الثلاثاء

1446-11-01

|

2025-4-29

(اهتمام بن باديس بعوامل قيام الدولة وبناء الحضارة)

من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج2):
الحلقة: 174
بقلم: د.علي محمد الصلابي

محرم 1443 ه/ أغسطس 2021م

اهتم ابن باديس في تصوره للدولة الحديثة بإبراز عوامل البناء والهدم، وأطوار تطور الأمم والمراحل التي تمر بها وأسباب تقدمها وعوامل انهيارها.
وقد استعرض هذه الأطوار من خلال تفسيره للايات القرآنية التي تعرضت لتطور الحياة والكون والإنسان وواقع الأمم الماضية والحاضرة ومن هذه الآيات قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا *} [الإسراء : 59].
وفي تفسيره لهذه الآية ربط ابن باديس بين أطوار الأمم وتطورها وبين أطوار الإنسان ومراحل نموه، مشيراً إلى العلاقة الوثيقة بين الإنسان والدولة في حالة قوتها وضعفها ويقول: إن الأمم كالأفراد تمر عليها ثلاثة أطوار هي: طور الشباب وطور الكهولة وطور الهرم.
أما الطور الأول فيمثل نشأتها إلى استجماعها قوتها ونشاطها، وفيه تكون مستعدة للكفاح والتقدم في ميدان الحياة.
والطور الثاني: ويشمل ابتداء أخذها في التقدم والانتشار وسعة النفوذ وقوة السلطان، إلى استكمال قوتها وبلوغها ما كان لها أن تبلغه من ذلك بما كان فيها من مواهب، وما كان لها من إستعداد وما لديها من أسباب.
أما الطور الثالث، فيشمل ابتداءها في التقهقر والانحلال إلى أن يحل بها الفناء والاضمحلال ؛ إما بانقراضها من عالم الوجود، وإما باندراسها في عالم السيادة والاستقلال. وهذه الأطوار الثلاثة قانون كوني عام لجميع الأمم، فما من أمة إلا ويجري عليها هذا القانون العام، وإن اختلفت أطوارها في الطول والقصر، كما تختلف الأعمار.. وأن طور الهلاك هذا إنما يتحقق بعد إسباغ النعمة وإقامة الحجة على الأمم ؛ وتمكن الفساد فيهم وتكاثر الظلم منهم، فإهلاكهم هو نهاية الطور الثالث من أطوار الأمم.
ولتفصيل هذه الأطوار وانعكاسها على الإنسان والمجتمع اهتم ابن باديس بتحديد عوامل قيام الدولة وأسباب انهيارها: وأما عوامل قيام الدولة وبناء الحضارة فهي:
1 ـ امتلاك واستكمال وسائل البناء والتعمير، وذلك بامتلاك وسائل القوة تمهيداً للدخول في الطور الأول من أطوار الحضارة وهو طور المدنية.
ويؤكد ابن باديس ذلك بقوله: إن وسائل البناء والتعمير هي وسائل قيام الحضارات وإن آية أمة لا تعمر الأرض إلا إذا ملكت وسائل التعمير، وهي كثيرة ومجموعها هو ما نسميه بالحضارة أو المدنية، كالحضارة المادية وفنونها كالزراعة والصناعة والتجارة وما يستلزمها من علم بحال الأرض وطبائعها.
أو في القوة البدنية التي ترى في القدرة على النحت كما في الحضارة الرومانية.
2 ـ امتلاك وسائل العلم والتعليم، لأن العلم في مقدمة القوى البناءة في صرح الحضارة والمدنية، وهو قوة ناتجة عن اندماج القوة الروحية والإيمان والفكر الواضح السليم، وهذا العلم هو الذي يحصن المدنية تماماً مثل عروق البدن، ومن ثم تكون العلوم كعوامل بناء الجسم الإنساني، والتي تظهر انعكاساتها في صلاح النفس البشرية وتحسين الأوضاع الاجتماعية.
ويصف ابن باديس كيفية امتلاك هذه الوسائل وأثرها في النهضة والحضارة حين يقول: إن بناء الحضارة لا يتم بالفكر اليدوي وحده، بل بالعمل اليدوي الذي يتوقف على علوم كثيرة كالهندسة، والهندسة تتوقف ثمرتها على علوم أخرى كثيرة، وعلوم العمران، كعروق البدن يمد بعضها بعضاً، فهي مترابطة متماسكة متلاحمة.
3 ـ الالتزام بسياسة امتلاك القلوب وتنوير العقول ووحدتها، ويبين ابن باديس أثر هذا العمل في بناء الدولة والحضارة وكيفية توجيهه نحو الحق والخير والرحمة والعدل، فيقول: إن الله قد جعل اتفاق الرأي في المصلحة العامة، والاتصال بصلة الألفة في المنافع الكلية، سبباً للقوة واستكمال لوازم الراحة والتمكن من الوصول لخير الإنسانية، وأن حرية الفرد لازمة له لممارسة حقوقه في العمل والإنتاج وتكوين العلاقات وإحداث الانسجام المطلوب للوحدة الوطنية، ولأن حرية الأفراد واجتماعهم ووحدتهم تشكل واحدة من أسباب قوة الدولة التي بها يكون التمكن والبقاء، ثم الاستمرار، وهي غير الحقوق المادية الالية التي يكون فيها البطش والتي لا يدوم لها سلطان.
4 ـ امتلاك وسائل الإعداد والاستعداد للقوة: من أجل الدفاع وتطبيق الأحكام، وفي مقدمة هذه الوسائل الالتزام بالقانون، على اعتبار أن قوة القانون من القوى التي يجب على الدولة امتلاكها لأنها من أهم وسائل حفظ الدولة وبقائها، ويرى ابن باديس أن القانون للدولة التي تريد بناء حضارتها بمثابة العقل الذي لا تغلّه التقاليد ولا تقيده حماقة النفس البشرية، ويكون له دوره الفاعل والمثمر عند الالتزام به وتطبيقه، وبه يحدث الانسجام ويتحقق الاستقرار والعدالة، ويؤثر أثره في الفرد والجماعة، إذ القانون هو القوة العادلة التي يكون بها تنظيم الصفوف ورفع الظلم، وإصلاح نظام الحكم ومحاربة الفساد، والإسراف لا بقوة الجبارين، بل بقوة العقل والعلم والقانون.
5 ـ الالتزام بعوامل الوحدة والاعتصام ونبذ عوامل التحزب والتعصب، لأن القوة مع الاتحاد والضعف مع التشتت والانقسام، ومن عوامل الوحدة التي بينها ابن باديس:
التمسك بما في الدين من نصح وإرشاد وعلم وبصيرة ودعوة إلى الاعتصام والاتحاد، وضرورة التمسك بدوافع القومية والشخصية، والحفاظ على مقومات الشعب البناءة كالجنسية ووحدة اللغة والدم والمصير ووحدة العقيدة، وغيرها من المقومات التي ينشأ عنها الشعور المشترك بين الفرد وبين من يشاركه هذه المقومات والمميزات.
وأن الالتزام بهذه العوامل والمقومات من الواجبات التي أمرنا بها كما في:
ـ قوله تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال : 46].
ـ وقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء : 59].
ـ ويؤكد ابن باديس على أن تلك عوامل القوة والوحدة والاعتصام التي تطرح بها جميع المفرقات بين المذاهب والمشارب، ويترسخ الاعتقاد بأن الاتحاد واجب محتم على جميع المؤمنين، لأن فيه القوة والحياة وفي تركه الضعف والممات.
6 ـ السعي لتحقيق الوحدة الفكرية وتعميق أسس الأخوة والكمال الإنساني، وفي هذا الإطار كانت دعوة ابن باديس إلى الحفاظ على مقومات الشخصية الوطنية وضرورة تمسك الشعب الجزائري والعربي بقوميته وعروبته وديانته، ورفض كل رأي أو مذهب يضر ولا يتفق مع عروبته وديانته، مؤكداً على أن المؤمنين باتحادهم في دولة واحدة تكون لهم قوة، وكل واحد فيهم بمفرده يمكن قهره، أما مع اتحادهم فإنهم يكونون في مأمن من كل قهر، وأن التمسك بمقومات الوحدة الفكرية والقومية في الأمة من الأشياء الغريزية، وأن المحافظة عليها والاعتزاز بها مما جبل عليه الناس كما جبلوا على حب البقاء، ولكن قد يطرأ عل بعضهم سوء ظن فيهما نتيجة لجهل أو ضعف، فيتخلى عنهما فيكون ذلك التخلي نذير الفناء.
7 ـ تحقيق البناء الاجتماعي السليم: وهو الذي يبدأ من الأسرة المتماسكة السليمة واتحاد عنصري الأمة وتعاونهما، وهما الرجل والمرأة، وتحقيق الوحدة والوئام الاجتماعي في ظل الارتباط برباط الجنسية السياسية أو ظروف المصلحة المشتركة بين الشعوب العربية، واستجابة لدعوة التعاون والمشاركة في الحديث النبوي:
«المؤمن للمؤمن، كالبنيان يشد بعضه بعضاً»، فعلى البناء الاجتماعي السليم وتعاون الرجل والمرأة تقوم الحياة ويتوقف العمران.
ـ تدعيم اللغة المشتركة بين عناصر الأمة وشعوبها، لأن اللغة من أهم عوامل وحدة الدولة وقوتها، ويدلل ابن باديس على صدق ذلك بعدة أدلة عقلية ونقلية منها:
ـ أن الدولة يمكن أن تقوم رغم اختلاف أجناس وأعراق مواطنيها، أما إذا كانت هناك لغة مشتركة واحدة فهناك إذن دولة واحدة.
ـ أنه لا تكاد تخلص أمة من الأمم لعرق واحد، وتكاد لا تكون أمة من الأمم لا تتكلم بلسان واحد، فليس الذي يكوّن الأمة ويربط أجزاءها ويوحد شعورها ويوجهها إلى غايتها هو هبوطها من سلالة واحدة، وإنما الذي يفعل ذلك هو تكلمها بلسان واحد.
ـ أن اللغة الواحدة لها أثرها الفعال في بناء الدولة ووحدتها، لأنها العامل الأول في توحيد العقول والقلوب والرابطة القوية لجميع الأفراد.
ـ أن هناك فرق كبير بين عامل الدم وعامل اللغة في توحيد الأمم، بدليل نقلي هو قول النبي (ص): «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائره بالسهر والحمى».. ودليل عقلي هو: أنك إذا وضعت أخوين شقيقين يتكلم كل واحد منهما بلسان، وشاهدت ما بينهما من اختلاف نظر وتباين قصد وتباعد تفكير، ثم وضعت شامياً وجزائرياً ينطقان باللسان العربي، لرأيت ما بينهما من اتحاد وتقارب في ذلك كله... لو فعلت هذا لأدركت بالمشاهدة الفرق العظيم بين الدم واللغة في توحيد الأمم، فاللغة إذن هي الأصل في الاتحاد، وإيجاد الوحدة الوطنية التي تكون عندما يكون الوطن متحداً غاية الاتحاد، ممتزجاً غاية الامتزاج، ولا يمكن الافتراق بعد امتزاج واتحاد الفؤاد واللسان.
ـ أن الدولة الموحدة بناء متكامل، فيه يتحول الأفراد إلى إنسان واحد وتتحول الشعوب إلى شعب واحد لامتزاج العقل والقلب والروح، وليس تكوّن الأمة متوقفاً على اتحاد دمها، ولكنه متوقف على اتحاد قلبها وروحها وعقولها اتحاداً يظهر في وحدة اللسان وادابه واشتراك الالام والامال، وعلى هذه الوحدة الأدبية يجب أن تؤسس الدولة العربية، كما تأسست منذ فجر التاريخ، فاللغة العربية التي تنطق بها وتتغذى من تاريخها وتحمل مقداراً عظيماً من دمها، وقد صهرتها القرون في بوتقة التاريخ حتى أصبحت أمة واحدة تميزها وحدة اللغة والدم والتفاعل من خلال التاريخ.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022