سيرةٌ شفَّافة:
الحلقة الثامنة من كتاب
مع المصطفى صلى الله عليه وسلم
بقلم: فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
ربيع الأول 1443 هــ / أكتوبر 2021
وثمة شيء آخر: وهو أنه ما من إنسان إلا وفي شخصيَّته جوانب غموض وخفاء من القدماء والمُحْدَثين والعباقرة والفلاسفة وغيرهم، بينما سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب مفتوح مقروء، يقرؤها الأصدقاء والأعداء، والعلماء والبسطاء.
حتى إن الوحي ينزل عليه في أخص أموره عليه السلام؛ فيقوم ويقرؤه على الناس، ويقرأ عليهم في مكة قوله تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) [الحاقة: 44- 47]، أمام المؤمن والمشرك، وكان الوثنيّون حينها يحاربونه ويشنون عليه حملات إعلاميّة وكلاميّة باحثين عن أيّ ثغرة ينفذون منها للطعن في مصداقيّة الدعوة والداعية، فلم يكن ذلك يثنيه عن التبليغ بكل شيء ولو كان هذا الشيء معاتبة له من الله عز وجل.
وفي المدينة: يتربّص يهودها ومنافقوها بهذا الدين الدّوائر، ويرجعون البصر كرّة وكرّتين في حقيقة الرسالة هل يرون من فطور؟
ومع ذلك كان يقرأ على الناس مِن القرآن قوله تعالى: (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) [الأحزاب: 37]، وقوله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى) [عبس: 2]، وكان يعلّمها أصحابه ويؤمُّهم بها في الصلاة.
وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحفظون كل كلمة وحرف، وكل همسة ولمسة تصدر منه صلى الله عليه وسلم؛ فبقيت سيرته سِجِلًّا مفتوحًا للناس كلهم أجمعين، ومدوَّنة واضحة دقيقة في كل شيء يخصّه عليه أفضل الصلاة والسلام.
وبكل هذا الجلاء في سيرته دون استثناء كان أَمْثَلَ خُلُقٍ: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4]، وأصدق لسانٍ: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) [النجم: 3]، وأبين حجةٍ: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء: 195].
إنسان:
وهو في كل ذلك «إنسان» له صفات الإنسان؛ ليكون أيسر في الاتِّباع وأسهل في الاقتداء، ولكي يعلم الأتباع المؤمنون- ولو بعد عدَّة قرون- أن مشاعر النبي صلى الله عليه وسلم وأحاسيسه ليست بدعًا من المشاعر، وأن ما يلحق الناس من أذى ومضايقة من المشركين وغيرهم، أو فرح وسرور ينال النبي صلى الله عليه وسلم منه أوفر الحظ والنصيب، فغدت هذه الأيام التي يداولها الله على الناس تبيينًا لمعدن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمُوِّ أَرومَته، وطريقة تعامله مع الأحداث المختلفة والظروف العادية والاستثنائية: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء: 165].
وسيّد الرسل هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، فهل لهما من بدل أو عنهما مِن عِوض؟
ولا شك أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أكمل صورة بشريَّة جاء للناس من أنفسهم، فلم ينزل من السماء، ولم يكن ملكًا: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) [الأنعام: 9]، بل كان بشرًا رسولًا: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128].
ولقد كانوا يعرفونه قبل البعثة عليه السلام ويعاملونه ويصفونه ويسمُّونه بالصادق الأمين، ولم يزل صلى الله عليه وسلم يترقّى في مدارج ومعارج الكمال، حتى قُبض على أكمل ما يكون صلى الله عليه وسلم، قُبض وهو متلبِّس بالعبادة والدعوة والتوجيه والإرشاد والأمر والنهي والوصيّة، حتى في اللحظة التي انتقل فيها من هذه الدنيا- بأبي هو وأمي عليه السلام- عملا ً بقوله تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99].
وقبل ذلك كان محمد صلى الله عليه وسلم يرعى الغنم، حتى بعثه اللهُ فقاد الأمم.
وكان يضرب في أسواق الشام، إلى أن أرسله الله بشيرًا ونذيرًا إلى الناس كافة؛ شامها ويمنها، وعربها وعجمها.
وكان يتيمًا عانى فقدان الأب ثم الأم؛ فآواه الله ورعاه.
وكان ضالًا تستشرف فطرتُه صراطًا مستقيمًا لا يجده فيما حوله من الشرك فهداه الله عز وجل بهداه.
وكان عائلًا لا ثروة له ولا ثراء، فكفاه الله عز وجل وأغناه: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى* وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى* وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) [الضحى: 6- 8].
مرسَلٌ قد صاغهُ خالقُه *** من معاني الرسل بدْءًا وخِتاما
قد سعَى والطرقُ نار ٌ ودمٌ *** يعبرُ السهلَ ويجتازُ الأكاما
نزل الأرضَ فأضحت جنةً *** وسماءً تحملُ البدرَ التّماما
وأتى الدنيا فقيرًا فأتت *** نحوه الدنيا وأعطته الزّماما
ورعى الأغنامَ بالعدلِ إلى *** أن رعى في مرتعِ الحقِّ الأناما
عربيّ مَدَّن الصحرا كما *** علّم الناسَ إلى الحشرِ النظاما
يا رسولَ الحقِّ خلّدت الهدى *** وتركْت الظلمَ والبغيَ حُطاما( )
رابط تحميل كتاب مع المصطفى صلى الله عليه وسلم
http://alsallabi.com/books/view/506
كما ويمكنكم تحميل جميع مؤلفات فضيلة الدكتور سلمان العودة من موقع الدكتور علي الصَّلابي الرسمي