تأملات في الآية الكريمة {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ}
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 62
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
محرم 1444ه / أغسطس 2022م
يخبر الله تعالى أنه وهب لإبراهيم إسحاق - عليهما السّلام - بعد أن طعن في السن، وأيس هو وامرأته سارة من الولد، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط فبشروهما بإسحاق، فتعجبت المرأة من ذلك: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)} ]هود:72-73[، وبشروه مع وجود بنبوته وبأن له نسلاً وعقباً، كما قال: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} ]الصافات:112[، وهذا أكمل في البشارة وأعظم في النعمة، وقال: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} ]هود:71[ أي: ويولد لهذا المولود ولد في حياتكما فتقرّ أعينكما كما قرّت بوالده، فإن الفرح بولد الولد شديد لبقاء النسل والعقب، ولما كان ولد الشيخ والشيخة قد يتوهم أنه لا يعقب لضعفه وقعت البشارة به وبولده باسم "يعقوب" الذي فيه اشتقاق العقب والذرية، وكان هذا مجازاة لإبراهيم - عليه السّلام - حين اعتزل قومه وتركهم، ونزح عنهم وهاجر من بلادهم ذاهباً إلى عبادة الله في الأرض، فعوضه الله عزَّ وجل عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين من صلبه على دينه؛ لتقرَّ بهم عينه، كما قال تعالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} ]مريم:49[، وقال ههنا: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا}.(1)
ونلاحظ في الآية السابقة تعظيم هبة الله لإسحاق ويعقوب - عليهما السلام- بنون الجمع والثناء عليهما بالهداية: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا} والوهب والهبة: إعطاء الشيء بلا عوض.
وقد جاءت المنّة على إبراهيم - عليه السّلام - بهبة إسحاق ويعقوب له بصيغة الجمع أربع مرات في كتاب الله عزّ وجل؛ أولها من حيث ترتيب المصحف ما ذكرناه في سورة الأنعام، والثاني: قوله تعالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)} ]مريم:50-51[، والثالث: قوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)} ]الأنبياء:71-72[، والرابع: قوله تعالى: {فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)} ]العنكبوت:26-27[.
وجميع هذه السور مكيَّة، وهذا التقديم والاختصاص بالذكر لإسحاق ويعقوب - عليهما السلام - في السور المكيّة فيه تسلية لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم بأن الله سيحفظه وينصره، كما حفظ أباه إبراهيم - عليه السّلام - من قبل، وبأن الله سيمكّن له وينشر دينه وإن عاداه قومه، كما مكّن لإبراهيم - عليه السّلام - وذريته من قبل.
وفي الجمع بين إسحاق ويعقوب عليهما السلام في هذه المواضع الأربعة ما يدل على أنَّ البشارة بها كانت في مقام واحد، كما جاء ذلك صريحاً في قوله تعالى خطاباً لسارة زوج إبراهيم - عليه السّلام -: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} ]هود:71[.
وقال الطبري -رحمه الله-: يقول تعالى ذكره: فجزينا إبراهيم على طاعته إيّانا، وإخلاصه توحيد ربّه، ومفارقته دين قومه المشركين بالله، بأن رفعنا درجته في عليين، وآتيناه أجره في الدنيا، ووهبنا له أولاداً خصصناهم بالنبوّة، وذرية شرفناهم منا بالكرامة، وفضلناهم على العالمين منهم ابنه إسحاق وابن ابنه يعقوب- عليهما السلام- {كُلًّا هَدَيْنَا}، يقول: هدينا جميعهم لسبيل الرشاد، فوفقناهم للحقِّ والصواب من الأديان.(2)
مراجع الحلقة الثانية والستون:
(1) تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)، (3/290-291).
(2) تفسير الطبري "جامع البيان في تأويل القرآن"، (7/260),
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي