الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

تأملات في الآية الكريمة {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}

من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

الحلقة: 61

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

محرم 1444ه / أغسطس 2022م

1. في قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا}:

جاءت الإشارة للبعيد، والظاهر شمولها احتجاجه على من ناظرهم، فإن حاجّهم في الكواكب والقمر والشمس والتماثيل، وبعد ذلك حاجّهم في الكواكب والقمر والشمس والتماثيل، وبعد ذلك انتصر بالحجّة على كبيرهم وهو الملك أو السلطان، وكذلك أقام الحجّة على والده.(1)

والإشارة {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا} للبعيد ولعظم الفكر، وقوة الاستدلال مع البعد كانت الإشارة للبعيد، وأضاف الله سبحانه وتعالى الحجة إلى ذاته العليّة إعلاءً لمكانتها ولصدقها وتشريفاً لمن أجراها على لسانه وقلبه.(2)

2. وقوله تعالى: {آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ}:

أي: أعطيناها له بإلهام الفطرة السليمة، والعقل الحنيف الذي لا يميل إلا للحق ولا يتّجه إلا إليه، وكانت هذه حجة قوية فاز بها على قومه، وقامت حجة عليهم فيها يفعلون ويتوهّمون، ويزعمون ثم يعتقدون الباطل الذي ليس فيه حقّ ولا شبهة، إنما البهتان العظيم والظلم العظيم للحقائق.

إنَّ الله عزّ وجل اختار إبراهيم - عليه السّلام - لتقوم به الحجة؛ لأنه لم يخلق الناس في الفكر والعلم على سواء، فمنهم الهادي المرشد الذي اختاره الله تعالى؛ ليكون رسول الحق إلى الناس ورسوله إليهم، ومنهم الضّال الذي يطلب الهداية، ومنهم من أركس في الشرّ، وختم الله على بصيرته وسمعه وبصره، فلا يدرك حقاً ولا يستمع لداعي الحق. (3)

وقد أقام الله الحجة على قوم إبراهيم - عليه السّلام - بنبيه الكريم ورسوله العظيم، فأمدّه بقوة في شخصيته كمُحاور بارع ومناظر مُفحِم، كما رزقه الله قوة في حججه وبراهينه التي حقق بها انتصارات متوالية على كبار قومه وسادتهم، ولذلك استحقّ الثناء العظيم من المولى سبحانه.

واسم الإشارة "تلك" إشارة إلى جميع احتجاجاته، حتى خاصمهم وغلبهم بالحجة،(4) وفي إضافة الحجة إلى اسم الجلالة تنويه بشأنها وصحتها، فإيتاء الحجة وإلهامه إياها وإلقاء ما يعبر عنها في نفسه، هو فضل من الله على إبراهيم - عليه السّلام - إذ نصره على مناظريه.(5)

والواقع أنَّ جميع حوارات إبراهيم - عليه السّلام - تتسم بالقوة المقنعة والنفوذ المؤثر في نفوس الآخرين، وتنتهي بانتصاره على خصومه الذين لا يجدون أمامهم إلا الإذعان والتسليم، لكن كبريائهم وعنادهم يصدّانهم عن الحق، ويستبدلون أساليب التحاور والتفاهم بأساليب الكبت والبطش والتنكيل، وكل من يتأمل حواراته - عليه السّلام - ويستحضر مكوناته الشخصية وأدواره الرسالية، يدرك - بلا عناء- جوانب متعددة من القوة الحجاجيّة والخبرة الجدلية التي تتمتع بها شخصية إبراهيم - عليه السّلام - حتى صارت سمة شاخصة وأسلوباً متميزاً.(6)

3. وقوله تعالى: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ}:

تطلق الدرجات على المراتب المعنويّة في الخير والجاه والعلم والسيادة والرزق، ومن معاني الآية: نرفع من شئنا من عبادنا درجات، بعد أن لم يكن على درجة منها، ومن معانيها نرفع درجات من شئنا من أصحاب الدرجات حتى تكون درجته في كل فضيلة ومنقبة أرفع من درجة غيره فيها.

فالعلم النظري درجة كمال، والحكمة العلمية والعملية درجتا كمال، وفصل الخطاب وقوة العارضة في الحِجاج من درجات الكمال، والسيادة والحكم بالحق درجة كمال، والنبوة والرسالة أعلى من كل هذه الدرجات؛ لأنّها تشتمل عليها وتزيد عنها، وكل ذلك متفاوت بفضل الله، فضّل بعض أهله على بعض، فهو سبحانه يؤتي الدرجات ابتداءً بإعداده وبتوفيقه من يشاء للكسبي منها، واختصاصه من يشاء بالوهبي منها، الذي يرفع درجات من يؤتيهم ذلك بتوفيق صاحب الدرجة الكسبية إلى ما ترتقي به درجته، وبصرف موانع هذا الارتقاء عنه وبإيتاء ذي الدرجة الوهبية (النبوّة) ما لم يؤتِ غيره من أهلها من المناقب والآيات المنزلة والتكوينية وكثرة اهتداء الخلق بها: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} ]البقرة:253[، وجملة نرفع استئنافية مبنية على أن ما آتى الله إبراهيم من الحجة كان اختصاصه بأعلى درجات النبوة الوهبيّة، وما ترتب عليها من درجات الدعوة الكسبيّة.(7)

وقال الشيخ الإمام محمد أبو زهرة: الدرجات المراتب العالية في الهداية والتوفيق، وعبَّر سبحانه وتعالى بالفعل المضارع {نَرْفَعُ}؛ لتجدد الرفعة المستمرة، فالوجود الإنساني يستمر الخير فيه بوجود الهداة المرشدين والمستمعين الأخيار الذين يستمعون فيقولون سمعنا وأطعنا، وبجوار هؤلاء أولئك الذين يستمعون طيب القول فيقولون سمعنا وعصينا، وبذلك يتفاعل الخير والشر في هذه الحياة وسبق بيان العاقبة للمتقين، قال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} ]البقرة:269[.(8

4. {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}:

تذييل مقرر لمضمون ما قبله مبيّن لمُنشئه ومتعلقه من صفات الله تعالى، وقد وضع فيه اسم الرب مضافاً إلى ضمير الرسول عليه الصلاة والسلام موضع نون العظيمة على طريق الالتفاف، تذكير منه تعالى لخاتم رسله بفضله عليه وتفضيله إياه برفعه درجات على جميع رسل الله، فهو يقول له إنّ ربك الذي ربّاك وأراك وعلّمك وهداك، ورفع ذكرك بجوده وكرمه، وجعلك خاتم رسله لجميع خلقه، حكيم في فعله وصنعه، عليم بشؤون خلقه وسياسة عباده، وسيُريك شاهد ذلك عياناً في سيرتك مع قومك، كما أراكهُ بياناً في ما كان من إبراهيم مع قومه.(9)

فالله عزّ وجل حكيم يضع كل شيء بميزان، عليم بكل شيء وله فيما يشاء، ويختار الحكم والعبر البالغات تبارك الله رب العالمين.

مراجع الحلقة الواحدة والستون:

( ) زهرة التفاسير، الإمام محمد أبو زهرة، (5/2571).

(2) زهرة التفاسير، الإمام محمد أبو زهرة، (5/2571).

(3) المرجع نفسه (5/2572).

(4) صناعة الحوار، حمد عبد الله السيف، ص286،

(5) صناعة الحوار، حمد عبد الله السيف، ص286، تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، (7/335).

(6) صناعة الحوار، حمد عبد الله السيف، ص287.

(7) تفسير المنار (تفسير القرآن الحكيم)، محمد رشيد رضا، (7/582-584).

(8 زهرة التفاسير، الإمام محمد أبو زهرة، (5/2572).

(9) تفسير المنار (تفسير القرآن الحكيم)، محمد رشيد رضا، (7/582-584).

يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي

http://alsallabi.com/uploads/books/16228097650.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022