الحريات المتعددة زمن الفاروق...من ضروريات الحكم الإسلامي الراشد
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الثامنة عشر
مبدأ الحرية من المبادئ الأساسيَّة؛ الَّتي قام عليها الحكم في عهد الخلفاء الرَّاشدين، ويقضي هذا المبدأ بتأمين وكفالة الحرِّيَّات العامَّة للنَّاس كافَّة ضمن حدود الشَّريعة الإِسلاميَّة، وبما لا يتناقض معها، فقد كانت دعوة الإِسلام لحرِّيَّة النَّاس ـ جميع النَّاس ـ دعوةً واسعةً وعريضةً، قلَّما تشتمل على مثلها دعوةٌ في التَّاريخ، وكانت أوَّل دعوةٍ أطلقها في هذا المجال هي دعوته النَّاس في العديد من الآيات القرآنية لتوحيد الله، والتَّوجُّه له بالعبادة وحده دون سائر الكائنات، والمخلوقات، وفي دعوة التوحيد هذه كلُّ معاني الحرِّيَّة، والاستقلال لبني الإِنسان، أضف إِلى ذلك: أنَّ الإِسلام عرف الحرِّيَّة بكلِّ معانيها ومدلولاتها ومفاهيمها، فتارةً تكون فعلاً إِيجابيّاً، كالأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، وتارةً فعلاً سلبيّاً كالامتناع عن إِكراه أحد في الدُّخول في الدِّين، وفي أحيانٍ كثيرةٍ، يختلط معناها بمعنى الرَّحمة، والعدل، والشُّورى، والمساواة؛ لأنَّ كلَّ مبدأ من هذه المبادئ الَّتي نادى بها الإِسلام لا يستقيم أمره، ولا يمكن تحقيقه إِلا بوجود الحرِّيَّة.
وقد أسهم مبدأ الحرِّيَّة مساهمةً فعَّالةً إِبَّان حكم الخلفاء الرَّاشدين خاصَّةً بانتشار الدِّين الإِسلاميِّ، وبتسهيل فتوحات المسلمين، واتِّساع رقعة دولتهم؛ لأنَّ الإِسلام كرَّم الإِنسان، وكفل حرِّياته على أوسع نطاق، ولأنَّ النُّظم السِّياسيَّة الأخرى السَّائدة آنذاك في دولة الرُّوم والفرس كانت أنظمةً استبداديَّةً، وتسلُّطيَّةً، وفئويَّةً، قاسى بسببها الرَّعايا وبصورةٍ خاصَّةٍ المناوئون السِّياسيُّون، والأقلِّيات الدِّينيَّة أشد درجات الكبت، والاضطهاد، والظُّلم.
فعلى سبيل المثال كانت دولة الرُّوم تفرض على الاخذين بالمذهب اليعقوبي، ولا سيَّما في مصر والشَّام، أن يدينوا بالمذهب الملكاني (دينها الرَّسمي) وكم أخذ المخالفون بالمشاعل توقد نيرانُها، ثمَّ تسلط على أجسامهم حتَّى يحترقوا، ويسيل الدُّهن من جوانبهم على الأرض، والجبابرة القساة يحملونهم حملاً على الإِيمان بما أقرَّه مجمع مقدونية، أو يضعونهم في كيسٍ مملوءٍ بالرِّمال ثمَّ يلقون بهم في أعماق البحار.
وكذلك كانت دولة فارس في مختـلف العصور تضطهـد معتنقي الملل السَّماويَّـة، ولا سيما المسيحيِّين بعد ازدياد القتال عنفاً بينها وبين دولة الرُّوم. وأمَّا في الإِسلام في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعصر الخلفاء الرَّاشدين، فقد كانت الحرِّيات العامَّة المعروفة في أيَّامنا معلومةً، ومصونة تماماً، وإِليك بعض التَّفصيل عن الحرِّيات في زمن الفاروق رضي الله عنه:
1ـ حرية العقيدة الدِّينيَّة:
إِنَّ دين الإسلام لم يُكره أحداً من النَّاس على اعتناقه، بل دعا إِلى التَّفكير، والتأمُّل في كون الله، ومخلوقاته، وفي هذا الدِّين، وأمر أتباعه أن يجادلوا النَّاس بالَّتي هي أحسن، قال تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]. وقال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ} [الشورى: 48]. وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ *} [النحل: 125].
وقال تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ *} [العنكبوت: 46] والآيات في ذلك كثيرةٌ، ولذلك نجد الفاروق في دولته حرص على حماية الحرِّيَّة الدِّينيَّة، ونلاحظ بأنَّ عمر سار على هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، والخليفة الرَّاشد أبي بكرٍ في هذا الباب، فقد أقرَّ أهل الكتاب على دينهم؛ وأخذ منهم الجزية، وعقد معهم المعاهدات، كما سيأتي تفصيله، وخُطِّطت معابدهم، ولم تهدم، وتركت على حالها، وذلك لقول الله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40].
فحركة الفتوحات في عهد الفاروق الَّتي قام بها الصَّحابة تشهد على احترام الإِسلام للأديان الأخرى، وحرص القيادة العليا على عدم إِكراه أحدٍ في الدُّخول في الإِسلام، حتَّى إِنَّ الفاروق نفسه جاءته ذات يوم امرأة نصرانية عجوز كانت لها حاجةٌ عنده، فقال لها: أسلمي؛ تسلمي، إِنَّ الله بعث محمَّداً بالحقِّ، فقالت: أنا عجوزٌ كبيرةٌ، والموت إِليَّ أقرب، فقضى حاجتها، ولكنَّه خشي أن يكون في مسلكه هذا ما ينطوي على استغلال حاجتها لمحاولة إِكراهها على الإِسلام، فاستغفر الله ممَّا فعل، وقال: اللَّهمَّ إِنِّي أرشدت، ولم أكره!
وكان لعمر ـ رضي الله عنه ـ عبدٌ نصرانيٌّ اسمه: (أشق) حدَّث فقال: كنت عبداً نصرانيّاً لعمر، فقال: أسلم حتَّى نستعين بك على بعض أمور المسلمين؛ لأنَّه لا ينبغي لنا أن نستعين على أمورهم بمن ليس منهم، فأبيت، فقال: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]. فلمَّا حضرته الوفاة أعتقني، وقال: اذهب حيث شئت.
وقد كان أهل الكتاب يمارسون شعائر دينهم، وطقوس عبادتهم في معابدهم، وبيوتهم، ولم يمنعهم أحدٌ من ذلك؛ لأنَّ الشَّريعة الإِسلاميَّة حفظت لهم حتَّى الحرِّيَّة في الاعتقاد.
وقد أورد الطَّبريُّ في العهد الَّذي كتبه عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لأهل إِيلياء (القدس) ونصَّ فيه على إِعطاء الأمان لأهل إِيلياء على أنفسهم، وأموالهم، وصلبانهم، وكنائسهم، وكتب والي عمر بمصر عمرو بن العاص لأهل مصر عهداً جاء فيه: بسم الله الرَّحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن العاص لأهل مصر من الأمان على أنفسهم، وملَّتهم، وأموالهم، وكنائسهم، وصلبهم، وبرِّهم، وبحرهم، وأكَّد ذلك العهد بقوله: على ماضي هذا الكتاب عهدُ الله وذمَّة رسوله، وذمَّة الخليفة أمير المؤمنين، وذممُ المؤمنين.
وقد اتَّفق الفقهاءعلى أنَّ لأهل الذِّمَّة ممارسة شعائرهم الدِّينية، وأنَّهم لا يمنعون من ذلك ما لم يظهروا، فإِن أرادوا ممارسة شعائرهم إِعلاناً، وجهراً، كإِخراجهم الصُّلبان يرون منعهم من ذلك في أمصار المسلمين، وعدم منعهم في بلدانهم، وقراهم.
يقول الشَّيخ الغزاليُّ عن كفالة الإِسلام لحريَّة المعتقد: إِنَّ الحرِّيَّة الدِّينيَّة الَّتي كفلها الإِسلام لأهل الأرض لم يُعرف لها نظيرٌ في القارَّات الخمس، ولم يحدث أن انفرد دينٌ بالسُّلطة، ومنح مخالفيه في الاعتقاد كلَّ أسباب البقاء والازدهار مثل ما صنع الإِسلام.
لقد حرص الفاروق على تنفيذ قاعدة حرِّيَّة الاعتقاد في المجتمع، ولخَّص سياسته حيال النَّصارى، واليهود بقوله: وإِنَّا أعطيناهم العهد على أن نخلي بينهم وبين كنائسهم، يقولون فيها ما بدا لهم، وألا نحمِّلهم ما لا يطيقون، وإِن أرادهم عدوُّهم بسوءٍ قاتلنا دونهم، وعلى أن نخلِّي بينهم وبين أحكامهم، إِلا أن يأتوا راضين بأحكامنا، فنحكم بينهم، وإِن غيَّبوا عنَّا؛ لم نتعرَّض لهم.
وقد ثبت عن عمر: أنه كان شديد التَّسامح مع أهل الذِّمَّة، حيث كان يعفيهم من الجزية عندما يعجزون عن تسديدها، فقد ذكر أبو عبيد في كتاب الأموال: إِنَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ مرَّ بباب قومٍ وعليه سائلٌ يسأل ـ شيخٌ كبيرٌ ضريرُ البصر ـ فضرب عضده من خلفه وقال: من أيِّ أهل الكتاب أنت ؟ فقال: يهوديٌّ، قال: فما ألجأك إِلى ما أرى ؟ قال: أسأل الجزية، والحاجة، والسِّنَّ، قال: فأخذ عمر بيده، وذهب به إِلى منزله، فرضخ له بشيءٍ من المنزل، ثمَّ أرسل إِلى خازن بيت المال، فقال: انظر هذا، وضرباءه؛ فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثمَّ نخذله عند الهرم ! ووضع عنه الجزية، وعن ضربائه، وقد كتب إِلى عمَّاله معمِّماً عليهم هذا الأمر. وهذه الأفعال تدلُّ على عدالة الإِسلام، وحرص الفاروق أن تقوم دولته على العدالة والرِّفق برعاياه ولو كانوا من غير المسلمين، وقد بقيت الحرِّيَّة الدِّينيَّة معلماً بارزاً في عصر الخلافة الرَّاشدة، مكفولةً من قبل الدَّولة، ومصونةً بأحكام التَّشريع الرَّبَّانيِّ.
2ـ حرِّيَّة التَّنقُّل، أو حرِّيَّة الغدو والرَّواح:
حرص الفاروق على هذه الحرِّيَّة حرصاً شديداً، ولكنَّه قيَّدها في بعض الحالات الاستثنائية الَّتي استدعت ضرورةًُ لذلك، أمَّا الحالات الاستثنائيَّة الَّتي جرى فيها تقييد حريَّة التَّنقُّل، أو حرِّيَّة المأوى؛ فهي قليلةٌ جدّاً، ويكفينا أن نشير إِلى حالتين نظراً لأهمِّيتهما:
أـ أمسك عمر كبار الصَّحابة في المدينة، ومنعهم من الذَّهاب إِلى الأقطار المفتوحة إِلا بإِذنٍ منه، أو لمهمَّة رسميَّةٍ، كتعيين بعضهم ولاةً، أو قادةً للجيوش، وذلك حتَّى يتمكَّن من أخذ مشورتهم، والرُّجوع إِليهم فيما يصادفه من مشاكل في الحكم، ويحول في الوقت نفسه دون وقوع أيَّة فتنةٍ، أو انقسامٍ في صفوف المسلمين في حال خروجهم للأمصار، واستقرارهم فيها، فقد كان من حكمته السِّياسيَّة، ومعرفته الدَّقيقة لطبائع النَّاس، ونفسيتهم: أنَّه حصر كبار الصَّحابة في المدينة، وقال: أخوف ما أخاف على هذه الأمَّة انتشاركم في البلاد.
وكان يعتقد: أنَّه إِذا كان التَّساهل في هذا الشَّأن؛ نجمت الفتنة في البلاد المفتوحة، والتفَّ النَّاس حول الشَّخصيَّات المرموقة، وثارت حولها الشُّبهات، وكثرت القيادات، والرَّايات، وكان من أسباب الفوضى.
لقد خشي عمر ـ رضي الله عنه ـ من تعدُّد مراكز القوى السِّياسيَّة، والدِّينيَّة داخل الدَّولة الإِسلاميَّة، حيث يصبح لشخص هذا الصَّحابيِّ الجليل، أو ذاك هالةٌ من الإِجلال، والاحترام على رأيه، ترقى به إِلى مستوى القرار الصَّادر من السُّلطة العامَّة، وتجنُّباً لتعدُّد مراكز القوى، وتشتُّت السُّلطة؛ فقد رأى عمر إِبقاء كبار الصَّحابة داخل المدينة، يشاركونه في صناعة القرار، ويتجنَّبون فوضى الاجتهاد الفرديِّ، ولولا هذا السَّند الشَّرعيُّ؛ لكان القرار الصَّادر عن عمر ـ رضي الله عنه ـ غير مجدٍ، ولا ملزم لافتقاده لسببه الشَّرعيِّ؛ الذي يسوِّغه؛ إِذ التصرُّف على الرَّعيَّة منوطٌ بالمصلحة.
ب ـ وأمَّا الحالة الثَّانية؛ فقد حصلت عندما أمر عمرُ بإِجلاء نصارى نجران، ويهود خيبر من قلب البلاد العربيَّة إِلى العراق، والشام. وسبب ذلك: أنَّ يهود خيبر، ونصارى نجران لم يلتزموا بالعهود، والشُّروط؛ الَّتي أبرموها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجدَّدوها مع الصِّدِّيق، فقد كانت مقرَّات يهود خيبر، ونصارى نجران أوكاراً للدَّسائس والمكر، فكان لابدَّ من إِزالة تلك القلاع الشَّيطانيَّة، وإِضعاف قوَّاتهم، أمَّا بقية النَّصارى، واليهود، كأفرادٍ، فقد عاشوا في المجتمع المدني يتمتَّعون بكلِّ حقوقهم.
روى البيهقيُّ في سننه، وعبد الرَّزاق بن همَّام الصَّنعانيُّ في مصنفه عن ابن المسيِّب، وابن شهابٍ: أنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: « لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ». قال مالك: قال ابن شهاب: ففحص عن ذلك عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ حتَّى أتاه الثَّلج واليقين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لا يجتمع دينان في جزيرة العرب »، فأجلى يهود خيبر. قال مالك: قد أجلى عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ يهود نجران، وفدك.
لقد كانت نبوَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بالنِّسبة للصَّحابة يقيناً، ولذلك لم يستطع اليهود، ولا نصارى نجران أن يلتزموا بعهودهم مع المسلمين لشدَّة عداوتهم، وبغضهم، وحسدهم للإِسلام والمسلمين، فاليهود في خيبر كان من أسباب إِجلائهم ما رواه ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: لمَّا فَدَعَ أهل خيبر عبد الله بن عمر؛ قام عمر خطيباً، فقال: إِنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عامل يهود خيبر على أموالهم، وقال: نقرُّكم ما أقرَّكم الله، وإِن عبد الله بن عمر خرج إِلى ماله هناك، فَعُديَ عليه من اللَّيل، ففُدِعَتْ يداه ورجلاه، وليس لنا هناك عدوٌّ غيرهم هم عدوُّنا، وتُهْمَتُنَا، وقد رأيت إِجلاءهم، فلمَّا أجمع عمر على ذلك أتاه أحد بني الحقيق، فقال: يا أمير المؤمنين ! أتخرجنا، وقد أقرَّنا محمَّد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعاملنا على الأموال، وشرط ذلك لنا ؟ فقال عمر: أظننت أنِّي نسيت قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: « كيف بك إِذا أخرجت من خيبر تعدو بك قلوصك ليلةً بعد ليلة ؟ » فقال: كان ذلك هزيلةً من أبي القاسم. فقال: كذبت يا عدوَّ الله ! فأجلاهم عمر، وأعطيناهم قيمة ما كان لهم من الثَّمر مالاً، وإِبلاً، وعروضاً من أقتابٍ، وحبالٍ وغير ذلك.
لقد غدر اليهود، ونقضوا عهودهم، فكان طبيعيّاً أن يُخرجوا من جزيرة العرب تنفيذاً لوصية رسول الله، فأجلاهم عمر إِلى تيماء، وأريحا، وأمَّا نصارى نجران فلم يلتزموا بالشُّروط والعهود الَّتي أبرموها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجدَّدوها مع الصِّدِّيق، فأخلُّوا ببعضها، وأكلوا الرِّبا وتعاملوا به، فأجلاهم الفاروق من نجران إِلى العراق، وكتب لهم: أمَّا بعد.. فمن وقع به من أمراء الشَّام، أو العراق فليوسعهم خريب الأرض، وما اعتملوا من شيءٍ؛ فهو لهم لوجه الله، وعقبٌ من أرضهم. فأتوا العراق فاتَّخذوا النَّجرانيَّة ـ وهي قريةٌ بالكوفة ـ، وذكر أبو يوسف: أنَّ الفاروق خاف من النَّصارى على المسلمين.
وبذلك تتجلَّى سياسة الفاروق فيما فعل من إِخراجهم بعد توفُّر أسباب أخرى إِضافةً إِلى وصيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتجلَّى فقه الفاروق في توجيه الضَّربات المركَّزة إِلى مقرَّات اليهود في خيبر، والنَّصارى في نجران بعد أن وجدت المبرِّرات اللازمة لإِخراجهم من جزيرة العرب بدون ظلمٍ، أو عسفٍ، أو جورٍ، وهكذا منع أوكار الدَّسائس، والمكر من أن تأخذ نفساً طويلاً للتَّخطيط من أجل القضاء على دولة الإِسلام الفتيَّة.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf