السؤال
فيما يتعلق بسورة الفتح 48/ 22-23 ، إنها محيرة بعض الشيء بالنسبة لي؛ لأنه يبدو أن الآيات تقول: إن المسلمين لن يخسروا أبدًا في معركة مع الكفار؛ لأن هذا هو سبيل الله، ففتحت تفسير ابن كثير، وهو يقول الشيء نفسه، لكن هذا لا معنى له؛ لأنه ليس هو الحال ببساطة، إنه ليس حقيقياَ، أمتنا لم تنتصر دائماَ في كل معركة ضد الكفار، فكيف تُفهم هذه الآيات، أرجو الإجابة بالتفسير؟
الجواب
ذات صلة
الحمد لله.
أولًا:
يقول الله سبحانه وتعالى: وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا الفتح/22-23.
هاتان الآيتان الكريمتان من آيات سورة "الفتح"، وقد نزلت السورة الكريمة بعد صلح الحديبية، وبيعة الرضوان.
وقد بشر الله تعالى في هذه الآيات الكريمة التي نزلت بعد البيعة المباركة بتلك البشرى العظيمة: أن الكفار لن يثبتوا للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه بعد اليوم في معركة ، بل متى قاتلهم المؤمنون، فسوف يفرون أمامهم، ويولون الأدبار، وذلك من نصر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ومن معه ، كما نصر الرسل من قبل على من كذبهم، وعاداهم.
ولأجل ما ذكرناه ، من تعيين المخاطب بالآيات الكريمة، صرح بعض المفسرين بالمراد من الاسم الموصول في الآية ( الذين كفروا )، أخذا من ذلك.
قال البيضاوي: " ( وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) : من أهل مكة ، ولم يصالحوا ( لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ): لانهزموا " انتهى، من "تفسير البيضاوي" (5/130).
وبعضهم عين المراد بالوقعة التي لأجلها جاء الوعيد.
قال الجلال المحلي، رحمه الله: " ( وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) : بِالْحُدَيْبِيَةِ " انتهى، من "تفسير الجلالين" (682).
والقول بأن المراد بـ"كاف" الخطاب في قوله تعالى : ( ولو قاتلكم ) : النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من أهل بيعة الشجرة ، وأن ( الذين كفروا ) : هم كفار قريش ومن معهم = هذا القول هو قول أئمة المفسرين من السلف، وهو الذي لا نجد غيره في كتب التفاسير المتقدمة .
روى الإمام أبو عبيد القاسم ابن سلام، رحمه الله في كتابه "الأموال" (206) بإسناده، عن عروة: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَيْعَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، رَغِبَتْ تِلْكَ الْبَيْعَةَ مَنْ كَانُوا ارْتَهَنُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ دَعُوا إِلَى الْمُوَادَعَةِ وَالصُّلْحِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تبارك وتعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا [الفتح: 24].
قَالَ عُرْوَةُ: ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ تبارك وتعالى الْقِتَالَ، فَقَالَ: وَلَوْ قَاتِلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [الفتح: 22] قَالَ: فَهَادَنَتْ قُرَيْشٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَالَحَتْهُ عَلَى سِنِينَ أَرْبَعٍ، أَنْ يَأْمَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، عَلَى أَلَّا إِغْلَالَ وَلَا إِسْلَالَ، فَمَنْ قَدِمَ حَاجًّا، أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ مُجْتَازًا إِلَى الْيَمَنِ أَوْ إِلَى الطَّائِفِ، فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَامِدًا إِلَى الشَّامِ أَوْ إِلَى الْمَشْرِقِ، فَهُوَ آمِنٌ، قَالَ: وَأَدْخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عَهْدِهِ بَنِي كَعْبٍ، وَأَدْخَلَتْ قُرَيْشٌ فِي عَهْدِهَا حُلَفَاءَهَا بَنِي كِنَانَةَ: وَعَلَى أَنَّهُ مَنْ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُسْلِمًا رَدَّهُ إِلَيْهِمْ، وَمَنْ أَتَاهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَرُدُّوهُ إِلَيْهِ". انتهى.
وقال الإمام محمد بن جرير الطبري، رحمه الله في "تفسيره" (22/ 235):
" يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أهل بيعة الرضوان: (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله أيها المؤمنون، بمكة (لَوَلَّوُا الأدْبَارَ) يقول: لانهزموا عنكم، فولوكم أعجازهم، وكذلك يفعل المنهزم من قِرنه في الحرب.
(ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا) يقول: ثم لا يجد هؤلاء الكفار المنهزمون عنكم، المولوكم الأدبار، وليًّا يواليهم على حربكم، ولا نصيرا ينصرهم عليكم، لأن الله تعالى ذكره معكم، ولن يُغلَب حزب الله ناصره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأدْبَارَ) يعني كفار قريش، قال الله (ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا) ينصرهم من الله.
وقوله (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ): يقول تعالى ذكره: لو قاتلكم هؤلاء الكفار من قريش، لخذلهم الله حتى يهزمهم عنكم، خذلانه أمثالهم من أهل الكفر به، الذين قاتلوا أولياءه من الأمم الذين مضوا قبلهم.
وأخرج قوله (سُنَّةَ اللَّهِ) نصبا من غير لفظه، وذلك أن في قوله (لَوَلَّوُا الأدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا) معنى سننت فيهم الهزيمة والخذلان، فلذلك قيل: (سُنَّةَ اللَّهِ) مصدرا من معنى الكلام لا من لفظه، وقد يجوز أن تكون تفسيرا لما قبلها من الكلام.
وقوله (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا) يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولن تجد يا محمد لسنة الله التي سنها في خلقه تغييرا، بل ذلك دائم للإحسان جزاءه من الإحسان، وللإساءة والكفر العقاب والنكال". انتهى.
وقال الإمام أبو محمد ابن عطية، رحمه الله في "تفسيره" (5/ 135):
" وقوله: ( وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ) : إشارة إلى قريش ومن والاها في تلك السنة. قاله قتادة.
وفي هذا تقوية لنفوس المؤمنين.
وقال بعض المفسرين: أراد الروم وفارس.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وإنما الإشارة إلى العدو الأحضر.
وقوله: ( سُنَّةَ اللَّهِ ) : إشارة إلى وقعة بدر.
وقيل: إشارة إلى عادة الله من نصر الأنبياء قديما". انتهى.
وينظر أيضا: "زاد المسير" لابن الجوزي (4/ 134) ، "مفاتيح الغيب" للفخر الرازي (28/80).
وعلى هذا القول المعروف عند أئمة السلف ومفسريهم: فلا إشكال في الآية ، وقد تحقق وعد الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ومن منعه من المؤمنين، فلم يثبت له كفار قريش، ولا من معهم وناصرهم من مشركي العرب في معركة ولا قتال، حتى فتح الله عليه مكة ، ودخل الناس في دين الله أفواجا.
قال الفخر الرازي، رحمه الله: ( وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ): وَهُوَ يَصْلُحُ جَوَابًا لِمَنْ يَقُولُ: كَفُّ الْأَيْدِي عَنْهُمْ كَانَ أَمْرًا اتِّفَاقِيًّا، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمُ الْعَرَبُ كَمَا عَزَمُوا لَمَنَعُوهُمْ مِنْ فَتْحِ خَيْبَرَ وَاغْتِنَامِ غَنَائِمِهَا؟
فَقَالَ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ سَوَاءٌ قَاتَلُوا أَوْ لَمْ يُقَاتِلُوا لَا يُنْصَرُونَ، وَالْغَلَبَةُ وَاقِعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَيْسَ أَمْرُهُمْ أَمْرًا اتِّفَاقِيًّا، بَلْ هُوَ إِلَهِيٌّ مَحْكُومٌ بِهِ مَحْتُومٌ". انتهى، من "مفاتيح الغيب" (28/ 80).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: " وَكَانَ كَذَلِكَ؛ فَلَمْ يُقَاتِلُوهُمْ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ ، إِلَّا انْتَصَرَ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ، وَمَا زَالَ الْإِسْلَامُ فِي عِزٍّ وَظُهُورٍ حَتَّى ظَهَرَ عَلَى أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ". انتهى، من "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية" (6/ 75).
وقال شيخ الإسلام أيضا: " والصحابة الذين قاتلوا الكفار والمرتدين كانوا منصورين نصرا عظيما، فالنصر وقع كما وعد الله به حيث قال: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد [سورة غافر: 51]؛ فالقتال الذي كان بأمر الله وأمر رسوله من المؤمنين للكفار والمرتدين والخوارج، كانوا فيه منصورين نصرا عظيما، إذا اتقوا وصبروا، فإن التقوى والصبر من تحقيق الإيمان الذي علق به النصر". انتهى، من منهاج السنة النبوية (7/ 21).
ثانيا:
كلام ابن كثير رحمه الله - المشار إليه في السؤال ـ لم يُرد به أن الآيات بشارة بالنصر في كل معركة، فهذا لم يحصل لا للأنبياء، ولا لأتباعهم، وابن كثير إمام مفسر، ومؤرخ، وعالم بالسير والمغازي، فلا يخفى عليه مثل ذلك.
وإنما قصد في ذلك المعارك المفصلية بين أهل الإيمان والكفر.
فقال: " ما تقابل الكفر والإيمان في موطن فيصل إلا نصر الله الإيمان على الكفر، فرفع الحق ووضع الباطل، كما فعل تعالى يوم بدر بأوليائه المؤمنين نصرهم على أعدائه من المشركين، مع قلة عدد المسلمين وعددهم، وكثرة المشركين وعددهم" انتهى من "تفسير القرآن العظيم" (7/ 341)
وهكذا الشأن في "أيام الله" في الأمم، كانت العاقبة للرسل، والهلاك فيها لأعدائها.
قال العلامة الطاهر ابن عاشور، رحمه الله: " وإنما يكون كمال النصر على حسب ضرورة المؤمنين، وعلى حسب الإيمان والتقوى، ولذلك كان هذا الوعد غالبا للرسول ومن معه؛ فيكون النصر تاما في حالة الخطر، كما كان يوم بدر، ويكون سجالا في حالة السعة، كما في وقعة أحد.
وقد دل على ذلك قول النبيء صلى الله عليه وسلم يوم بدر: ( اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ) ، وقال الله تعالى: ( قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ) [الأعراف: 128]". انتهى، من التحرير والتنوير" (26/ 183).
ثالثا:
لم يقل أحد من أهل العلم إن في هذه الآية بشارة بنصر "جميع" المؤمنين، في "كل" معاركهم التي يخوضونها ضد الكفار، ولا يمكن أن يقول هذا أحد؛ فإن هذا مخالف لمقتضى الواقع، حتى في عهد رسول الله صلى الله عليه؛ فضلا عما بعده من الأزمان إلى قيام الساعة، كما هو مشاهد معلوم.
بل إن "سنة الله" التي ذكرها الله في هذه الآيات، وطمأن بها قلوب أوليائه من المؤمنين؛ لم تكن أن ينتصر "الأنبياء"، ولا "المؤمنون" في كل معركة لهم مع الكفار، بل كان الحرب تكون سجالا، ينصر الله عباده مرة، وينتصر المشركون أخرى، ثم إن العاقبة تكون – دائما – لأوليائه.
وبهذا الأمر الواقع، والصفة المتحققة: استدل "هرقل" ملك الروم، على صحة نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، في الحديث المعروف:
"وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّكُمْ قَدْ قَاتَلْتُمُوهُ، فَتَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سِجَالًا، يَنَالُ مِنْكُمْ وَتَنَالُونَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ ".
رواه البخاري (2804) ومسلم (1773).
قال ابن بطال، رحمه الله، في شرح : باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) [التوبة 52] ، وَالْحَرْبُ سِجَالٌ ، من "صحيح البخاري":
" قال المهلب: قوله تعالى: (إلا إحدى الحسنيين): يريد الفتح والغنيمة، أو الشهادة والجنة.
قال المؤلف: هذا قول جماعة أهل التأويل، واللفظ استفهام والمعنى توبيخ.
فإن قيل: أغفل البخاري أن يذكر تفسير الآية في الباب، وذكر حديث ابن عباس: أن الحرب سجال، فما تعلقه بالآية التي ترجم بها؟
قيل: تعلقه بها صحيح، والآية مصدقة للحديث، والحديث مبين للآية، وإذا كانت الحرب سجالا، فذلك إحدى الحسنيين؛ لأنها إن كانت علينا فهي الشهادة، وهي أكبر الحسنيين، وإن كانت لنا فهي الغنيمة، وهي أصغر الحسنيين، فالحديث مطابق لمعنى الآية.
قال المهلب: فكل فتح يقع إلى يوم القيامة أو غنيمة؛ فإنه من إحدى الحسنيين له، وإنما يبتلى الله الأنبياء ليعظم لهم الأجر والمثوبة ولمن معهم، ولئلا يخرق العادة الجارية بين الخلق، ولو أراد الله خرق العادة لأهلك الكفار كلهم بغير حرب، ولثبط أيديهم عن المدافعة حتى يؤسروا أجمعين، ولكن أجرى تعالى الأمور على العوائد ليأجر الأنبياء ومن معهم، ويأتوا يوم القيامة مكلومين شهداء في سبيل الله، ظاهري الوسيلة والشفاعة". انتهى، من "شرح صحيح البخاري" (5/21).
وقال ابن القيم، رحمه الله، في كلامه عن "غزوة أحد"، وما وقع فيها من هزيمة المسلمين، وحِكم الله العظيمة في ذلك:
"ومنها: أن حكمة الله وسنَّته في رسله وأتباعهم جرت بأن يُدالوا مرةً، ويدال عليهم أخرى، لكن تكون لهم العاقبة، فإنهم لو انتصروا دائمًا دخل معهم المؤمنون وغيرهم ولم يتميَّز الصادقُ من غيره، ولو انتُصِر عليهم دائمًا، لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة.
فاقتضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين، ليتميز من يتَّبعهم ويطيعهم للحق وما جاءوا به، ممن يتَّبعهم على الظهور والغلبة خاصةً.
ومنها: أن هذا من أعلام الرسل، كما قال هرقل لأبي سفيان: هل قاتلتموه؟ قال: نعم، قال: كيف الحرب بينكم وبينه؟ قال: سجال يُدال علينا المرة وندال عليه الأخرى، قال: كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة". انتهى، من " زاد المعاد" (3/253). وينظر أيضا: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" (35/374-376).
رابعا:
وعد الله عز وجل للمؤمنين بالنصر، إنما هو وعد لهم على "إيمانهم"، ونصرهم لرب العالمين، كما قال تعالى: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ) محمد/7-8.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: " ومن اتبع ما بعث الله به رسوله كان مهديا منصورا بنصرة الله في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد وقال تعالى: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون " انتهى، من "مجموع الفتاوى" (35/374).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "النصر والتأييد الكامل إنما هو لأهل الإيمان الكامل، قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ، وقال: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف: 14]، فمن نقص إيمانُه نقص نصيبه من النصر والتأييد.
ولهذا إذا أصيبَ العبد بمصيبةٍ في نفسه أو ماله أو بإدالة عَدُوّه عليه، فإنما هي بذنوبه، إما بترك واجبٍ، أو فعل محرم، وهو من نقْص إيمانه.
وبهذا يزول الإشكال الذي يُورده كثير من الناس على قوله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ويجيبُ عنه كثيرٌ منهم بأنه لن يَجْعَلَ لهم عليهم سبيلًا في الآخرة. ويجيب آخرون بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلًا في الحجة.
والتحقيق: أنها مثل هذه الآيات، وأن انتفاء السبيل عن أهل الإيمان الكامل، فإذا ضعف الإيمان صار لعدوّهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم، فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوه من طاعة الله تعالى.
فالمؤمن عزيز عالٍ مُؤَيَّدٌ منصور مَكْفِيٌّ مَدْفوعٌ عنه بالذات أين كان، ولو اجتمع عليه مَنْ بأقطارها، إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته، ظاهرًا وباطنًا.
وقد قال تعالى للمؤمنين: فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ فهذا الضمان إنما هو بإيمانهم وأعمالهم، التي هي جُندٌ من جنود الله، يحفظهم بها، ولا يُفْرِدُها عنهم ويقتطعها عنهم، فيُبْطِلها عليهم، كما يَتِرُ الكافرين والمنافقين أعمالهم، إذ كانت لغيره، ولم تكن مُوافقةً لأمره". انتهى، من "إغاثة اللهفان" (2/926-928).
والنصر والفوز ليس بالضرورة أن يكون نصراً مادياً بهزيمة عسكر العدو، وليس معنى هذا التقليل من قيمة النصر المادي أو الزهد فيه، ولكن النصر أشمل من هذا، فإن النصر لا يقتصر على صورة واحدة فقط بل له صور عديدة.
فالنصر الأكبر هو الثبات على دين الله ونصرة شرعه، كما قال الله عز وجل بعد ذكره خبر أصحاب الأخدود وقد أُلقوا كلُّهم في أخاديد النار حتى لم يبق منهم أحد، قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) فهو فوز كبير كما وصفه ربنا لأنهم وإن فنوا عن آخرهم فقد ماتوا على التوحيد.ومن صور النصر: نصر المنهج الذي يعيش من أجله الموحدون، حتى ولو استشهد أو سجن الكثيرون، وكم من شهيد لم يكن يملك نصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف سنة كما نصرها باستشهاده، وقصة غلام أصحاب الأخدود ظاهرة في ذلك ، فقد حاول الملك قتله بشتى السبل ليمنعه من نشر الإيمان ولم يفلح، فجاء الغلام
فَقَالَ لِلْمَلِكِ إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ.
قَالَ: وَمَا هُوَ؟
قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي ثُمَّ ضَعْ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ ثُمَّ ارْمِنِي فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي
ففعل الملك ذلك، فهل مات الحق بموت الغلام ، ومن الذي انتصر؟!
فَقَالَ النَّاسُ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ قَدْ آمَنَ النَّاسُ... رواه مسلم (3005) .
خامسا:
مما جرت به سنة الله في أنبيائه : أن تكون لهم العاقبة ، وما بشر به عباده بقوله: وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى طه/132، وقوله: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ هود/49، ونحو ذلك من الآيات: هو كائن لهذه الأمة، لا محالة ، إن شاء الله ، وعلم زمانه وتحقيق وقوعه عند رب العالمين .
وقد أخبرنا النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم بأطراف عظيمة من هذه البشارات بالنصر والتمكين، والعاقبة لهم على أعدائهم. فمن ذلك:
* عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ عَمِلَ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ صحيح، رواه أحمد ( 5 / 134 )، وابن حبان في – صحيحه - ، والحاكم ( 4 / 311 ) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني.
* عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ وكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ يَقُولُ قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ فِي أَهْلِ بَيْتِي لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ الْخَيْرُ وَالشَّرَفُ وَالْعِزُّ وَلَقَدْ أَصَابَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِرًا الذُّلُّ وَالصَّغَارُ وَالْجِزْيَةُ .
رواه أحمد في مسنده ( 4/ 103 ) ، وغيره ، وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (1).
وبيت مدر : هي البيوت التي من حجر وهي بيوت الحواضر .
* وعَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا - أَوْ قَالَ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا - حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا رواه مسلم (2889).
* وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي، فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ، فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ .
رواه البخاري في " بَاب: قِتَالِ الْيَهُودِ" من "صحيحه" (2925) ومسلم (2922)، واللفظ له.
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم (218407) ورقم (165485) ورقم (223275)
وبكل حال؛ فقد وعد الله عز وجل عباده المؤمنين، وعدا عاما ، بالنصر، في هذه الحياة ، على أعدائهم ، وبعد الممات ، إذا قاموا لرب العالمين ، فأظهر كرامتهم ، وأخزى عباده المشركين به ، المحادين له.
قال الله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ غافر/51-52.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: " وذلك أن الله تبارك وتعالى أكمل الدين بمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وبينه، وبلغه البلاغ المبين، فلا تحتاج أمته إلى أحد بعده يغير شيئا من دينه، وإنما تحتاج إلى معرفة دينه الذي بعث به فقط، وأمته لا تجتمع على ضلالة، بل لا يزال في أمته طائفة قائمة بالحق، حتى تقوم الساعة، فإن الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فأظهره بالحجة والبيان، وأظهره باليد والسنان، ولا يزال في أمته أمة ظاهرة بهذا وهذا حتى تقوم الساعة". انتهى، من "الجواب الصحيح" (1/362).
وختاما، فقد قال رب العالمين: وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ هود/121-123.
والله أعلم.