ابن السنوسي… من نقد أخطاء الصوفية إلى تصحيح مفاهيميها
بقلم: د. علي محمّد الصلابي
الحلقة الخامسة عشر
صفر 1441 ه/ أكتوبر 2019
لقد وقعت كثير من الطرق الصوفية في انحرافات كثيرة، وقد تعرض ابن السنوسي لبعض الطرق ووضح الاخطاء التي وقعت فيها؛ ففي حديثه عن الطريقة الصديقية يقول: (دخل الغلط في الأخلاق على جماعة من هذه الطائفة وذلك من قلة معرفتهم بالأحوال واتباعهم حظوظ النفس، ولكنهم لم يتأدبوا بمن يروضهم ويخرجهم من الرعونات ويجرعهم المرارات ويدلهم على المناهج الرضية في علاج عيوب النفس وطريق دوائها؛ فمثلهم كمثل من يدخل بيتاً مظلماً بلا سراج إلا من أراد الله هديته بجذب عنايته فالله هو الولي الحميد).
وانتقد ابن السنوسي بعض دخلاء المتصوفة: (... ومنها ماكثر به تبجح كثير من بعض المتنسكين ، من دخلاء المتصوفة، وغلاة المتورعين، من الأعجاب بأعمالهم، والتمدح بأحوالهم، وكونهم مخصوصين بينابيع الامداد، ومواهب الكرامة، لايبالون بمن عداهم ولو كانوا على محض الاستقامة...).
وعمل على تصحيح مفاهيم الاسلام التي انحرفت بعض طرق الصوفية عنها، كالعبادة، والتوكل ، والجهاد.
أ- العبادة:
إن من عوامل النهوض التي سار عليها ابن السنوسي تصحيح مفهوم العبادة في أذهان أتباعه ونجد ذلك في قوله لبعض تلاميذه وأخوانه لأي شيء نأمركم بقراءة النحو؟ لإصلاح ألسنتكم لكتاب الله وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ) ثم قال : (بالكم تقولون الذي يقرأ النحو ما نوصله الى الله. بالكم تقولون الذي يخدم الحجر والطين مانوصله الى الله، بالكم تقولون الذي يرعى الابل مانوصله الى الله، وهكذا وعدّ أشياءً كثيرة).
وقد اتضح مفهوم العبادة الشامل عند اتباع الحركة السنوسية، وكان طلاب الزوايا في يوم الخميس من كل اسبوع يخصصونه للشغل بالأيدي، فيتركون الدروس كلها ويشتغلون بأنواع المهن من بناء ونجارة ، وحدادة، ونساجة، وغير ذلك، لا تجد فيهم إلا عاملاً بيده، وكان محمد المهدي السنوسي الزعيم الثاني للحركة يشوق الطلبة والمريدين الى القيام بالحرف والصناعات، ويقول لهم جملاً تطيب خواطرهم وتزيد رغبتهم في حرفهم حتى لايزدروا بها أو يظنوا طبقتهم هي أدنى من طبقة العلماء فكان يقول لهم: (يكفيكم من الدين حسن النية والقيام بالفرائض الشرعية، وليس غيركم بأفضل منكم). وأحياناً يدمج نفسه بين أهل الحرف ويقول لهم وهو يشتغل معهم: (يظن أهل الوريقات والسبيحات أنهم يسبقوننا عند الله، لا والله مايسبقوننا).
إن مفهوم العبادة عند السنوسية وافق تعريف ابن تيمية عندما قال : (العبادة اسم جامع لكل مايحبه الله ويرضاه: من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والصوم والحج، وصدق الحديث وأداء الأمانة ، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، الوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان الى الجار....وأمثال ذلك من العبادة).
ب- التوكل:
كان ابن السنوسي يحب للمسلم أن يعيش من عمل يده وعرق جبينه ليغرس في نفسه حب التعفف قلما رواه عنه كبار الاخوان انه كان يقول: (الذهب في الأرض، فغوصوا لاستخراجه بالمحراث) وكان يقول: ( الدرر في غرس الشجر أو تحت ورق الشجر) ويقول: (اليد العليا خير من اليد السفلى والاستقامة كنز لايبلى والعفة حسب دائم) (ومن مد يده متسولاً قصر لسانه).
وهذه التوجيهات تدلنا على فهم ابن السنوسي لمفهوم التوكل، فدعا الى مباشرة الاسباب مع تفويض الأمر لله تعالى، وحارب التواكل الذي انتشر في كثير من الطرق الصوفية.
ج- الجهاد:
قامت كثير من الحركات الصوفية بصرف الناس عن القتال في سبيل الله وجهاد أعداء الأمة الاسلامية ، وعمل ابن السنوسي على تربية أتباعه على الاستعداد للجهاد في سبيل الله، وكان كثيراً مايدعو للجهاد ويأمر به ضد كل معتد على ارض المسلمين، فقد قام بتنبيه وتحذير الليبيين من غزو الطليان لليبيا قال مرة للشيخ الكاسح أحد زعماء قبيلة العواقير (ماذا أعددت ياشيخ الكاسح للنابلتان إذا غزو بلادك ليأخذها؟) فقال له الشيخ الكاسح أعددت له جراباً من البارود وشيئاً من الرصاص فقال له ابن السنوسي اذا كنت وأنت شيخ القبيلة ولم يوجد عندك إلا هذا المقدار القليل فماذا يوجد عند أفراد القبيلة؟) وأخبره ابن السنوسي أن النابلتان آت للبلاد لا محالة وسيصيبكم منهم أذىً كبيراً وأن الله مع الصابرين ولا تركنوا الى الذين ظلموا فتمسكم النار)، وكان ابن السنوسي يُفَهِّم ذلك لكل من يجالسه من الأخوان ورؤساء الزوايا، وشيوخ القبائل والاعيان، ويأمروهم أن يحذروا من ذلك وأن يحتاطوا له، وأن يأمروا معلمي الصبيان بالقاء الدروس في هذا الشأن وكان يأمر رؤساء الزوايا باقتناء جميع أنواع السلاح ما استطاعوا الى ذلك سبيلا، ويحتفظوا به في مخازن خاصة وذات مرة قال لأحد شيوخ القبائل، أن النابولتان سيغزوا هذا البلد ويقف أهلها للدفاع عنها موقفاً مشرفاً، وسيتخذ النابولتان جميع الوسائل لاخضاعهم، ومن بين هذه الوسائل سيقدمون الأموال للأغراء فماذا أنتم فاعلون في هذه الحالة؟ فقال الشيخ: أننا سنأخذ المال وننثنى عليهم نقاتلهم، فكان جواب ابن السنوسي: من يقبل هديتهم لايقاتلهم، وقد صحّ ذلك كله فعلاً.
وكان يتصيد الفرص لبيان أهمية الاستعداد، وجمع الذخائر، والاحتفاظ بها لوقت الحاجة، فعندما وصل الى العزيات عام 1269هـ قادماً من الحجاز وأخذت وفود القبائل تتوافد على زيارته من جميع أنحاء برقة وطرابلس زرافات ووحدانا، وكان من تقاليد البدو في مثل هذه الحالة أنهم يطلقون الأعيرة النارية من بنادقهم دليلاً على فرحهم وابتهاجهم، وفي ليلة من الليالي كان يتصدر مجلساً من الأخوان وشيوخ الزوايا وزعماء العشائر وذلك بعد صلاة العشاء، فسمع طلقاً متواصلاً من البارود، وسأل عن السبب فقيل له أن (مزاراً) من قبائل العواقير قد وصل الآن؛ (وكلمة مزار تطلق عند البادية على الزائرين) فقال: لقد نبهنا أكثر من مرة للمحافظة على الرصاص والبارود، والعناية بإدخال الأسلحة كي لاتستعمل إلا عند الحاجة، وأن الوقت الذي ندخر له السلاح لآت، ونود من إخواننا وشيوخ العشائر أن يواصلوا أسداء النصح بذلك، فاجابه محمد بن الشفيع بقوله: أتنتظر غزواً خارجياً قريباً؟ فألتفت ابن السنوسي عنه الى الشمال - وكان يستقبل القبلة- وقال : وقد تقطب وجهه أكاد أقول لكم أنني أرى العدو رأي العين؛ ومن مد الله في عمره منكم سوف يقاتله وهو آت من هنا وأشار الى جهة البحر، فاصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون، ثم استشهد بالآية : {ياأيها الذين آمنوا إذا لقيم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره ....) الآية. وأصبح أتباع الحركة السنوسية يستعدون لأعدائهم ، الذين أخبر شيخهم بأنهم قادمون.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي.