من كتاب كفاح الشعب الجزائري بعنوان
(مقاومة أحمد باي في نواحي قسنطينة)
الحلقة: الثالثة والأربعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1442 ه/ نوفمبر 2020
عندما استقر الأمر لأحمد باي في مدينة قسنطينة جمع أعضاء الديوان وتباحث معهم في المسألة المتعلقة باعتراف فرنسا به باياً على أن يواصل دفع الجزية إليها، فكان رد جميع أعضاء الديوان هو الرفض لأن قسنطينة تابعة لباشا الجزائر وتمتثل لأوامره، وهي بدورها تمتثل لأوامر إسطنبول، ولهذا لابد من الكتابة إلى السلطان محمود الثاني والحصول على موافقته، وفي هذه الأثناء علم أحمد باي أن القائد الفرنسي في الجزائر قد عزله من منصبه، وعيّن في مكانه سي مصطفى شقيق باي تونس، وبذلك صارت قسنطينة تابعة لتونس حسب رأي الجنرال كلوزيل الذي كان يحكم الجزائر، وهذا هو الذي دفع بالباي أحمد أن يعيّن بن عيسى خزناجياً أي أمين الخزينة، ويضرب النقود باسمه.
وعندما تمكنت فرنسا من ميناء عنابة بدأت تهدد أحمد باي بالإطاحة به، وأرسلت جيشاً قوياً بقيادة كلوزيل للقضاء عليه، ولذلك جند أحمد باي (500،1) رجل من المشاة و(000،5) من الفرسان واستعد لمواجهة الجيش الفرنسي في واد الكلاب واد الأحد ؛ الذي يوجد تحت سيدي مبروك، لكنه انسحب إلى مدينة قسنطينة عندما شعر أنه غير قادر على محاربتهم ؛ لأن جيشهم كان أقوى، وبناء على ذلك استدرجهم الباي أحمد إلى المدينة، ثم هاجمهم من الخلف ومن داخل المدينة، وألحق هزيمة بالفرنسيين الذين قهرتهم الطبيعة، حيث إن الأمطار الغزيرة التي تهاطلت في تلك الأيام قد ساهمت في التأثير سلبياً على خطط الفرنسيين، واعترف الحاج أحمد باي أنه كان على استعداد للتفاوض مع الجيش الفرنسي والاحتفاظ بمرتبته كباي، ولكنني عندما رأيت أنهم جاؤوا بباي ليستبدلوني وأكثر ليهينوني إذ اختاروا لهذا الغرض مملوكاً من تونس، ولم أعد أرى شيئاً آخر غير المقاومة النشيطة، وهو ما فعلت وقد كان عليَّ أن أفعله من قبل.
وبدون شك فإن هذه الهزيمة الثقيلة التي ألحقها الحاج أحمد باي بالفرنسيين في عام (1836م)؛ هي التي دفعت الجيش الفرنسي إلى إعداد جيش ضخم يتكون من (16000) جندي، يقودهم كبار جنرالات فرنسا المعروفون بقدراتهم القتالية تحت قيادة دامريمون. وفي اليوم الأول من شهر (أكتوبر 1837م) ابتدأ الجنرال دامريموت قائد الحملة الفرنسية ورئيس أركانه بيريقو العمليات العسكرية ضد قوات أحمد باي، وذلك انطلاقاً من سطح المنصورة المطلة على مدينة قسنطينة، وقد حاول أحمد باي أن يعتمد نفس الخطة التي ساعدته على الانتصار في المرة الأولى، وهي مواجهة الجنود الفرنسيين من داخل المدينة المحصنة وضربهم من الخلف، لكن هذه المرة لم تنجح الخطة لأن عدد جنود الفرنسيين كبير، وتمكنوا في هذه المرة من معرفة فجوة ساعدتهم على التسرب إلى المدينة واحتلال الثكنة الكبيرة التي كانت توجد بالمدينة .
وعندما رأى ابن عيسى خليفة أحمد باي والمسؤول عن الدفاع، أن الفرنسيين تسربوا إلى المدينة، وأن المقاومة أصبحت غير مجدية، أمر السكان أن يخرجوا من المدينة .
وقد استشهد في هذه المعارك محمد بن البجاوي قائد الدار، وذلك بالإضافة إلى شخصيات كبيرة في المدينة، ولكن الشيء الذي ينبغي التذكير به هنا هو أن الجنرال دامريموت ورئيس أركانه بيريقو قد لقيا حتفهما في بداية المعارك، حيث إن الباي أحمد قد صوب مدفعه الكبير الموجود في باب الجديد نحو مكان تجمع القادة الفرنسيين، وتمكن من إطلاق النار على الفرنسيين وقتل رئيس العمليات العسكرية ورئيس أركانه، وقد خلفه في منصب القائد العام للقوات الفرنسية الجنرال فالي الذي استولى على المدينة فيما بعد، لكن الجنرال كومب مات هو الاخر في معارك قسنطينة، وكذلك زميله الجنرال كارامان الذي توفي بعد بضعة أيام.
وبالنسبة للباي أحمد، فإن هذا الاحتلال لمدينة قسنطينة سنة (1837م) ما هو إلا بداية للمقاومة الجزائرية ضد قوة الاحتلال الأجنبية، وبالفعل فقد اجتمع بقادة المقاومة وأعد معهم خطة تقضي بقطع جميع الاتصـــالات مع مركز القوات الفرنسية بمدينة عنابة ، لكن أحد مساعديه المقربين بوعزيز بن قانة الذي فقد سلطته في الصحراء لصالح فرحات بن سعيد؛ اعترض على خطة الباي أحمد، واقترح عليه أن لا يبقى الجيش في قسنطينة، وإنما يتوجه إلى الصحراء حيث يوجد فرحات بن سعيد الذي أصبح يعمل مع الأمير عبد القادر الذي اعترف به شخصياً على قبائل الصحراء. وخوفاً من وقوع انشقاق في صفه وافق الباي أحمد، وأثناء ذهابه إلى الصحراء بعث إليه الفرنسيون رسالة يطلبون فيها منه الاستسلام.
ومع أن فرحات بن سعيد كان يعتبر هو الخليفة المعتمد من طرف الأمير عبد القادر على الصحراء، فإنه كان ينوي الذهاب إلى قسنطينة والتحادث مع أحمد باي أو الفرنسيين، إلا أن ذهاب أحمد باي إلى الصحراء حسب نصائح ابن قانه ؛ دفع بسعيد بن فرحات أن ينضم إلى الفرنسيين ويتحالف معهم مقابل أن يعترفوا به كشيخ للعرب، وأن يمدوه بجيش قوي ليحارب أحمد باي وابن قانه، ولكن الفرنسيين رفضوا اقتراحه هذا وطلبوا منه أن يقوم بهجوم على أحمد باي ويأتيهم برأسه، وانذاك يعترفون به، وبالفعل دخل مع أحمد باي في معركة حامية الوطيس ضد أعدائه، ولكنه انهزم وهرب إلى وادي سوف. ثم إن مرض أحمد باي وعدم قدرته على جمع وتوحيد الصفوف لمحاربة الفرنسيين، وتمركز الجيش الفرنسي في كل المناطق، قد أنهكت قواه وأجبرته على التفاوض مع فرنسا والاستسلام لها يوم (5 جوان 1849م). وكما هو معروف رفض التوجه إلى فرنسا ومات بمدينة الجزائر سنة (1850م)، وتم دفنه بزاوية سيدي عبد الرحمن.
وباختصار، فإن أحمد باي قد قاوم الفرنسيين لمدة (18) سنة، وقد ظن الفرنسيون أنه ضعيف نظراً لعدم وجود قبيلة تحميه وتشد أزره، لكنه فاجأهم وتحدى جبهة الخونة في الداخل وجبهة باي تونس وقاوم حتى النهاية.
وهو صاحب المــقـولة الشـهيـرة: « لا وطن لي إلا الجزائر، ولا دين لي إلا الإسلام، ولا لغة لي إلا العربية».
وهو صاحب المقولة الأخرى: إذا كان المسيحيون بحاجة إلى بارود ستردونهم، وإذا نفذ خبزهم، سنقسم خبزنا معهم، ولكن حتى وإن بقي أحد منا على قيد الحياة لن يدخلوا قسنطينة.
لاشك أن أحمد باي من الشخصيات المتميزة سياسياً وعسكرياً، إلا أن عدم دخوله تحت زعامة الأمير عبد القادر أضعفته وأضعفت موقف المقاومة، وبعد أن توحدت معظم قبائل ومدن الجزائر، وأجبرت الدولة الفرنسية على الاعتراف بالأمير عبد القادر، وتبرم معه المعاهدات الرسمية وترسل الدول الأجنبية قناصلها، وعرض الأمير عبد القادر مرات عديدة على أحمد باي بأن ينضم إليه ويتحالف معه ؛ كان عليه أن يستجيب لوازع الوحدة وتوحيد الصفوف ضد المحتل الفرنسي.
كان الأمير عبد القادر يحترم أحمد باي، ولم يكنَّ له أي خصومة أو بغضاء، وأشاد بجهاد أهالي قسنطينة والشيخ ابن البجاوي ومن معه من العلماء والأبطال، والذين أبوا إلا الموت تحت أسوار بلدتهم على الحياة تحت سلطان فرنسا.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com