الخميس

1446-04-14

|

2024-10-17

هجرة عمر ابن الخطاب رضي الله

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة الثالثة

لمَّا أراد عمر الهجرة إِلى المدينة؛ أبى إِلا أن تكون علانيةً، يقول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: قال لي عليُّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: ما علمت أنَّ أحداً من المهاجرين هاجر إِلا متخفِّياً، إِلا عمر بن الخطاب، فإِنَّه لمَّا همَّ بالهجرة؛ تقلَّد سيفه، وتنكَّب قوسه، وانتضى في يده أسهماً، واختصر عنزته، ومضى قبل الكعبة، والملأ من قريشٍ بفنائها، فطاف بالبيت سبعاً متمكِّناً، ثمَّ أتى المقام، فصلَّى متمكِّناً، ثمَّ وقف على الحلق واحدةٍ، واحدةٍ، فقال لهم: شاهت الوجوه، لا يُرغم الله إِلا هذه المعاطس، من أراد أن تثكله أمُّه، ويوتم ولده، أو ترمل زوجه؛ فليلقني وراء هذا الوادي ! قال عليٌّ ـ رضي الله عنه ـ: فما تبعه أحدٌ إِلا قومٌ من المستضعفين علَّمهم، وأرشدهم، ومضى لوجهه.
وكان قدوم عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ إِلى المدينة قبل مقدم النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إِليها، وكان معه مَنْ لحق به أهله وقومه، وأخوه زيد بن الخطَّاب، وعمرو وعبد الله ابنا سراقة بن المعتمر، وخنيس بن حذافة السَّهمي زوج ابنته حفصة، وابن عمِّه سعيد بن زيد، وهو أحد العشرة المبشَّرين بالجنَّة، وواقد بن عبد الله التَّميمي، حليف لهم، وخولي بن أبي خولي، ومالك بن أبي خولي، حليفان لهم من بني عجل، وبنو البكير، وإِياس، وخالد، وعاقل، وعامر، وحلفاؤهم من بني سعد ابن ليث، فنزلوا على رفاعة بن عبد المنذر في بني عمرو بن عوف بقُباء.
يقول البراء بن عازبٍ ـ رضي الله عنه ـ: أوَّل مَنْ قدم علينا مصعب بن عمير، وابن أبي مكتوم، وكانا يُقرئان النَّاس، فقدم بلالٌ، وسعدٌ، وعمَّار بن ياسر، ثم قدم عمر بن الخطَّاب في عشرين نفراً من أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ثمَّ قدم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيءٍ فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهكذا ظلَّ عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ في خدمة دينه، وعقيدته بالأقوال، والأفعال، لا يخشى في الله لومة لائم، وكان رضي الله عنه سنداً، ومعيناً لمن أراد الهجرة من مسلمي مكَّة حتَّى خرج، ومعه هذا الوفد الكبير من أقاربه وحلفائه، وساعد عمر ـ رضي الله عنه ـ غيره من أصحابه الَّذين يريدون الهجرة، وخشي عليهم من الفتنة والابتلاء في أنفسهم، ونتركه يحدِّثنا بنفسه عن ذلك، حيث قال: اتَّعدت لمَّا أردنا الهجرة إِلى المدينة أنا، وعيَّاش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائلٍ السَّهميُّ، التَّناضب، من أضاءة بني غفار فوق سَرِف، وقلنا: أيُّنا لم يصبح عندها؛ فقد حُبس، فليمض صاحباه. قال: فأصبحت أنا، وعيَّاش بن أبي ربيعة عند التَّناضب، وحُبس عنَّا هشام، وفُتن، فافتتن، فلمَّا قدمنا المدينة؛ نزلنا في بني عمرو بن عوف بقُباء، وخرج أبو جهل ابن هشام، والحارث بن هشام إِلى عيَّاش بن أبي ربيعة، وكان ابن عمِّهما، وأخوهما لأمِّهما، حتَّى قدما علينا المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكَّة، فكلَّماه، وقالا: إِنَّ أمَّك نذرت أن لا يمسَّ رأسها مُشطٌ حتَّى تراك، ولا تستظلُّ من شمسٍ حتَّى تراك، فرقَّ لها، فقلت له: عيَّاش ! إِنَّه والله إِن يريدك القوم إِلا ليفتنوك عن دينك، فاحذرهم ! فوالله لو قد اذى أمَّك القمل؛ لامتشطت، ولو قد اشتدَّ عليها حرُّ مكَّة لاستظلَّت.
قال: أبرُّ قسم أمي، ولي هناك مالٌ فاخذه. قال: فقلت: والله إِنَّك لتعلم أنِّي لمن أكثر قريشٍ مالاً، فلك نصف مالي، ولا تذهب معهما. قال: فأبى عليَّ إِلا أن يخرج معهما، فلمَّا أبى إِلا ذلك، قال: قلت له: أما إِذا قد فعلت ما فعلت، فخذ ناقتي هذه، فإِنَّها ناقةٌ نجيبةٌ ذلول، فالزم ظهرها، فإِن رابك من القوم ريب فانْجُ عليها. فخرج عليها معهما، حتَّى إِذا كانوا ببعض الطَّريق قال له أبو جهل: يا أخي ! والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تُعقبني على ناقتك هذه ؟ قال: بلى ! قال: فأناخ، وأناخ، ليتحوَّل عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه، فأوثقاه، ثمَّ دخلا به مكَّة، وفتناه، فافتتن.
قال: فكنَّا نقول: ما الله بقابلٍ ممَّن افتتن صرفاً، ولا عدلاً، ولا توبةً، قومٌ عرفوا الله، ثمَّ رجعوا إِلى الكفر لبلاءٍ أصابهم. قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، فلمَّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؛ أنزل الله تعالى فيهم، وفي قولنا، وقولهم لأنفسهم: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ۝ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ۝ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [الزمر: 53-55]
قال عمر بن الخطاب: فكتبتها بيدي في صحيفة، وبعثت بها إِلى هشام بن العاص. قال: فقال هشام: فلمَّا أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى، أصَعَّد بها فيه، وأصَوَّبُ، ولا أفهمها حتَّى قلت: اللهمَّ فهِّمنيها، قال: فألقى الله في قلبي: أنَّها إِنَّما أنزلت فينا، وفيما كنا نقول في أنفسنا، ويقال فينا. قال: فرجعت إِلى بعيري فجلست عليه، فلحقت برسول الله، وهو بالمدينة.
هذه الحادثة تظهر لنا كيف أعدَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ خطَّة الهجرة له، ولصاحبه عياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل السَّهمي، وكان ثلاثتهم كلُّ واحدٍ من قبيلة، وكان مكان اللِّقاء الَّذي اتَّعدوا فيه بعيداً عن مكَّة، وخارج الحرم على طريق المدينة، ولقد تحدَّد الزَّمان، والمكان بالضَّبط بحيث إِنَّه إِذا تخلَّف أحدهم؛ فليمض صاحباه، ولا ينتظرانه؛ لأنَّه قد حبس، وكما توقعوا، فقد حبس هشام بن العاص ـ رضي الله عنه ـ بينما مضى عمر، وعيَّاش بهجرتهما، ونجحت الخطَّة كاملةً، ووصلا المدينة سالمينإِلا أنَّ قريشاً صمَّمت على متابعة المهاجرين، ولذلك أعدَّت خطَّةً محكمةً قام بتنفيذها أبو جهل، والحارث، وهما أخوا عياشٍ من أمِّه، الأمر الذي جعل عياشاً يطمئنُّ إِليهما، وبخاصَّةٍ إِذا كان الأمر يتعلَّق بأمِّه، فاختلق أبو جهل هذه الحيلة؛ لعلمه بمدى شفقة، ورحمة عيَّاش بأمِّه.
والَّذي ظهر جليّاً عندما أظهر موافقته على العودة معهما، كما تظهر الحادثة الحسَّ الأمني الرَّفيع الَّذي كان يتمتَّع به عمر ـ رضي الله عنه ـ حيث صدقت فراسته في أمر الاختطاف، كما يظهر المستوى العظيم من الأخوَّة الَّتي بناها الإِسلام، فعمر يضحِّي بنصف ماله حرصاً على سلامة أخيه، وخوفاً عليه من أن يفتنه المشركون بعد عودته، ولكن غلبت عيَّاشاً عاطفتُه نحو أمِّه، وبرُّه بها، ولذلك قرَّر أن يمضي لمكَّة، فيبرَّ قسم أمِّه ويأتي بماله الَّذي هناك، وتأبى عليه عفَّته أن يأخذ نصف مال أخيه عمر ـ رضي الله عنه ـ وماله قائم في مكَّة لم يمسَّ، غير أنَّ أفق عمر ـ رضي الله عنه ـ كان أبعد، فكأنَّه يرى رأي العين المصير المشؤوم الَّذي سينزل بعيَّاش لو عاد إِلى مكَّة، وحين عجز عن إِقناعه أعطاه ناقته الذَّلول النَّجيبة، وحدث لعياشٍ ما توقعه عمر من غدر المشركين.
وساد في الصَّفِّ المسلم: أنَّ الله تعالى لا يقبل صرفاً، ولا عدلاً من هؤلاء الَّذين فُتنوا، فافتتنوا، وتعايشوا مع المجتمع الجاهليِّ، فنزل قول الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53] وما أن نزلت هذه الآيات؛ حتَّى سارع الفاروق ـ رضي الله عنه ـ بها إِلى أخويه الحميمين عياشٍ، وهشام، ليجدِّدا محاولاتهما في مغادرة معسكر الكفر. أيُّ سموٍّ عظيمٍ عند ابن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ! لقد حاول مع أخيه عياش، عرض عليه نصف ماله على ألا يغادر المدينة، وأعطاه ناقته ليفرَّ عليها، ومع هذا كلِّه، فلم يشمت بأخيه، ولم يتشفَّ منه؛ لأنه خالفه، ورفض نصيحته، وألقى برأيه خلف ظهره، إِنَّما كان شعور الحبِّ والوفاء لأخيه هو الَّذي يسيطر عليه، فما أن نزلت الآية حتَّى سارع ببعثها إِلى أخويه في مكَّة، وإِلى كلِّ المستضعفين هناك؛ ليقوموا بمحاولاتٍ جديدةٍ للانضمام إِلى المعسكر الإِسلاميِّ.
هذا وقد نزل عمر بالمدينة، وأصبح وزير صدقٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، واخى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بينه وبين عويم بن ساعدة، وقيل: بينه وبين عتبان بن مالكٍ، وقيل: بينه وبين معاذ بن عفراء. وقد علَّق ابن عبد الهادي على ذلك، وقال: لا تناقض بين الأحاديث، ويكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اخى بينه وبين كلِّ أولئك في أوقات متعدِّدة، فإِنَّه ليس بممتنعٍ أن يؤاخى بينه وبين كلِّ أولئك في أوقات متعدِّدة.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022