شبَّ عيسى عليه السلام وعاش صباه وشبابه طاهراً تقياً، يحفظه الله ويحميه، ويرعاه ويبعد عنه الشيطان ووساوسه، حتى أنزل عليه الوحي وجعله نبيّاً رسولاً، وبعثه إلى بني إسرائيل وأنزل عليه كتابه الإنجيل. وكانت بعثة عيسى عليه السلام وإنزال الإنجيل تحقيقاً للبشرى التي قدَّمها الله إلى أمه قبل حملها به ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ (آل عمران: 48- 49)، وهي تحقيق لما أخبر هو عن نفسه عندما كلَّم قومه وهو في المهد قائلاً (قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً). لقد بعث الله عيسى ابن مريم عليه السلام رسولاً إلى بني إسرائيل فقط، وورد هذا في صريح آيات القرآن الكريم:
- قال تعالى: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ (آل عمران: 49).
- وقال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ (الصف: 6).
خاطب عيسى عليه السلام بني إسرائيل وصارحهم بقوله (يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم). وأخبرهم أنه مصدقاً لما سبقه من التوراة، وأنه يبشِّرهم بالنبي الخاتم الذي سيبعث من بعده وهو (محمد بن عبد الله) صلى الله عليه وسلم. وبعثة عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل فقط؛ لأن كل نبيّ كان يبعث إلى قومه خاصَّة إلا رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله إلى الناس كافَّة، فكل نبي كان يقول لقومه (إني رسول الله إليكم)، أما رسولنا صلى الله عليه وسلم فقد قال: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ (الأعراف: 158).
إن عيسى عبد الله ونبيه ورسوله عليه السلام، ويجب الإيمان بنبوَّته ورسالته إلى بني إسرائيل، ومن أنكر كونه نبياً رسولاً فقد كفر، ولهذا كان من أسباب كفر اليهود إنكارهم نبوَّة ورسالة عيسى عليه السلام |
وهذا ما ورد في صريح حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمساً لم يعطهنَّ أحدٌ قبلي، كان كل نبيٍّ يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحِلَّت لي الغنائم ولم تَحِلَّ لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض طيبة طهوراً ومسجداً، فإيُّما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرُّعب بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة". والشاهد فيه قوله: "كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود".
ومن لطائف التعبير القرآني أن عيسى بلَّغ رسالته إلى بني إسرائيل بقوله (يا بني إسرائيل)، ولم يقل (يا قوم)، بينما أخبر القرآن في الآية السابقة من سورة الصف أن موسى عليه السلام قال لهم: (يا قوم). قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ﴾ (الصف: 5). موسى عليه السلام يقول لبني إسرائيل: (يا قوم)، وعيسى عليه السلام يقول لهم: (يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم)، ولم يقل: (يا قوم).
والحكمة في هذا أن الرجل ينسب إلى قوم أبيه، فيقال: هو من بني فلان ويخاطبهم هو قائلاً يا قوم. وهذا متحقق في موسى عليه السلام خلافاً للمسيح عيسى عليه السلام؛ لأنه ابن عمران وأبوه عمران من بني إسرائيل، وأما عيسى فليسوا قومه، بل لا قوم له من البشر، لأنه ليس له أب. والخلاصة: أن عيسى عليه السلام كان مرسلاً ومكلفاً بتبليغ رسالة ربه إلى بني إسرائيل، وقد قام عيسى بواجب الدعوة إلى الله على الوجه الأكمل في مدن بني إسرائيل وقراهم.
إن قيام عيسى عليه السلام بدعوة بني إسرائيل وقصر دعوته إليهم ليس فيه أيُّ انتقاص من شأنه ولا أي تقليل لرسالته، فإن دعوة جميع الأنبياء عليهم السلام كانت خاصة إلى أقوامهم وليس في القرآن الكريم ولا في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ما يشير أو يدل على أن رسالة الأنبياء أو أحد منهم كانت عامة، وإنما كل نبي أو رسول كان يدعو قومه فقط، باستثناء محمد صلى الله عليه وسلم الذي كانت رسالته عامة للناس جميعاً. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الروم: 47). وكون الأنبياء خصُّوا بأقوامهم لا مجال للاجتهاد فيه، أو الاعتراض عليه لقوله تعالى: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ (الأنعام: 124).
فهو أعلم بأحوال الناس والبيئات، قد كانت رسالات الأنبياء - ومنهم أنبياء بني إسرائيل- متناسبة مع الزمن والمكان آنذاك، ولهذا وجدنا جميع أنبيائهم لم تتجاوز دعوتهم بلاد العراق أو بلاد الشام أو بلاد مصر، أي أنهم لم يخرجوا من الأرض التي يسكنونها، ولم يوجهوا دعوتهم إلا لأمتهم من بني إسرائيل. لعلم الله أن شرائع الأنبياء ستنسخ بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وبالنسبة لعيسى عليه السلام فقد بلغ رسالة ربه، ودعا بني إسرائيل إلى وحدانية الله، وعدم الإشراك به بقوله تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ (المائدة: 72).
معنى (وقفينا بعيسى ابن مريم): أتبعنا الرسل اللاحقين كموسى وهارون عليهما السلام برسولنا عيسى ابن مريم عليه السلام، وآتيناه الإنجيل، وجعلناه آخر أنبياء بني إسرائيل |
إن عيسى عبد الله ونبيه ورسوله عليه السلام، ويجب الإيمان بنبوَّته ورسالته إلى بني إسرائيل، ومن أنكر كونه نبياً رسولاً فقد كفر، ولهذا كان من أسباب كفر اليهود إنكارهم نبوَّة ورسالة عيسى عليه السلام. قال تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (البقرة: 136).
وأخبر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الميثاق منه كما أخذه من أولى العزم من قبله، ومنهم عيسى عليه السلام قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ (الأحزاب: 7). وهذا ما قرَّره رسولنا صلى الله عليه وسلم حيث روى البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من عمل". والإيمان بنبوة عيسى عليه السلام يجب أن يكون إيماناً بالأمور التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه: عبد الله ورسوله، وكلمة الله تعالى ألقاها إلى مريم عليها السلام، وروح من الله خلقها في رحم مريم. وقد بينا معنى كونه كلمة وروحاً من الله فيما مضى ولله الحمد.
صرَّح القرآن الكريم في أكثر من موضع بأن عيسى عليه السلام "مقفَّى"؛ قفَّى الله به على آثار الأنبياء السابقين وبعثه بعدهم، وهو آخر أنبياء بني إسرائيل. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ (البقرة: 87). وقال تعالى: ﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾ (المائدة: 46). وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ﴾ (الحديد: 26- 27).
ومعنى (ثم قفينا على آثارهم برسلنا): اتبعنا على آثار الرسل السابقين كنوحٍ وإبراهيم، برسلٍ لاحقين جاؤوا بعدهم كموسى وهارون. ومعنى (وقفينا بعيسى ابن مريم): أتبعنا الرسل اللاحقين كموسى وهارون عليهما السلام برسولنا عيسى ابن مريم عليه السلام، وآتيناه الإنجيل، وجعلناه آخر أنبياء بني إسرائيل. وهكذا جعل الله عيسى عليه السلام خاتم أنبياء بني إسرائيل، ولم يبعث بعده رسولاً إلا خاتم الأنبياء والمرسلين والرحمة لجميع العالمين، محمد صلى الله عليه وسلم.
مراجع البحث:
- علي محمّد محمّد الصّلابيّ، المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام (الحقيقة الكاملة)، 2019م، ص (165:160)
- صلاح الخالدي، القصص القرآني: عرض وقائع وتحليل أحداث، دار القلم، دمشق، ط1 1998م، 4/286.
- فرج الله عبد الباري، نقض دعوى عالمية النصرانية، دار الآفاق العربية، القاهرة، ط1، 2004م، ص 18.