حاجة البشر إلى الرسل
الحلقة: السادسة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
شوال 1441 ه/ يونيو 2020
لم يستطع العقلُ البشري مرةً واحدةً أن يضعَ منهجاً متكاملاً خالياًمن العيوب ، وكلّما أبرزَ التطبيقُ العملي عيباً في تلك المناهج البشرية حاول البشرُ إصلاحه بعيبٍ جديدٍ تظهر نتائجه المنحرفة بعد حين من الزمان ، ذلك أنَّ وضعَ المنهج الصالح لحياة البشر يحتاجُ إلى جملةِ أمورٍ يقصُرُ عنها العلمُ البشري منها:
1 ـ أنّه يحتاج إلى معرفة حقيقية كاملة بالكيان البشري ذاته ، والإنسان ـ على الرغم من كلّ العلم المادي الذي عرفه ـ ما يزال شديدَ الجهلِ بكيانه الذاتي ، وهو بالتالي شديدُ الجهل بما يصلحه وما يصلح له.
2 ـ وأنّه يحتاجُ إلى إحاطة كاملة بماضي الجنس البشري وحاضره ومستقبله والتجارب التي خاضها ، وأسبابها ونتائجها ، وهذا يستحيل استحالة كاملة على الإنسان ، لأن كثيراً من أحداث الماضي مجهول له ، وهو عاجز عن الإحاطة بكل أحداث الحاضر الذي يعيشه ، أمّا المستقبل فهو غيب موصد أمامه لا يستطيع الاطلاع عليه.
3 ـ وأنّه يحتاجُ إلى أن يكونَ واضحَ المنهج غير متحيّز ، لا مصلحة له في أمر من الأمور ، ولا هوى ولا شهوات ، وهذا أمر لا يتوفر أصلاً في الإنسان ، الذي ينجذبُ دائماً إلى مصلحته الذاتية ، وتحرّكه دائماً الأهواء والشهوات ما لم يلتزم بأمر الله ، قال تعالى: {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا *إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا *وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا *إِلاَّ الْمُصَلِّينَ *} [المعارج :19 ـ 20].
4 ـ وأنَّ واضعَ المنهج يحتاج إلى علم كامل بمن يطيعه في السرّ والعلن ، وإلى قدرة تامة على مجازاة من يطيع ، ومعاقبة من يعصي ، حتى يكونَ المنهجُ محترماً ومطبقاً ، وهذه الأوصافُ لا تتوفّر في الجنس البشري ، فالإنسان لا يرى إلاّ في حدود ما تبصر عيناه ، ولا يسمع إلاّ في حدود ما يبلغ سمعه.
أما الله عز وجل فإنه يعلم جميع ما يفعله الإنسان من خير وشر ، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *} [المجادلة :7].
والله عز وجل قادر على أن يجازي من أطاعه ، ويعاقب من عصاه على الدقيق والجليل ، قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ *} [الزلزلة :7 ـ 8].
ومن ثَمَّ فإنّ المنهجَ الصالح لا يمكن أن يأتي إلا من مصدر واحد هو الله تعالى.
فالله هو الذي يعلم حقيقة الإنسان ، لأنّه هو الذي خلقه سبحانه: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ *} [الملك :14].
والله هو الذي يعلمُ كلّ شيء في حياة البشر وفي الكون كله ، علم إحاطة واطلاع: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ *} [سبأ :2] وقال تعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ *} [سبأ :3].
واللهُ هو الذي شرع التشريع الحكيم ، لأنه هو الغني القادر ، وليس محتاجاً إلى شيءٍ ممّا عند الناس ، وهو الواهب لهم كلَّ شيءٍ ، وهو الذي لا يزيد في ملكه أن يكونَ الناسُ كلُّهم على أتقى قلب رجلٍ منهم ، ولا ينقص في ملكه على أن يكونوا كلهم على قلبِ أفجرِ رجلٍ منهم ، كما جاء في الحديث القدسي.
والهدايةُ الربانيةُ التي تشتمل على المنهج الصالح لحياة البشر طريقُها هو الرسل والرسالات ، ومن ثَمَّ تصبحُ الرسالةُ حاجةً بشريةً لا غنًى عنها ، ولا استقامة لحياة البشر من دونها. فكما تكفّل الله سبحانه وتعالى ـ رحمة منه بعباده ـ بكل ما يحفظ حياتهم من الطعام والكساء والمأوى والعقل المدبر المنظم ، فقد تكفّل سبحانه كذلك بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب لتستقيمَ حياة الناس في الأرض ، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد :25].
فحاجةُ البشر إلى رسالة الرسل: ضرورةٌ للعباد ، لابدّ لهم منها ، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء ، والرسالة روح العالم ونوره وحياته ، فأيّ صلاحٍ للعالم إذا عَدِمَ الروح والحياة والنور؟ والدُّنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمسُ الرسالةِ ، وكذلك العبدُ ما لم تشرقْ في قلبه شمس الرسالة ، ويناله من حياتها وروحها فهو في ظلمة ، وهو من الأموات ، قال الله تعالى:
{فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الانعام :122].
فهذا وصفٌ المؤمن كان ميتاً في ظلمة الجهل ، فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان ، وجعل له نوراً يمشي به في الناس ، وأمّا الكافر فميت القلب في الظلمات.
إنَّ الله سمّى رسالته روحاً ، والروح إذا عدم فُقِدت الحياة ، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى :52].
فذكر هنا أصلين هما: الروح والنور ، فالروح الحياة ، والنور النور.
إنّ اللهَ يضرب الأمثال للوحي الذي أنزله حياة للقلوب ونوراً لها بالماء الذي ينزله من السماء حياة للأرض ، وبالنار التي يحصل بها النور ، وهذا كما في قوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ *} [الرعد :17].
فشبّه العلمَ بالماءِ المنزَلِ من السماء ، لأنّ به حياة القلوب ، كما أنَّ الماء حياة الأبدان ، وشبّه القلوبَ بالأودية ، لأنَّها محلّ العلم ، كما أنَّ الأودية محل الماء ، فقلب يسع علماً كثيراً ، وواد يسع ماءً كثيراً ، وقلب يسع علماً قليلاً ، وواد يسع ماءً قليلاً ، وأخبر تعالى أن الزَّبَدَ يعلو على السيل بسبب مخالطة الماء ، وأنّ هذا الزَّبَدَ يذهب جفاءً ، أي يرمى به ويختفي ، والذي ينفع الناس يمكث في الأرض ، ويستقرّ ، وكذلك القلوب ، تخالطها الشهوات والشبهات ، ثم تذهب جفاء ، ويستقر فيها الإيمان والقران الذي ينفع صاحبه والناس.
وقال تعالى: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} [الرعد :17] فهذا المثل الاخر هو الناري ، فالأول للحياة ، والثاني للضياء.
إنَّ الكافرَ يعيشُ في ظلمات الكفر والشرك ، فهو غير حيّ ، وإن كانت حياته حياة بهيمية ، فهو عادم الحياة الروحانية العلوية التي سببها الإيمان ، وبها تحصلُ للعبدِ السعادةُ والفلاحُ في الدنيا والاخرة ، فإنّ الله سبحانه جعل الرسل وسائط بينه وبين عباده في تعريفهم بما ينفعهم وما يضرّهم ، وتكميل ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم ، وبعثوا جميعاً بالدعوة إلى الله ، وتعريف الطريق الموصلِ إليه ، وبيان حالهم بعد الوصول إليه: وهذا يحتاجُ إلى معرفة ثلاثة أصول:
الأصل الأول: يتضمّن إثبات الصفات ، والتوحيد ، والقدر ، وذكر أيام الله في أوليائه وأعدائه ، وهي القصص التي قصّها الله على عباده ، والأمثال التي ضربَها لهم.
والأصل الثاني: يتضمّن تفصيلَ الشرائع ، والأمر والنهي والإباحة ، وبيان ما يحبه الله وما يكرهه.
والأصل الثالث: يتضمّن الإيمانَ باليوم الاخر ، والجنةَ والنارَ ، والثوابَ والعقابَ.
على هذه الأصول الثلاثةَ مدارُ الخلق والأمر ، والسعادةُ والفلاحُ موقوفةٌ عليها ، ولا سبيل إلى معرفتها إلاّ من جهة الرسل ، فإنَّ العقل لا يهتدي إلى تفاصيلها ومعرفة حقائقها ، وإن كان يدرِكُ وجهَ الضرورة إليها من حيث الجملة ، كالمريض الذي يدرِكُ وجهَ الحاجة إلى الطب ، ومن يداويه ، ولا يهتدي إلى تفاصيلِ المرضِ ، وتنزيلِ الدواء عليه.
الحكمة من إرسال الرسل:
من رحمة الله بعباده ، ومن جميل لطفه بهم ، وإحسانه إليهم ، أنْ بعثَ إليهم الأنبياء والمرسلين ، مبشرين ومنذرين ، ليكونوا منارات للهدى ، وأعلاماً للفضيلة ، ونجوماً زاهرة في سماء الإنسانية ، تضيء للعالم طريق الخير ، وترشدهم إلى السعادة ، وتنقذهم من براثن الشرك والوثنية ، وتسمو بهم إلى مدراج العزّ والكمال ، وقد جرت سنةُ الله في خلقه ألاّ يعاقبَ أمةً قبل أن يبعثَ إليها رسولاً ، يدعوهم إلى الخير والبر ، وينهاها عن السوء والشر ، وذلك حتى لا يدعَ لأحدٍ من البشر عُذراً ، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً *} [الإسراء: 15]
ولئلا يقول الناس يوم القيامة: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ} [المائدة :19] وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى *} [طه : 134] وقال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا *} [النساء :165].
فكانت حكمةُ الله ورحمته بعباده أن يقيمَ لهم موازين الحق والعدل ، ويفتح أعينهم على الهدى والرشاد ، وينصب لهم الدلائل والبراهين حتى تقومَ الحجة ، وتتضحَ المحجّة.
يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب :
الإيمان بالرسل والرسالات
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book94(1).pdf