كأنك تراه (5)
الحلقة الرابعة عشر من كتاب
مع المصطفى صلى الله عليه وسلم
بقلم: فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
ربيع الأول 1443 هــ / أكتوبر 2021
- ظاهر.. حتى للخصوم:
مُحَمَّدٌ أَنْقَذَ الدُّنْيَا بِدَعْوَتِــهِ *** وَمِنْ هُداهُ لَنَا رَوْحٌ وَرَيْحَانُ
لَوْلاهُ ظَلَّ أبو جَهْلٍ يُضَلِّلُنَا *** وَتَسْتَبِيحُ الدِّمَا عَبْسٌ وَذُبْيَانُ
لم يكن في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم سر من الأسرار، بل كانت سيرته كتابًا مفتوحًا مكشوفًا في غاية الوضوح، ففي مكة كان المشركون الوثنيون يحيطون به صلى الله عليه وسلم، ثم في المدينة كان من حوله اليهود والمنافقون والوثنيون، وكانت جزيرة العرب كلها عبارة عن مدينة لملاعب الوثنية، وكانت الأوثان تنصب إلى جوار الكعبة، والأعداء يتآمرون على النبي صلى الله عليه وسلم للقضاء عليه.
- القرآن يُدوِّن العتاب:
وتعجب أشد العجب من أموره الخاصة في البيت حين تُعلَن في القرآن الكريم، يقول الله تعالى:﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ [الأحزاب: 37].
تخيل لو أن والدك أو شيخك قال لك في مجلس فيه عشرون شابًّا: يا فلان، أنت تخفي في نفسك أشياء والله يبديها، وأنت تخشى الناس والله أحق أن تخشاه.
ماذا سيكون شعورك وإحساسك؟! سينتابك كثير من الامتعاض والانزعاج والقهر، وسترى أن هذا ليس وقت هذه الكلمة، وسوف تقول: كان من المفترض أن يهمس بها في أذني.
لكن تخيل هذا النبي العظيم يخاطبه ربه سبحانه وتعالى من فوق سبع سماوات، بقرآن يُتلى إلى يوم القيامة، فيقول له: ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ [الأحزاب: 37].
ثم يلقي النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآيات إلى أصحابه من الشباب والشيوخ وحدثاء العهد بالإسلام وغيرهم، لتُتلى ويُصلِّى بها، ويتداولها الناس، وتدوَّن في المصاحف، ويسمعها حتى غير المسلمين من المنافقين والمشركين واليهود، الذين يتآمرون عليه، ومع ذلك لم يأبه النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغل الأعداء هذا المعنى أو يشهروا به أو يسيؤوا إلى صفحته البيضاء.
إن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مكشوفة وظاهرة، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يخفي شيئًا مما أنزل الله تبارك وتعالى عليه قط، كما قالت عائشة رضي الله عنها.
بل يأتيه الرجل الأعمى، وهو عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه، فيقول: يا رسول الله، علِّمني مما علَّمك الله. ورسول الله صلى الله عليه وسلم مشغول بدعوة الكبراء، فيضيق صدر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لأنه يريد أن يخصص هذا الوقت لدعوة آخرين، وهو صلى الله عليه وسلم لم يكن يتشاغل عنه بأكل أو شرب أو نوم أو أمر مباح، بل كان يتشاغل بأمر يتعلق بالدعوة وفي مصلحتها، فينزل العتاب من السماء على قلب محمد صلى الله عليه وسلم وعلى لسان جبريل عليه السلام، ويتلوه صلى الله عليه وسلم، ويصلِّي به في الصلوات الجهرية، ويقرؤه بأعلى وأرفع صوت ليسمعه القريب والبعيد:﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى
أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى﴾ [عبس: 1-10] .
فسمَّى الله ذلك تلهيًا، مع أنه لم يكن لهوًا منه صلى الله عليه وسلم، وحاشاه! وإنما كان انشغالًا بأمر آخر، هو من الدعوة ومصالحها، فيؤدبه ربه، ويعلمه أن الناس سواسية، وأن مَن تقبَّل الحق ولان له واستجاب له، وأشرب قلبه حبه، فهو الجدير والحري بأن يُهتم به، ويُستجاب له، ويُستمع إليه.
بل أشد من ذلك أن تقع في المدينة المنورة سرقة، فيختلف الناس مَن الذي سرق؟ فتشير أصابع الاتهام إلى بعض اليهود، وبعضها تشير إلى بعض المسلمين الذين يتظاهرون بالإسلام، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم مال إلى تبرئة هؤلاء المسلمين، وهنا ينزل القرآن: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾ [النساء: 105-107].
ولو وقفنا عند هذا المعنى العظيم في مجتمع المدينة؛ المجتمع الذي لا يزال منقسمًا على نفسه: فيه اليهود والمنافقون والوثنيون والمؤمنون وغيرهم، وفيه القبائل المختلفة المتعددة، ثم يظل الوفاء للحق والصبر عليه والإيمان به هو المبدأ الذي يربِّي الله تعالى عليه نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم في كل الظروف، حتى ينزل القرآن يعاتبه على هذا الموقف، ويبيِّن له أنَّ السرقة هي من هؤلاء المنافقين المنتسبين إلى الإسلام، وليست من أولئك اليهود الذين دارت حولهم أصابع الاتهام.
إن هذا الوضوح والمباشرة في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم هي اللائقة برجل جاءت سيرته قدوة للعالمين جميعًا.
رابط تحميل كتاب مع المصطفى صلى الله عليه وسلم
http://alsallabi.com/books/view/506
كما ويمكنكم تحميل جميع مؤلفات فضيلة الدكتور سلمان العودة من موقع الدكتور علي الصَّلابي الرسمي
http://alsallabi.com/books/7