تأملات في الآية الكريمة: (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ)
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 58
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
محرم 1444ه / أغسطس 2022م
1. قال تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ}:
- {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ }: إذ جادله قومه، فردّ عليهم مستنكراً جدالهم: أي أتجادلونني في وحدانية الله تعالى، وهو الذي دلّني على وحدانيته بالبصائر التي بصّرني بها والدلائل التي أرشدني إليها، ولعلَّ إبراهيم - عليه السّلام - أراد ما مرّ معنا في قوله جلّ وعلا: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} ]الأنعام:75[.(1)
- وفي قوله: {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ} الاستفهام إنكاري لإنكار الواقع، وإنكار الواقع توبيخ، فهو يوبخهم ويؤيسهم من نتيجة المحاجّة،(2) أي: أتجادلونني في توحيدي لله عزّ وجل وفي إخلاصي لله عزّ وجل وقد وفقني الله لعبادته وحده لا شريك له، وهو الذي وفقني لترك أصنامكم وآلهتكم التي عبدتموها مع الله عزّ وجل، فكيف تنكرون عليّ عبادتي لله؟، فتعجّب إبراهيم الخليل - عليه السّلام - من مجادلتهم ومحاجّتهم له، فكان من اللائق بهم أن يؤمنوا وأن يُسلموا لما جاءهم بالحجج الدّالة على وحدانية الله عزّ وجل، لكن القوم لم يوفَقوا للهداية، بل استمروا على ما هم فيه من الضلال والشرك وخوّفوه من آلهتهم وخوّفوه من أصنامهم؛ اعتقاداً منهم أنّها تنفع أو تضر، وأنها ستصيبه بمكروه أو سوء إن أعرض عن عبادتها.(3)
2. {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ}:
- {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ}: أي إنني لم يستولِ عليّ الوهم كاستيلائه عليكم، فأخاف مما تشركون عبادته مع الله سبحانه وتعالى، فأنا أعلم أنّها لا تضرُّ ولا تنفع، وهي أحجار صماء بكماء عمياء تنقل من مكان إلى مكان، فكيف أخاف منها؟ كيف أخاف من حجر لا يسمع ولا يبصر؟ تصنعونها بأيديكم وتعبدونها بأوهامكم؟
وقد كان إبراهيم - عليه السّلام - حريصاً في إجابته، ويخشى أن يصيبه قدر، فيتوهمون أن ذلك من سرِّ آلهتهم، فقطع عليهم - عليه السّلام - أسباب ذلك، وقال مطمئناً إلى قضاء الله: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا}.
- {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا}: هذا استثناء يدل على أمرين:
أولهما: تفويضه لله تعالى في كل الأمور، وأن راضٍ بما يقدره الله تعالى له، يتقبل ما يأتي به، وأنه وحده الذي يفعل ما يشاء.
ثانيهما: الرد عليهم في أن أصنامهم لا تستطيع أن تفعل شيئاً، إنما الأمر كله لله وحده وهو الذي يصيب بالضرر إن شاء وهو الذي ينزل الخير من سحائب رضوانه إن شاء، وأنه قادر على ذلك وهو القادر وحده.(4)
فإنّ شاء الحق أن ينزل على عبد كوكباً يصعقه أو يحرقه، فهذا موضع آخر لا دخل لمن يعبد الكواكب به، ولا دخل للكواكب فيه أيضاً؛ لأنّ النافع والضّارّ هو الله، فحين يشاء الله الضرّ يأتي الضرّ، وحين يشاء النفع يأتي النفع.(5) فالنفع والضرّ منوط بمشيئته سبحانه وحده، وهكذا فوّض أمره لله تعالى بعد أن أعلن براءته من الأصنام.(6)
- {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} أي: أحاط علمه سبحانه بكل شيء، فلا يبعد أن يكون في علمه أن يحيق بي مكروه من جهتها.(7)
وبهذا احتاط - عليه السّلام - لنفسه ولدينه، فلن يستطيعوا أن ينسبوا إلى آلهتهم شيئاً من التأثير إذا قدّر الله تعالى بعض المكروه، كما أظهر عبوديته واستسلامه لله تعالى، ورضّاه بقضائه وقدره جلّ جلاله، الذي له كمال العلم وتمام المشيئة، فلا يخرج شيء عن علمه ومشيئته أبداً.(8
- {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}: فالله عليم بكل شيء يضع الأمور في مواضعها، لا يغيب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وكل شيء على مقتضى علمه بما كان وما سيكون، وذكره لله تعالى بوصف {رَبِّي}؛ للدلالة على أنه يستشعر معنى الربوبية دائماً، فهو الذي ربّاه وهو الذي يحميه ويحفظه من كل ضر وسوء، إلا أن يكون ذلك من حكمة أرادها وهو العلمي الخبير.(9)
- {أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ}: الهمزة للاستفهام، والفاء للإفصاح، والمعنى إذا كان الأمر كله بيد الله تعالى، وأن أحجاركم لا تنفع ولا تضر، أفلا تتذكرون الأمور، وتعرفونها على وجهها، والاستفهام هنا للتحريض على التذكر.(10)
ويدلُّ في قوله تعالى: {أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} على أن قضايا العقائد مأخوذة بالفطرة، وإقبال النفس على الشهوات هو ما يطمس آثار هذه الفطرة، فليس مطلوب منك أيَّها الإنسان إنشاء فكرة عقدية، بل المطلوب منك أن تتذكر فقط، والتذكر أمر فطريّ طبعيّ؛ لأنَّ الإنسان الخليفة في الأرض هو الذي تناسل من آدم إلى أن وصل إلينا، فقد جاء آدم إلى الأرض ومعه منهج سماوي ينظم به حركة الحياة، ولقّن آدم المنهج لأولاده، وكذا فعل أبناء آدم مع أولاده، ولكن المناهج تنطمس؛ لأنّها تتدخل في أهواء الناس وتثنيهم عن شهواتهم وتصدهم عن المفاسد، فيعرضون عنها أو يتجاهلونها، إذن فهي عرضة أن تُنسى، والرسالات إنما تذكر بالمنهج الأصلي الذي أخذناه عن الحق سبحانه وتعالى، لذلك يعلنها إبراهيم - عليه السّلام -. (11)
مراجع الحلقة الثامنة والخمسون:
(( التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (2/468).
(2) زهرة التفاسير، الإمام محمد أبو زهرة، (5/2566).
(3) قصص الأنبياء، مصطفى العدوي، (2/89).
(4) زهرة التفاسير، الإمام محمد أبو زهرة، (5/2567).
(5) تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، (6/3755).
(6) التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (2/468).
(7) أنوار التنزيل وأسرار التأويل (تفسير البيضاوي)، عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي البيضاوي، تحقيق: محمد عبد الرحمن المرعشلي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1418ه، (2/437).
(8 التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (2/469).
(9) زهرة التفاسير، الإمام محمد أبو زهرة، (5/2567).
(10) المرجع نفسه (5/2568).
(11) تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، (4/3756).
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي