من اختلف في نبوتهم
الحلقة: العشرون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو القعدة 1441 ه/ يونيو 2020
هناك أشخاص صالحون ، ورد ذكرهم في القران دون التصريح بكونهم أنبياء أو غير أنبياء ، فاختَلفَ في شأنهم العلماء ، وهم:
1 ـ لقمان:
لا يوجدُ دليلٌ على نبوة لقمان ، والله تعالى لم يذكر عنه إلا أنّه اتاه الحكمة ، وذكر بعض ما يدلُّ على حكمته في وعظه لابنه قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} [لقمان : 12].
وذهب جمهور أهل العلم إلى أنّه كان حكيماً ، ولم يكن نبياً، وحكى بعضهم اتفاقَ أهل العلم على ذلك ، فلم يعتد بخلافِ مَنْ خالف.
2 ـ ذو القرنين وتبع:
جاء ذكر ذي القرنين في سورة الكهف: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (89) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)} [الكهف : 83 ـ 98].
ومن ضمن هذه الاية قوله تعالى: {قُلْنَا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً *} [الكهف : 86] ، فهل كان هذا الخطابُ بواسطة نبي كان معه ، أو كان هو نبياً؟.
جزم الفخر الرازي في تفسيره بأنّه كان نبياً ، كما نقله الحافظ في (الفتح) وقال بعد ذلك: قد اختُلِفَ في ذي القرنين ، فقيل: كان نبياً كما تقدم ، وهذا مروي أيضاً عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وعليه ظاهرُ القران.
وذكر الحافظ في شأنه اثاراً كثيرة تدلُّ على كثرة الاختلاف فيه. وعلى كل حال فإنَّ القولَ بعدم نبوته هو ما عليه جمهورٌ أهل العلم.
الأفضلُ أن يتوقَّفُ في إثبات النبوة لذي القرنين وتُبّع ، لأنه صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أدري أتّبع نبيَّـاً أم لا ، وما أدري ذي القرنين نبياً أم لا»؟ فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدري فنحن أحرى بألاّ ندري.
وورد ذكر تُبّعٍ في القران الكريم في قوله تعالى: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ *} [ق : 37] وقال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ *وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ *وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ *} [ق : 12 ـ 14].
3 ـ الخضر:
لم يذكر اسم الخَضرِ في القران ، وإنما ذكرتْ فيه قصته مع نبي الله موسى عليهما الصلاة والسلام ، وصرّحت السنّةُ باسمه ، كما في حديث ابن عباس ، عن أُبي بن كعب عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في ذكر القصة.
وقد اختُلِفَ في نبوة الخضر ، والذي عليه أكثرُ أهل العلم أنّه نبيٌّ ، ثم اختلفوا: هل هو رسول أم لا؟ وقال القرطبي: هو نبيٌّ عند الجمهور ، والاية تشهَدُ بذلك، قال طائفة: هو ولي.
والصحيحُ قولُ الجمهور بأنّه نبي لا ولي ، وقولُ مَنْ قال منهم بنبوته دون رسالته، ويقول العلامة الألوسي: ... والمشهورُ ما عليه الجمهور ـ يعني القولُ بنبوته ـ وشواهِدُه من الايات والأخبار كثيرة ، وبمجموعها يكادُ يحصل اليقين.
وسياق القصة يدلّ على نبوته من وجوه:
أحدهما: قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ} {لَدُنَّا عِلْمًا *} [الكهف: 65]. والأظهر أنّ هذه الرحمة هي رحمةُ النبوة ، وهذا العلمُ هو ما يوحَى إليه من قبل الوحي.
الثاني: قول موسى له: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا *وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا *قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا *قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا *} [الكهف : 66 ـ 70]. فلو كان غيرَ نبيٍّ لم يكن معصوماً ، ولم يكن لموسى وهو نبيٌّ عظيم ، ورسولٌ كريم ، واجبُ العصمة ـ كبيرُ رغبة ولا عظيمُ طلبه في علم وليٍّ غير واجب العصمة ، ولما عزم على الذهابَ إليه ، والتفتيش عليه ، ثم لمّا اجتمعَ به تواضعَ له ، وعظّمه ، واتبعه في صورةٍ مستفيد منه ، دلّ على أنّه نبيٌّ مثله ، يوحى إليه كما يوحى إليه ، وقد خُصَّ من العلوم اللدنية والأسرار النبوية بما لم يطلع الله عليه موسى الكليم عليه السلام.
الثالث: أنّ الخضر أقدمَ على قتل الغلام ، وما ذاك إلا للوحي إليه من الملك العلاّم ، وهذا دليلٌ مستقل على نبوته ، وبرهانٌ ظاهِرٌ على عصمته، لأنَّ الولي لا يجوزُ له الإقدامُ على قتل النفوس بمجرّد ما يُلقى في خَلَدِه ، لأن خاطره ليس بواجبِ العصمة ، إذ يجوزُ الخطأ عليه بالاتفاقِ ، ولمَّا أقدم الخضر على قتل ذلك الغلام الذي لم يبلغ الحلم ، علماً منه بأنه إذا بلغ يكفر ، ويحمل أبويه على الكفر ، لشدة محبتهما له ، فيتابعانه عليه ، ففي قتله مصلحة عظيمة تربو على بقاء مهجته ، صيانة لأبويه عن الوقوع في الكفر ، وعقوقه ، دلّ ذلك على نبوته ، وأنّه مؤيّدٌ من الله بعصمته.
الرابع: ومن أوضح ما يُستدلُّ به على نبوة الخضر قوله تعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف : 82]. وينبغي اعتقاد كونه نبياً لئلا يتذرّعَ بذلك أهل الباطل في دعواهم أنَّ الوليَّ أفضلُ من النبيِّ حاشا وكلا: أي يعني: ما فعلته من تلقاء نفسي ، بل أمرت به ، وأوحى إلي فيه.
وأمّا ما يتعلق بحياته وتعميره ، فالقولُ الصحيح القولُ بوفاته ، وهو ما عليه المحقّقون من أهل العلم.
والأدلة من الكتابِ والسنّةِ تدلُّ على قول من قال بوفاته، وتؤيده:
فمن الكتاب الكريم:
قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الانبياء : 34]. فالخَضِرُ إن كان بشراً ، فقد دخل في هذا العموم لا محالة ، ولا يجوزُ تخصيصه منه إلا بدليل صحيح ، والأصل عدمُه حتى يثبتَ ، ولم يذكر ما فيه دليل على التخصيص عن معصوم يجب قبوله.
وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [ال عمران: 81]. قال ابن عباس: ما بعثَ الله نبياً إلا أخذَ عليه الميثاقَ لئن بُعِثَ محمّدٌ وهو حيٌّ ليؤمنَنَّ به وينصرَنَّه ، فالخَضِرُ إن كان نبياً أو ولياً فقد دخل في هذا الميثاق ، فلو كان حياً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لكان أشرفُ أحواله أن يكونَ بين يديه ، يؤمن بما أنزل الله عليه ، وينصره بأنْ لا يصلَ أحدٌ من الأعداء إليه ، ولم يثبت أنَّ الخضر اجتمعَ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فدلَّ ذلك على موته.
ومن السنة المطهرة:
قوله صلى الله عليه وسلم: «أرأيتكم ليلتكم هذه ، فإنَّ على رأسِ مئةِ سنةٍ لا يبقى على ظهرِ الأرضِ أحد».وقوله صلى الله عليه وسلم: «تسألوني عن الساعة ، وإنّما علمُها عندَ اللهِ ، وأقسمُ باللهِ ما على الأرضِ نفسٌ منفوسةٌ تأتي عليها مئةٌ سنة» قال ابن الجوزي: فهذه الأحاديثُ الصِّحاحُ تقطع دابرَ دعوى حياة الخضر.
4 ـ إخوة يوسف: هل هم الأسباط؟
اتّفق أهلُ العلم على أنّ المرادَ بالأسباط في قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ}[البقرة : 136] وقوله سبحانه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} [البقرة : 136] بأنّهم أبناءُ يعقوب عليه السلام ، واختلفوا هل هم أبناؤه لصلبه أم لا؟.
فمَنْ قال: إنهم أبناؤه من ذريته ، حكم بعدم نبوة إخوة يوسف ، ومن قال: إنّهم أبناؤه لصلبه حكم بنبوة إخوة يوسف.واختلَفَ هؤلاء في الجوابِ عمّا وقع منهم. فقال بعضهم: إنّ زلّتهم قد غُفرتْ بندمهم ، واستغفارِ أبيهم لهم ، ولا يستحيلُ في العقلِ زلّةُ النبي. ويُرَدُّ بأنّ الأنبياء معصومون من الكبائر. وقال اخرون: إنّهم لم يكونوا أنبياء حين فِعْلِهم بأخيهم يوسف ذلك ، وإنّما نبأهم الله بعد توبتهم. ويُرَدُّ بأنَّ القولَ الصحيح أنّ الأنبياء معصومون قبل النبوة وبعدها.
والراجح ـ والله أعلم ـ القولُ بعدم نبوة إخوة يوسف عليه السلام ، يقول ابن كثير: اعلم أنّه لم يقمْ دليلٌ على نبوة إخوة يوسف ، وظاهر هذا السياق (يعني سياق قصتهم) يدلُّ على خلاف ذلك.
ومن الناس من يزعمُ أنّهم أوحي إليهم بعد ذلك ، وفي هذا نظرٌ ، ويحتاج مدّعي ذلك إلى دليل ، ولم يذكروا سوى قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} [البقرة: 136] وهذا فيه احتمالٌ ، لأنّ بطون بني إسرائيل يقالُ لهم الأسباط ، كما يقال للعرب قبائل ، وللعجم شعوب ، يذكر تعالى أنّه أوحى إلى الأنبياء من أسباط بني إسرائيل ، فذكرهم إجمالاً ، لأنهم كثيرون ، ولكنْ كلُّ سبطٍ من نسل رجل من إخوة يوسف ، ولم يقم دليلٌ على أعيانِ هؤلاءِ أنهم أوحي إليهم ، والله أعلم.
يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب:
الإيمان بالرسل والرسالات
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book94(1).pdf