الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

الإمام الشافعي وأدب المناظرة : دروس وعِبر

اقتباسات من كتاب "مع الأئمة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)

الحلقة: الحادية و الستون

محرم 1444ه/ أغسطس 2022م

يقول رحمه الله: «ما ناظرتُ أحدًا على الغَلَبَة، إِلَّا على الحق عندي».

وقال: «ما ناظرتُ أحدًا قطُّ إِلَّا على النصيحة».

وقال أيضًا: «ما ناظرتُ أحدًا قطُّ، فأحببتُ أن يخطئ».

فمَن يستطيع أن يبلغ هذا المستوى؟!

وهذا يذكِّرنا بما نُسب إليه من قوله: «ودِدْتُ أن الناسَ تعلَّموا هذا العلم- يعني: كتبه- على أن لا يُنسبَ إليَّ منه شيءٌ».

إنه يدرك طبيعة النفس البشرية، وحظ الإنسان من نفسه، وأن كثيرًا من الناس يتفاخرون بالعلم كما يتفاخرون بالدنيا والمال والغلبة؛ خصوصًا في ميادين الصراع والجدل والقيل والقال، ويتكثَّرون بالأَتْباع، ولذلك كان يجهر بهذه الكلمات؛ لتبيين منهجه وطريقته، وليتربَّى عليها مَن حوله.

ويقول: «ما ناظرتُ أحدًا قطُّ إِلَّا أحببتُ أن يوفَّق ويُسدَّد ويُعان، ويكون عليه رعاية من الله وحفظ، وما ناظرتُ أحدًا إِلَّا ولم أبالِ بيَّن الله الحق على لساني أو لسانه».

هذا هو المَثَل والخُلُق الرَّفيع الراقي الذي ينبغي أن نجعله قدوة في أحاديثنا ومناظراتنا لمَن نختلف معه، فلا ننفِّره ولا نحشره في زاوية، ولا نعتقد أن التضييق عليه هو الذي يقرِّبه إلى الحق؛ لأن الهدف من المناظرة الدعوة وليس الانتصار.

وقد ذُكر عن رجل كان يناظر داود الأَصْفهاني، فلما ناظره في مسألة قال: إن كنتَ قلتَ كذا، فإنك قد كفرتَ والحمد لله. قال: «كيف تحمد الله على كفر مسلم؟ كان يسعك أن تقول: ولا حول ولا قوة إلا بالله، أو: إنا لله وإنا إليه راجعون. أما الحمد، فإنه يدل على تجدُّد نعمة حصلت لك، فهل تحمد الله على كفر مسلم؟».

ولم يكن الشافعي يجزم بصواب رأيه مطلقًا، إنما كان يقول قولته المشهورة، التي أصبحت دستورًا للمتناظرين من الناحية النظرية، وإن كانت من الناحية العملية أبعد ما تكون عن واقع كثير منهم، كان يقول: «قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب».

وهذه حكمة تاريخية يتغنَّى بها الكثيرون لفظًا ويخالفونها فعلًا، فيرون قولهم صوابًا لا يحتمل الخطأ، ويرون قول غيرهم خطأً لا يحتمل الصواب.

وقد ورد أن الإمام أحمد بن حنبل جاء إلى حلقة سفيان بن عُيينة بمكة، فأشار إلى إسحاق بن راهويه، وكانوا يعدُّونه فقيه خُراسان، فقال له: قم حتى أُرِيَكَ رجلًا لم تَرَ عيناك مثله. فأخذ بيده حتى جاؤوا إلى مجلس الشافعي، فجلسوا، وتحدَّثوا قليلًا. ثم قال إسحاق: هلم لنذهب إلى الرجل الذي لم تر عيناك مثله. فقال أحمد: هذا هو الشافعي. فغضب إسحاق وقال لأحمد: أقمتنا من عند رجل يقول: حدَّثنا الزُّهْري. فما توهَّمت إِلَّا أن تأتي بنا إلى رجل مثل الزُّهْري أو قريبًا منه، فإذا بك تأتي بنا إلى هذا الشاب. فقال أحمد لإسحاق: يا أبا يعقوب، اقتبس منه، فما رأت عيناي مثله.

فجلس إسحاق يناظر الشافعي، فناظره في مسألة دور مكة، فكان الشافعي يستدل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإسحاق يقول: قال فلان وفلان. فقال الشافعي: «ما أحقك أن تكون في غير هذا المكان. أقول لك: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وتقول لي: قال فلان وفلان؟!». فنظر إسحاق إلى الذين معه، ورطن لهم بلغته التي لا يعلمها الشافعي، وقال كلمة معناها: هذا إنسان متعالم. فعرف الشافعي أن الكلام فيه ما فيه، ولكنه أعرض عنه.

ولمَّا تأمل إسحاق كلام الشافعي ندم أشدَّ الندم، وقال: «لما تدبرتُ ما قال الشافعي، علمتُ أنه قد علم ما غاب عنا، واحيائي من محمد بن إدريس! ورجع إسحاق إلى مذهب الشافعي».

إسحاق إمام من أئمة الحديث، ولذا حمل ثناء أحمد على علو الإسناد، أو كثرة المرويات، وأحمد كان أرسخ في الإمامة؛ ولذا نظر إلى فهم الشافعي وشخصيته ولموعه.

هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 129-128

يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي:

https://www.alsallabi.com/uploads/books/16527989340.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022