة من الصراع المصيري بين الشرق الإسلامي وأوروبا المسيحية، فاكتسبت أهميتها وشهرتها بسبب هذه النتائج الحاسمة، والتي من أهمها:
1 ـ معركة فاصلة وحاسمة: توصف معركة حطِّين بأنها معركةٌ فاصلةٌ وحاسمة؛ لأننا نلاحظ: أنها غيَّرت خريطة التوزيعات السياسية في المنطقة، ففي أعقابها اتَّجه ذلك السُّلطان المجاهد إلى فتح مدن السَّاحل الشامي، وتساقطت الواحدة تلو الأخرى باستثناء صور ذات المنعة والحصانة، وهكذا تمَّ حل مشكلة السَّاحل الشامي؛ الذي طرد منه المسلمون منذ أعوام طوال، ولم يعد المسلمون أصحاب وجود بريٍّ حبيس، وهكذا تساقطت مدن عكَّا ويافا وصيدا ، وبيروت وجبيل وعسقلان وغيرها، والواقع أنَّ من يطالع نصوص المصادر التاريخية لذلك العصر تتملَّكه الدَّهشة من موجة سقوط المدن الصليبية بصورة غير مسبوقة عكست التفوُّق العسكري السَّاحق للمسلمين ضدَّ أعدائهم، كما تهاوت القلاع الصَّليبية التي طالما أغارت على مناطق المسلمين، وأحالت حياتهم أحياناً إلى جحيم. ومن أمثلة القلاع التي تهاوت أمام فعاليات الجيش الأيوبي نذكر: طبرية، صفد، هونين، تبنين، بغراس، دربساك، حجر شغلن، القصير، وغيرها كثير، ومن بعد ذلك جاء فتح المسلمين لبيت المقدس عاصمة الكيان الصَّليبي (صلاح الدين، على الصلابي، ص430).
2 ـ بداية النهاية للوجود الصليبي:كانت معركة حطين أعظم من مجرَّد كارثة عسكريَّة حلَّت بالصليبيين، لقد كانت في حقيقة أمرها بشيراً بنجاح المسلمين في القضاء على أكبر حركة استعمارية شهدها العالم في العصور الوسطى، كما شكَّلت حدَّاً تراجع عنده المدُّ الصَّليبي باتجاه الشرق الأدنى الإسلامي وبداية النهاية للوجود الصليبي، وقد أنهت المعركة زهاء تسعة عقود من الاضمحلال والتدهور والتشرذم في المنطقة الإسلامية في الشرق الأدنى؛ لتؤكد أهمية الوحدة بين أقطار هذه المنطقة الجغرافية في جنوب غرب آسيا وفي مصر في مواجهة كلِّ الأخطار.
لقد أسَّسَتْ حطين بدايةً جديدة لموازين القوى، وأكَّدت أنَّ قوة الفرنج يمكن أن تقهر، وقد كشفت الدراسات التاريخية الحديثة التي بحثت تفاصيل تلك المرحلة: أنَّ معركة حطِّين انتهت بانتصار صلاح الدين؛ لكنَّها لم تقتلع نهائياً وجود الفرنج، فهي استراتيجياً معركةٌ فاصلةٌ بين حدَّين؛ أي: أنها ختمت مرحلة التراجع والهزائم، وأسَّسَتْ مرحلة الانتصارات والتقدُّم، وشقَّت الطريق الطويل والصعب؛ الذي شهد الكثير من الصُّعود والهبوط والهجوم، والهجوم المضاد إلى أن تمَّ خلخلةُ مواقع الفرنج وتفكيكُ ممالكهم وطردُهم من المنطقة.
3 ـ ارتفاع قدر صلاح الدين: من أسماء الله عز وجل الرَّافع، فقد كانت معركة حطين من الأسباب التي رُفع الله بها صلاح الدين، وأصبح في صفوف كبار المجاهدين والقادة والحكَّام المسلمين، كما أعادت للمسلمين الثقة بالنَّفس والكرامة التي كانوا قد فقدوها بعد وفاة نور الدين محمود (تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام، محمد طقوش، ص 53 ـ153). وقد كان لهذا النَّصر صدىً بالغاً في نفوس المسلمين بعامة وأهالي دمشق بخاصَّةٍ؛ لأنَّ دمشق كانت آنذاك مركز أعماله ومقرَّه، وفيها قضاته وكُتَّابه؛ الذين كانوا طوال أوقات المعركة ساجدين لله، وقائمين يدعون له بالنَّصر على أعدائه، ولما علموا بالانتصار؛ عبَّروا عن فرحهم بالدُّموع والكلمات المؤثرة التي تضمَّنت عبارات الشكر، والحمد لله.
4 ـ معركة حطين مفتاح بيت المقدس: كانت معركة حطين معركة تحرير فلسطين لأنَّها هي التي فتحت طريق النصر إلى بيت المقدس وباقي فلسطين، وقد وصف ابن واصل هذه المعركة بقوله: كانت وقعة حطِّين مفتاح الفتوح الإسلامية، وبها تيسَّر فتح بيت المقدس، وعدَّها حلقةً وسط بين فتوحات نور الدين محمود، وركن الدِّين بيبرس البندقاري. فمنذ وفد ملوك الفرنج إلى البلاد الساحلية واستولوا عليها؛ لم يقع للمسلمين معهم يومٌ كيوم حطين، فرحم الله الملك الناصر وقدَّس روحه، فلم يؤيَّد الإسلام بعد الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ برجل مثله، ومثل نور الدين محمود بن زنكي، رحمة الله عليهما (مفرج الكروب، جمال بن واصل، م2، ص193).
فهما جدَّدا الإسلام بعد دروسه، وشيَّدا بنيان التوحيد بعد طموسه، ثمَّ أيد الله الإسلام بعدهما بالملك المظفَّر ركن الدين بيبرس، وكان أمره أعجب؛ إذ جاء بعد أن استولى التتار على معظم البلاد الإسلاميَّة، وأيس الناس أن لا انتعاش للملَّة، فبدَّد شمل التتار وحفظ البلاد الإسلامية، وملكَ من الفرنج أكثرَ الحصون السَّاحلية.
5 ـ أهمية الوعي الجغرافي: أبرزت هذه المعركة أهمية الوعي الكامل بضرورة توظيف معطيات الموقع الجغرافي للشَّرق الإسلامي واستثمار ميِّزاته؛ بحيث يكون عاملاً فاعلاً من عوامل القوَّة الذاتية، ومن دلالات المعركة بروز أهمية مصر كقاعدة بشرية مادية بالغة الأهمية في الرَّبط بين العالم الإسلامي في الشرق الأدنى، كما تجلَّت أهمية أرض فلسطين التي تُعدُّ بمثابة الجسر أو المعبر الذي يصل بين بلاد الشَّام ومصر (تاريخ الأيوبيين، طقوش، ص 154).
6 ـ هيبة صلاح الدين ممزوجة بالإعجاب والإجلال: غدا لاسم صلاح الدين بعد الانتصار من الرَّهبة في قلوب الصليبيين الممزوجة بالإعجاب والإجلال؛ نظراً لما اتصفت به فتوحاته من النُّبل والشهامة والمروءة، كما كان لتسامحه معهم، وحسن معاملته لأسراهم أثرٌ كبيرٌ في استسلام العديد من المدن والحصون دون مقاومةٍ تُذكر. والواقع: أنَّه أظهر رحمةً وفروسيةً كبيرتين في تعامله مع الصَّليبيين، وبفضل هذه السَّجايا مارست جيوشُه ضبط النفس عند النَّصر، وتجنَّبت ارتكاب الأعمال الوحشية الشَّائعة في ذلك الوقت. ففي معرض الحديث عن مروءة صلاح الدين لزوجات وبنات الصَّليبيين كتب أرنول: لقد أعطاهنَّ الكثير لدرجة أنهنَّ حمدن الله ونشرْن في الخارج الكثير عن العطف والإجلال الَّلذين أسداهما لهنَّ صلاح الدِّين. كما أكرم إسكيفا زوجة ريموند الثَّالث، فسمح لها بأن تخرج من قلعة طبرية بالأمان، فخرجت بمالها ورجالها ونسائها وسارت إلى طرابلس.
وكان باليان الإبليني من بين الأمراء الناجين، وكانت زوجته وأولاده في بيت المقدس، فسمح له صلاح الدين بالذهاب إلى المدينة لإخراج زوجته وأولاده، واشترط عليه ألا يبيت فيها أكثر من ليلةٍ واحدة. ولقد وقف الغرب الأوروبي وبخاصَّةٍ فرنسا موقف الإعجاب والمدح لصلاح الدين، حتَّى تحوَّل في المؤلفات الأدبية الأوروبية إلى ما يشبه الأسطورة؛ التي خرجت عن إطار التَّاريخ الواقعي والموضوعي، وقد أضاعت خسارة الصَّليبيين في حطِّين هيبة مملكة بيت المقدس، وبخاصَّةٍ بعد أن أُسر ملكها جاي لوزينان، ونتج عن المعركة نقص ملموسٌ في الفرسان المحاربين بعد أن سقط معظم فرسان الصليبيين، وغالبية جيش بيت المقدس بين قتلى وأسرى: فمن شهد القتلى؛ قال: ما هناك أسير، ومن عاين الأسرى؛ قال: ما هناك قتيل (صلاح الدين، الصلابي، ص432).
7 ـ الجهود التراكميَّة التي سبقته: لم تأت انتصارات صلاح الدين من فراغ، ولم تكن النتائج العسكرية التي حقَّقها دون مقدِّمات سياسية وتنظيمية وإدارية وإصلاحية وإحيائية امتدَّت على أكثر من قرن، إلى أن بدأ قطف ثمارها في عهدي عماد الدين زنكي ونور الدين زنكي، والأخير يعتبر المؤسِّس الحقيقي للتحوُّلات الكبرى؛ التي شهدتها بلاد الشام، ثمَّ مصر، فقد عُرف نور الدين محمود بانتصاراته العسكرية، وأعماله الإصلاحية الإحيائية وإنجازاته الشَّرعية، فقد اشتهر ببناء المدارس ومعاهد التربية والتعليم، واهتمَّ بالقضاء وبتشييد المساجد والحصون، ونشر العلم في حلب ودمشق، ومختلف مدن الشام، وفي عهده استعاد القضاء دوره الشرَّعي والتاريخي، وبنى داراً للعدل، وشجَّع العلماء والفقهاء على لعب دورهم في الإعداد النَّفسي للقوَّات، وتبليغ الرِّسالة، وتعليم أصول اللُّغة والفقه والحديث لقادة جيوشه.
وفي هذه الأجواء العلمية تلقَّى صلاح الدين دروسه وتربيته الدِّينية، فتعلَّم على يد المحدِّث أحمد بن محمد الأصبهاني، والواعظ علي بن إبراهيم بن نجا ونجم الدين الحبوشاني، وهؤلاء جزء من الفقهاء والعلماء؛ الذين أشرفوا على تربية الجيل الثالث من القيادات السياسية والعسكرية؛ الذي كان له شرف إنزال الهزائم بقوَّات الفرنجة بعد مئة سنة من المواجهات المتقطِّعة، فصلاح الدين لم يصنع نفسه، بل وفقه الله تعالى ـ ثم هو نتاجٌ تاريخيٌّ وموضوعيٌّ لسياق من التقدُّم، بدأ مع بدء الحركة الإصلاحية الدِّينية التي تزعمها نظام الملك في عهد السَّلاجقة، والتي كان من رموزها الإمام الجويني وأبو إسحاق الشيرازي والغزالي وغيرهم ، ولقد آتت تلك الجهود ثمارها، والتي كان من أهمِّها معركة حطِّين، وفتح بيت المقدس على يدي صلاح الدين (صلاح الدين الأيوبي ، وسقوط القدس وتحريرها، علية الزبدة، ص 78 ، 79).
المصادر والمراجع:
1. تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام والجزيرة، محمد سهيل طقوش، دار النفائس، الطبعة الأولى، لبنان 1400 هـ 1999م.
2. صلاح الدين وتحرير القدس، علية المهتدي الزبدة، الطبعة الأولى 1414 هـ 1994م، وزارة الثقافة الأردنية.
3. صلاح الدين، علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، بيروت، ط1، 2009م.
4. مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، جمال الدين محمد بن سالم بن واصل.