(من الأساليب النبوية في التربية)
من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:
الحلقة: الثامنة و العشرون
بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي
صفر 1443 ه/ سبتمبر 2021
ــ تكرار الحديث وإعادته:
فذلك أسهل في حفظه، وأعون على فهمه، وأدعى لاستيعابه ووعي معانيه، ولذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تكرار الحديث في غالب أحيانه، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً؛ حتى تفهم عنه، وإذا أتى على قوم، فسلَّم عليهم؛ سلَّم عليهم ثلاثاً(1).
ــ التأني في الكلام والفصل بين الكلمات:
كان صلى الله عليه وسلم يتأنَّى ولا يستعجل في كلامه، بل يفصل بين كلمة وأخرى، حتَّى يسهل الحفظ ولا يقع التحريف والتَّغيير عند النَّقل، وبلغ من حرص النبيَّ صلى الله عليه وسلم على ذلك: أنّه كان يسهل على السامع أن يعُدَّ كلماته صلى الله عليه وسلم لو شاء(2)، فقد روى عروة ابن الزبير ـ رحمه الله ـ أن عائشة رضي الله عنها قالت: ألا يُعجُبك أبو فلان "أبو هريرة"؟ جاء، فجلس إلى جانب حجرتي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه يُسمعُني ذلك، وكنت أُسبح فقام قبل أن أقضي سُبحتي، ولو أدركته لرددت عليه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم(3).
ــ الاعتدال، وعدم الإملال:
كان صلى الله عليه وسلم يقتصد في تعليمه، في مقدارما يلقبه، وفي نوعه، وفي زمانه، حتى لا يملُّ الصحابة وحتى ينشطوا لحفظه ويسهل عليهم عقله، وفهمه، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا(4) بالموعظة في الأيام، وكراهية السآمة علينا(5).
ــ ضرب الأمثال:
للمثل أثر بالغ في إيصال المعنى إلى العقل، والقلب، ذلك: أنه يقدِّم المعنوي في صورة حسَّية، فيربطه بالواقع، ويقرِّبه إلى الذهن؛ فضلاً عن أنَّ للمثل بمختلف صوره بلاغة تأخذ بمجامع القلوب، وتستهوي العقول، وبخاصة عقول البلغاء؛ ولذلك استكثر القرآن من ضرب الأمثال، وذكر حكمة ذلك في آيات كثيرة، فقال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ (العنكبوت، آية: 43).
وقال تعالى: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الحشر، آية: 21).
ــ طرح المسائل:
إن طرح السؤال من الوسائل التربوية المهمّة في ربط التواصل القوي بين السائل والمسؤول، وفتح ذهن المسؤول وتركيز اهتمامه على الإجابة، وإحداث حالة من النَّشاط الذهني الكامل؛ ولذلك استخدم النبي صلى الله عليه وسلم السؤال في صور متعددة لتعليم الصحابة؛ ممّا كان كبير الأثر في حسن فهمهم، وتمام حفظهم، فأحياناً يوجِّه النبي صلى الله عليه وسلم السؤال لمجرد الإثارة والتشويق، ولفت الانتباه، ويكون السؤال عندئذ بصيغة التنبيه "ألا" غالبا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد،وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط»(6).
ــ إلقاء المعاني العربية المثيرة للاهتمام، والدّاعية إلى الاستفسار، والسُّؤال:
ومن ألطف ذلك وأجمله، ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بالسوق، داخلاً من بعض العالية، والناس كُنَفته(7)، فمر بجدي أسكَّ( ميت فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: «أيكم يحبُّ: أن هذا له بدرهم؟». فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟. قال: «أتحبون أنه لكم؟». قالوا: والله لو كان حياً كان عيباً فيه، لأنه أسكُّ، فكيف وهو ميت؟. فقال: «فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم»(9).
ــ استخدام الوسائل التوضيحية:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم ما يسمى اليوم بالوسائل التوضيحية؛ لتقرير وتأكيد المعنى في نفوس وعقول السامعين، وشغل كلِّ حواسهم بالموضوع، وتركيز انتباههم فيه، ممّا يساعد على تمام وعيه، وحسن حفظه بكل ملابساته، ومن هذه الوسائل:
• ـ التعبير بحركة اليد: كتشبيكه صلى الله عليه وسلم بين أصابعه، وهو يبيِّن طبيعة العلاقة بين المؤمن وأخيه، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن للمؤمن كالبُنيان يشدُّ بعضه بعضاً وشبك بين أصابعه»(10).
• ـ التعبير بالرَّسم: فكان صلى الله عليه وسلم يخطُّ على الأرض خطوطاً توضيحية، تسترعي نظر الصحابة، ثم يأخذ في شرح مفردات ذلك التخطيط، وبيان المقصود منه، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خطَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاًّ بيده، ثم قال: «هذا سبيل الله مستقيماً»، ثم خط خطوطا عن يمينه، وعن شماله، ثم قال: «وهذه سُبل» ـ قال يزيد ـ متفرقة ـ «على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه»، ثم قرأ ﴿وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (الأنعام، آية: 153)(11).
• ـ التعبير برفع وإظهار الشَّيء موضع الحديث، كما فعل صلى الله عليه وسلم عند الحديث عن حُكم لبس الحرير والذهب، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريراً، فجعله في يمينه، وأخذ ذهباً، فجعله في شماله، ثم قال: «إن هذين حرام على ذكور أمتي»(12)، وزاد في رواية: «حلُّ لإناثهم» فجمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين القول، وبين رفع الذَّهب والحرير، وإظهارهما، حتى يجمع لهم السَّماع والمشاهدة، فيكون ذلك أوضح، وأعون على الحفظ.
• ـ التعليم العملي بفعل الشيء أمام الناس، كما فعل عندما صعد صلى الله عليه وسلم المنبر، فصلَّى بحيث يراه الناس أجمعون، فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله قام على المنبر، فاستقبل القبلة، وكبّر وقام الناس خلفه، فقرأ وركع، وركع الناس خلفه، ثمَّ رفع رأسه، ثم رجع القهقرى(13)، فسجد على الأرض، ثم عاد إلى المنبر، ثم قرأ، ثم ركع، ثم رفع رأسه، ثم رجع، القهقرى، حتى سجد بالأرض، فلمّا فرغ؛ أقبل على الناس فقال: «أيها الناس؛ إنما صنعت هذا لتأتمَّوا بي ولتعلُّموا صلاتي»(14).
ــ استعمال العبارة اللطيفة والرَّقيقة:
إن استعمال لطيف الخطاب، ورقيق العبارات يؤلف القلوب ويستميلها إلى الحق، ويدفع المستمعين إلى الوعي والحفظ، فقد كان صلى الله عليه وسلم يمهِّد لكلامه وتوجيهه بعبارة لطيفة رقيقة، وبخاصّة إذا كان بصدد تعليمهم ما قد يُستحيا من ذكره، كما فعل عند تعليمهم آداب الجلوس لقضاء الحاجة؛ إذ قدّم لذلك بأنه مثل الوالد للمؤمنين، يُعلِّمهم، شفقة بهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أُعَلمِّكم، فإذا أتى أحدكم الغائط، فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، ولا يستطب بيمينه»(15).
ــ تشجيع المحسن والثناء عليه:
ليزداد نشاطاً وإقبالاً على العلم والعمل، مثلما فعل مع أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ حين أثنى على قراءته وحُسن صوته بالقرآن الكريم، فعن أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة، لقد أُوتيت مزماراً من مزامير آل داوود»(16).
ــ الإشفاق على المخطئ وعدم تعنيفه:
وكان صلوات الله وسلامه عليه يقدِّر ظروف الناس، ويراعي أحوالهم، ويعذرهم بجهلهم ويتلطَّف في تصحيح أخطائهم، ويترفق في تعليمهم الصَّواب، ولا شك أن ذلك يملأ قلب المنصوح حبًّا للرسالة، وصحابها وحرصاً على حفظ الواقعة والتوجيه وتبليغها، كما يجعل قلوب الحاضرين المعجبة بهذا التصرف والتوجيه الرّقيق مهيَّأة لحفظ الواقعة بملابساتها كافة.
ــ عدم التَّصريح، والاكتفاء بالتَّعريض فيما يذمُّ:
لِما في ذلك من مراعاة شعور المخطئ، والتأكيد على عموم التوجيه، ومن ذلك ما حدث مع عبد الله بن اللُّتبيّة رضي الله عنه حين استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على صدقات بني سُليم، فلما جاء حاسبه صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا مالكم، وهذه هدية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهلاَّ جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتُّك؛ إن كنت صادقاً؟» ثم خطبنا، فحمد الله، وأثنى عليه، ثمّ قال: «أمّا بعد، فإني استعمل الرّجل منكم على العمل ممّا ولاّني الله، فيأتي، فيقول: هذا مالكم، وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته؟ والله لا يأخذ أحد منكم شيئاً بغير حقه إلا لقى الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفنَّ أحداً منكم لقى الله يحمل بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار، أو شاه تيعر»(17)، ثم رفع يديه، حتى رُئيَ بياض إبطيه يقول: «اللهم هل بلغت» بصر عيني وسمع أذني(18).
ــ الغضب والتعنيف؛ متى كان لذلك دواعٍ مهمة:
وذلك كأن يحدث خطأ شرعي من أشخاص لهم حيثية خاصة، أو تجاوز الخطأ حدود الفردية والجزئية وأخذ يمثل بداية فتنة، أو انحراف عن المنهج، على أن هذا الغضب يكون غضباً توجيهياً، من غير إسفاف، ولا إسراف؛ بل على قدر الحاجةومن ذلك غضبه من اختصام الصَّحابة وتجادلهم في القدر، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه، وهم يختصمون في القدر فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، فقال: «بهذا أمرتم؟ أو لهذا خلقتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض؟ بهذا هلكت الأمم قبلكم»(19).
ــ انتهاز بعض الوقائع لبيان وتعليم معانٍ مناسبة:
كان صلى الله عليه وسلم تحدث أمامه أحداث معينة، فينتهز مشابهة ما يرى لمعنى معين يريد تعليمه للصحابة، ومشاكلته لتوجيه مناسب يريد بثّه لأصحابه، وعندئذ يكون هذا المعنى وذلك التوجيه أوضح ما يكون في نفوسهم رضي الله عنهم؛ ومن ذلك ما رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبيٌّ(20)، فإذا امرأة من السبي تحلب ثديها(21) تسقى(22)، إذا وجدت صبياً من السَّبي، أخذته فألعقته ببطنها، وأرضعته، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : «أتُرون(23)، هذه طارحة ولدها في النار؟» قلنا: لا؛ وهي تقدر على ألا تطرحه(24)، فقال: «الله أرحم بعباده من هذه بولدها»(25).
فانتهز صلى الله عليه وسلم المناسبة القائمة بين يديه مع أصحابه والمشهود فيها حنان الأم الفاقدة رضيعها إذ وجدته، وضرب بها المشاكلة والمشابهة برحمة الله تعالى، ليعرف الناس رحمة رب الناس بعباده(26)
.
مراجع الحلقة الثامنة والعشرون
( ) أخرجه البخاري، الحديث رقم: 95.
(2) أخرجه البخاري، الحديث رقم: 3567.
(3) أخرجه البخاري، الحديث رقم: 3568.
(4) يتخولنا: يتعهدنا.
(5) أخرجه البخاري، الحديث رقم: 68.
(6)أخرجه مسلم، الحديث رقم: 251.
(7) كنفته: يعني: عن جانبه، والكنف الناحية والجانب.
( جدي أسك: صغير الأذنين.
(9)أخرجه مسلم، الحديث رقم: 7344.
(0 ) أخرجه البخاري، الحديث رقم: 2446.
(1 ) مسند أحمد (1/ 435).
(2 ) سنن أبي داوود، الحديث رقم: 4057.
(3 ) القهقرى: المشي إلى الخلف.
(4 ) أخرجه البخاري، الحديث رقم: 377.
(5 ) سنن أبو داوود، الحديث رقم: 8.
(6 ) أخرجه البخاري، الحديث رقم: 5048.
(7 ) الرُّغاء: صوت الإبل عند رفع الأحمال عليهما.
(8 ) أخرجه البخاري، الحديث رقم: 6979.
(9 ) سنن ابن ماجه، الحديث رقم: 85.
(20) سبي: أسرى.
(21) تتهيأ لأن تحلب.
(22) تسقي: تبتغي ولداً ترضعه لأن ثديها قد امتلأ.
(23) أترون: أتظنون.
(24) أي: لا تطرحه مادامت تقدر على حفظه معها ووقايته.
(25) أخرجه البخاري، الحديث رقم: 5999.
(26) الرسول المعلم صلى الله عليه وسلم، عبد الفتاح أبو غدة، ص: 160.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com