الأربعاء

1446-04-13

|

2024-10-16

الحلقة الرابعة والسبعون (74)

غزوة بدر الكبرى (مرحلة ما قبل المعركة)

بلغ المسلمين تحرُّكُ قافلةٍ تجاريَّةٍ كبيرةٍ من الشَّام، تحمل أموالاً عظيمة لقريش، يقودها أبو سفيان، ويقوم على حراستها بين ثلاثين، وأربعين رجلاً، فأرسل الرَّسول صلى الله عليه وسلم بَسْبَسَ بنَ عمرو؛ لجمع المعلومات عن القافلة، فلَّما عاد بَسْبَسُ بالخبر اليقين، ندب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للخروج، وقال لهم: «هذه عِيرُ قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها؛ لعلَّ الله يُنْفِلُكُموها»، وكان خروجه من المدينة في اليوم الثاني عشر، من شهر رمضان المبارك، من السَّنة الثانية للهجرة، ومن المؤكَّد: أنَّه حين خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة، لم يكن في نيَّته قتالٌ؛ وإنَّما كان قصده عِيرَ قريش، وكانت الحالة بين المسلمين وكفار مكَّة حالة حرب، وفي حالة الحرب تكون أموال العدوِّ، ودماؤهم مباحةً، فكيف إذا علمنا: أنَّ جزءاً من هذه الأموال الموجودة في القوافل القرشيَّة، كانت للمهاجرين المسلمين من أهل مكَّة، قد استولى عليها المشركون ظلماً، وعدواناً.

كلَّف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عبدَ الله بن أمِّ مكتومٍ بالصَّلاة بالنَّاس في المدين. وأرسل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم اثنين من أصحابه إلى بدرٍ طليعةً، للتَّعرُّف على أخبار القافلة فرجعا إليه بخبرها: وقد حصل خلاف بين المصادر الصَّحيحة حول عدد الصَّحابة، الذين رافقوا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم في غزوته هذه إلى بدرٍ، ففي حين جعلهم البخاري «بضعة عشر وثلاثمئةٍ» [البخاري (3957) و(3958)]؛ يذكر مسلمٌ: أنَّهم كانوا «ثلاثمئةٍ وتسعة عَشَرَ رجلاً» [مسلم (1763)]، في حين ذكرت المصادر أسماء ثلاثمئةٍ وأربعين من الصَّحابة البدريين.

كانت قوَّات المسلمين في بدرٍ، لا تمثِّل القدرة العسكريَّة القصوى للدَّولة الإسلاميَّة؛ ذلك: أنَّهم إنَّما خرجوا لاعتراض قافلةٍ، واحتوائها، ولم يكونوا يعلمون: أنَّهم سوف يواجهون قوَّات قريشٍ، وأحلافها مجتمعةً للحرب، والَّتي بلغ تعدادها ألفاً [مسلم (1763)]، معهم مئتا فرسٍ، يقودونها إلى جانب جمالهم، ومعهم القِيانُ يضربن بالدُّفوف، ويغنِّين بهجاء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، في حين لم يكن مع القوات الإسلاميَّة من الخيل إلا فَرَسَانِ، وكان معهم سبعون بعيراً يتعاقبون ركوبَها. [الطبراني في المعجم الكبير (12105) والهيثمي في مجمع الزوائد (6/69)] .

أولاً: بعض الحوادث في أثناء المسير إلى بدرٍ:

وقد حدثت بعض الحوادث في أثناء مسير النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فيها من العِبَرِ والمواعظ الشَّيءُ الكثير:

1 - إرجاع البَرَاء بن عازبٍ وابن عمر لصغرهما: وبعد خروج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المدينة في طريقهم إلى ملاقاة عِير أبي سفيان وصلوا إلى (بيوت السُّقيا) خارج المدينة، فعسكر فيها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ، واستعرض صلى الله عليه وسلم مَنْ خرج معه، فردَّ مَنْ ليس له قدرةٌ على المُضِيِّ مع جيش المسلمين، وملاقاة مَنْ يُحتَمَل نشوبُ قتالٍ معهم، فردَّ على هذا الأساس البَرَاء بن عازب، وعبد الله بن عمر؛ لصغرهما، وكانا قد خرجا مع النبي صلى الله عليه وسلم راغبين، وعازمَيْنِ على الاشتراك في الجهاد. [البخاري (3955) و(3956)] .

2 - (فارجعْ فلن أستعينَ بمشركٍ): عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قِبَلَ بدرٍ، فلـمَّا كان بِحَرَّةِ الوَبَرَةِ، أَدْركهُ رَجُلٌ، قد كان يُذْكرُ منه جُرْأَةٌ، ونَجْدةٌ؛ ففرِحَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رَأوْهُ، فلـمَّا أدْرَكَهُ، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : جئتُ لأتَّبِعَكَ، وأُصيبَ معَكَ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «تؤمنُ بالله ورَسُولِهِ؟» قال: لا، قال: «فارجعْ؛ فلن أستعينَ بمشركٍ». قالت: ثمَّ مضى، حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل، فقال له كما قال أول مرة، فقال له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم كما قال أوَّل مرَّةٍ، ثمَّ رجع، فأدركه بالبَيْدَاءِ، فقال له كما قال أوَّل مرَّة: «تؤمنُ بالله ورسوله؟» قال: نعم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فانْطَلِقْ» [مسلم (1817) وأبو داود (2732) والترمذي (1558) وأحمد (3/148 و149)].

3 - مشاركة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أصحابه في الصِّعاب: فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنَّا يوم بدرٍ كلُّ ثلاثة على بعيرٍ، وكان أبو لُبَابَةَ، وعليُّ بن أبي طالبٍ زميلَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال: وكانت عُقبَةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال: فقالا: نحن نمشي عنك، فقال: «ما أنتما بأقوى منِّي، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما» [أحمد (1/411) وابن حبان (4733) وأبو يعلى (5359) والبزار (1759) ومجمع الزوائد (6/69)].

ثانياً: العزم على ملاقاة المسلمين ببدر:

 بلغ أبا سفيان خبرُ مسير النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، بأصحابه من المدينة، بقصد اعتراض قافلته، واحتوائها، فبادر إلى تحويل مسارها إلى طريق السَّاحل، في الوقت نفسه أرسل ضَمْضَمَ بن عمرو الغِفَاريَّ إلى قريشٍ يستنفرها؛ لإنقاذ قافلتها، وأموالها، فقد كان أبو سفيان يَقِظاً حَذراً، يتلقَّط أخبار المسلمين، ويسأل عن تحرُّكاتهم؛ بل يتحسَّس أخبارهم بنفسه، فقد تقدَّم إلى بدرٍ بنفسه، وسأل مَنْ كان هناك: هل رأيتم من أحدٍ؟ قالوا: لا، إلا رجلين، قال: أروني مُنَاخَ ركابهما، فأروه، فأخذ البعر فَفَتَّهُ، فإذا هو فيه النَّوى، فقال: هذه والله! علائفُ يثربَ، فقد استطاع أن يعرف تحرُّكات عدوه، حتَّى خبر السَّريَّة الاستطلاعيَّة عن طريق غذاء دوابِّها، بفحصه البعر الَّذي خلَّفته الإبل؛ إذ عرف أنَّ الرَّجلين من المدينة؛ أي: من المسلمين، وبالتَّالي فقافلته في خطرٍ، فأرسل ضَمْضَمَ بنَ عمرٍو، إلى قريشٍ، وغيَّر طريق القافلة، واتَّجه نحو ساحل البحر.

كان وقع خبر القافلة شديداً على قريشٍ؛ التي اشتاط زعماؤها غضباً؛ لما يَرَوْنه من امتهانٍ للكرامة، وتعريضٍ للمصالح الاقتصاديَّة للأخطار؛ إلى جانب ما ينجم عن ذلك من انحطاطٍ لمكانة قريشٍ بين القبائل العربيَّة الأخرى؛ ولذلك فقد سعوا إلى الخروج لمجابهة الأمر بأقصى طاقاتهم القتالية.

لقد جاءهم ضَمْضَمُ بنُ عمرو الغِفَاريُّ بصورةٍ مثيرةٍ جدّاً، يتأثَّر بها كلُّ من رآه ا، أو سمع بها؛ إذ جاءهم وقد حوَّلَ رَحْلَه، وجَدَعَ أنفَ بعيره، وشقَّ قميصه من قُبُـلٍ، ومن دُبُـرٍ، ودخل مكَّة وهو ينادي بأعلى صوته: يا معشرَ قريش! اللَّطيمةَ اللَّطيمةَ! أموالكم مع أبي سفيان، قد عرض لها محمد مع أصحابه، لا أرى أن تُدْركوها، الغوثَ، الغوثَ!.

وعندما أمن أبو سفيان على سلامة القافلة، أرسل إلى زعماء قريش وهو بالجُحْفَة، برسالةٍ أخبرهم فيها بنجاته، والقافلة، وطلب منهم العودة إلى مكَّة، وذلك أدَّى إلى حصول انقسامٍ حادٍّ في اراء زعماء قريش، فقد أصرَّ أغلبهم على التَّقدُّم نحو بدرٍ؛ من أجل تأديب المسلمين، وتأمين سلامة طريق التِّجارة القرشيَّة، وإشعار القبائل العربيَّة الأخرى بمدى قوَّة قريشٍ، وسلطانها، وقد انشق بنو زُهْرَة، وتخلَّف في الأصل بنو عديٍّ، فعاد بنو زُهْرَةَ إلى مكَّة، أمَّا غالبية قوَّات قريشٍ، وأحلافهم؛ فقد تقدَّمت؛ حتَّى وصلت بدراً.

ثالثاً: مشاورة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه:

لـمَّا بلغ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نجاةُ القافلة، وإصرارُ زعماء مكَّة على قتال النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  استشار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في الأمر، وأبدى بعضُ الصَّحابة عدم ارتياحهم لمسألة المواجهة الحربيَّة مع قريشٍ؛ حيث إنَّهم لم يتوقَّعوا المواجهة، ولم يستعدُّوا لها، وحاولوا إقناع الرَّسول صلى الله عليه وسلم بوجهة نظرهم، وقد صوَّر القرآن الكريم موقفَهم، وأحوال الفئة المؤمنة عموماً، في قوله تعالى: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ۝ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ۝ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ۝ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِل وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [الآنفال5 - 8] .

وقد أجمع قادة المهاجرين، على تأييد فكرة التَّقُّدم لملاقاة العدوِّ، وكان للمقداد بن الأسود موقفٌ متميِّزٌ، فقد قال عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه: شهدت من الْمِقْدَاد بن الأسود مشهداً، لأن أكونَ صاحِبَهُ أحبُّ إليَّ ممَّا عُدِلَ به: أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول كما قال قوم موسى: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ﴾، ولكنَّا نقاتل عن يمينك، وعن شمالك، وبين يديك، وخَلْفك، فرأيت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أشرق وَجْهُهُ وسَرَّه؛ يعني: قوله. [البخاري (3952)].

وفي روايةٍ: قال المقداد: يا رسولَ الله! إنَّا لا نقولُ لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ولكن: امضِ ونحن ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾، فكأنه سُرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . [البخاري (4609)] .

وبعد ذلك عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أشيروا عليَّ أيها النَّاس!» وكان إنَّما يقصد الأنصار؛ لأنَّهم غالبيةُ جنده، ولأنَّ بيعة العقبة الثَّانية، لم تكن في ظاهرها ملزمةً لهم بحماية الرَّسول صلى الله عليه وسلم خارج المدينة، وقد أدرك الصَّحابيُّ سعدُ بن معاذ، - وهو حامل لواء الأنصار - مقصد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من ذلك ؛ فنهض قائلاً: (والله! لكأنَّك تريدنا يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم : «أجل»، فقال: لقد آمنا بك، وصدَّقناك، وشهدنا أنَّ ما جئتَ به هو الحقُّ، وأعطيناك على ذلك عهودنا، ومواثيقنا على السَّمع، والطَّاعة، فامضِ يا رسول الله! لما أردت، فنحن معك، فوالَّذي بعثك بالحقِّ! لو استعرضت بنا هذا البحر، فخُضْتَه لخُضْنَاه معك، ما تخلَّف منا رجلٌ واحدٌ، وما نكره أن تلقى بنا عدوَّنا غداً، إنَّا لصُبُرٌ في الحرب، صُدُقٌ عند اللِّقاء، ولعلَّ اللهَ يريك منا ما تَقَرُّ به عينك، فَسِرْ على بركة الله. [ابن هشام (2/267) وبنحوه مسلم (1179)].

وسُرَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من مقالة سعد بن معاذٍ، ونشَّطه ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم : «سِيرُوا وأبشروا؛ فإنَّ الله تعالى قد وعدني إحدى الطَّائفتين، والله! لكأنِّي الآن أنظر إلى مصارع القوم» [البيهقي في دلائل النبوة (3/34) وابن هشام (2/267)] .

كانت كلمات سعدٍ مشجِّعةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وملهبةً لمشاعر الصَّحابة؛ فقد رفعت معنويات الصَّحابة، وشجَّعتهم على القتال، إنَّ حرص النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على استشارة أصحابه في الغزوات، يدلُّ على تأكيد أهمِّية الشُّورى في الحروب بالذَّات؛ ذلك لأنَّ الحروب تقرِّر مصير الأمم، فإمَّا إلى العلياء، وإمَّا تحت الغبراء.

رابعاً: المسير إلى لقاء العدوِّ، وجمع المعلومات عنه:

نظَّم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جنده، بعد أن رأى طاعة الصَّحابة، وشجاعتهم، واجتماعهم على القتال، وعقد اللواء الأبيض، وسَلَّمه إلى مصعب بن عمير، وأعطى رايتين سَوْدَاوَيْن إلى سعد بن معاذٍ، وعليِّ بن أبي طالبٍ، وجعل على السَّاقة قيس بن أبي صَعْصَعَة.

وقام صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكرٍ يستكشف أحوال جيش المشركين، وبينما هما يتجوَّلان في تلك المنطقة، لقيا شيخاً من العرب، فسأله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن جيش قريش، وعن محمَّدٍ وأصحابه، وما بلغه من أخبارهم؛ فقال الشَّيخ: لا أخبركما حتى تخبراني مِمَّن أنتما؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا أخبرتنا؛ أخبرناك» فقال: أو ذاك بذاك؟ قال: «نعم»، فقال الشَّيخ: فإنَّه بلغني: أنَّ محمَّداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الَّذي أخبرني؛ فهم اليوم بمكان كذا وكذا - للمكان الذي به جيش المسلمين - وبلغني أنَّ قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني؛ فهم اليوم بمكان كذا وكذا - للمكان الذي فيه جيش المشركين فعلاً - ثمَّ قال الشيخ: لقد أخبرتكما عمَّا أردتما، فأخبراني ممَّن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نحن من ماءٍ»، ثمَّ انصرف النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر عن الشَّيخ، وبقي هذا الشَّيخ يقول: ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟ [ابن هشام (2/267 - 268)] .

وفي مساء ذلك اليوم الَّذي خرج فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكرٍ، أرسل صلى الله عليه وسلم عليَّ بن أبي طالبٍ، والزُّبيـرَ بن العوَّام، وسعدَ بن أبي وقَّاصٍ، في نفرٍ من أصحابه إلى ماء بدرٍ؛ يتسقَّطون له الأخبار عن جيش قريشٍ، فوجدوا غلامين يستقيان لجيش المشركين، فأتوا بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لهما: «أخبراني عن جيش قريشٍ» فقالا: هم - والله! - وراء هذا الكثيب الَّذي ترى بالعُدوة القصوى، فقال لهما: «كم القوم؟» قالا: كثيرٌ، قال: «ما عدَّتُهم؟» قالا: لا ندْرِي، قال الرَّسول صلى الله عليه وسلم : «كم ينحرون كلَّ يومٍ؟» قالا: يوماً تسعاً، ويوماً عشراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «القوم ما بين التِّسعمئة والألف» ثمَّ قال لهما: «فمن فيهم من أشراف قريش؟» فذكرا عتبة، وشيبة ابني ربيعة، وأبا جهل، وأميَّة بن خلفٍ، في آخرين من صناديد قريش، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه قائلاً: «هذه مكَّةُ قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها» [ابن هشام (2/269)]

كان من هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، حرصه على معرفة جيش العدوِّ، والوقوف على أهدافه، ومقاصده؛ لأنَّ ذلك يعينه على رسم الخطط الحربيَّة المناسبة لمجابهته، وصدِّ عدوانه، فقد كانت أساليبه في غزوة بدرٍ في جمع المعلومات؛ تارةً بنفسه، وأخرى بغيره، وكان صلى الله عليه وسلم يطبِّق  مبدأ الكتمان في حروبه، فقد أرشد القرآن الكريم المسلمين إلى أهمية هذا المبدأ. قال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [النساء: 83].

وقد تحلَّى رسول صلى الله عليه وسلم بصفة الكتمان في غزواته عامَّةً، فعن كعب بن مالك رضي الله عنه، قال: «ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدُ غزوةً إلا ورَّى بغيرها» [البخاري (2947)]، وفي غزوة بدرٍ ظهر هذا الخلق الكريم في الآتي:

1 - سؤاله صلى الله عليه وسلم الشَّيخ الَّذي لقيه في بدرٍ عن محمَّدٍ وجيشه، وعن قريش وجيشها.

2 - تورية الرَّسول صلى الله عليه وسلم في إجابته على سؤال الشَّيخ: ممَّن أنتما؟ بقوله (ﷺ): «نحن من ماءٍ»، وهو جواب يقتضيه المقام، فقد أراد به الرَّسولُ (ﷺ) كتمانَ أخبار جيش المسلمين عن قريشٍ.

3 - وفي انصرافه فور استجوابه كتمانٌ - أيضاً - وهو دليلٌ على ما يتمتَّع به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحكمة’ فلو أنَّه أجاب هذا الشَّيخ ثمَّ وقف عنده، لكان هذا سبباً في طلب الشَّيخ بيان المقصود من قوله (ﷺ): «من ماءٍ».

4 - أمره صلى الله عليه وسلم بقطع الأجراس من الإبل يوم بدرٍ، فعن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالأجراس أن تقطع من أعناق الإبل يوم بدرٍ. [أحمد (6/150) وابن حبان (4699) و(4702) والهيثمي في مجمع الزوائد (5/174)].

5 - كتمانه صلى الله عليه وسلم خبر الجهة الَّتي يقصدها عندما أراد الخروج إلى بدر، حيث قال صلى الله عليه وسلم): «إنَّ لنا طَلبةً؛ فمن كان ظَهْرُهُ حاضراً؛ فيركبْ معنا» [مسلم (1901)].

قال الإمامُ النَّوويُّ: «في هذا: استحباب التَّورية في الحرب، وألاَّ يُبين الإمام جهة إغارته، وإغارة سراياه؛ لئلا يشيع ذلك؛ فيحذرهم العدوُّ». ونلحظ: أنَّ التَّربية الأمنيَّة في المنهاج النَّبويِّ مستمرةٌ منذ الفترة السِّرِّيَّة والجهريَّة بمكَّة، ولم تنقطع مع بناء الدَّولة، وأصبحت تنمو مع تطوِّرها، وخصوصاً في غزوات الرَّسول صلى الله عليه وسلم.

خامساً: مشورة الحُباب بن المُنْذِر في بدرٍ:

بعد أن جمع صلى الله عليه وسلم معلوماتٍ دقيقةًعن قوَّات قريشٍ، سار مسرعاً ومعه أصحابه إلى بدرٍ؛ ليسبقوا المشركين إلى ماء بدرٍ، وليحولوا بينهم وبين الاستيلاء عليه، فنزل عند أدنى ماءٍ من مياه بدرٍ، وهنا قام الحُبَاب بن المُنذر، وقال: يا رسول الله! أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه اللهُ، ليس لنا أن نتقدَّمه، ولا نتأخَّر عنه؟ أم هو الرَّأي، والحرب والمكيدة؟ قال: «بل هو الرَّأي، والحرب، والمكيدة» قال: يا رسولَ الله! فإن هذا ليس بمنزلٍ، فانهضْ يا رسول الله بالنَّاس! حتَّى تأتي أدنى ماءٍ من القوم - أي: جيش المشركين - فننزله، ونغوِّر - نخرِّب - ما وراءه من الابار، ثمَّ نبني عليه حوضاً فنملؤه ماءً، ثمَّ نقاتل القوم، فنشرب، ولا يشربون. فأخذ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم برأيه، ونهض بالجيش حتَّى أقرب ماءٍ من العدوِّ، فنزل عليه، ثمَّ صنعوا الحِيَاضَ، وغوَّروا ما عداها من الابار [ابن هشام (2/272)، والبيهقي في دلائل النبوة (3/35)].

وهذا يصوِّر مثلاً من حياة الرَّسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، حيث كان أيُّ فرد من أفراد ذلك المجتمع يُدْلي برأيه، حتَّى في أخطر القضايا، ولا يكون في شعوره احتمال غضب القائد الأعلى صلى الله عليه وسلم ، ثمَّ حصول ما يترتَّب على ذلك الغضب من تدنِّي سمعة ذلك المشير بخلاف رأي القائد، وتأخُّره في الرتبة، وتضرُّره في نفسه أو ماله.

إنَّ هذه الحرِّيَّة؛ الَّتي ربَّى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، مكَّنت مجتمعهم من الاستفادة من عقول جميع أهل الرَّأي السَّديد، والمنطق الرَّشيد، فالقائد فيهم ينجح نجاحاً باهراً، وإن كان حديثَ السِّنِّ؛ لأنَّه لم يكن يفكِّر برأيه المجرَّد، أو اراء عصبةٍ مهيمنةٍ عليه، قد تنظر لمصالحها الخاصَّة، قبل أن تنظر لمصلحة المسلمين العامَّة؛ وإنَّما يفكِّر باراء جميع أفراد جنده، وقد يحصل له الرَّأي السَّديد من أقلِّهم سمعةً، وأبعدهم منزلةً من ذلك القائد؛ لأنَّه ليس هناك ما يحول بين أيِّ فردٍ منهم، والوصول برأيه إلى قائد جيشه.

ونلحظ عظمة التَّربية النَّبويَّة؛ الَّتي سرَتْ في شخص الحُبَاب بن المُنذر، فجعلته يتأدَّب أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتقدَّم دون أن يُطلب رأيه؛ ليعرض الخطة الَّتي لديه؛ لكن هذا تمَّ بعد السُّؤال العظيم، الَّذي قدَّمه بين يدي الرَّسول صلى الله عليه وسلم : «يا رسولَ الله! أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدَّمه، ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرَّأي، والحرب، والمكيدة؟».

إنَّ هذا السُّؤال يوضِّح عظمة هذا الجوهر القياديَّ الفذَّ؛ الَّذي يعرف أين يتكلَّم، ومتى يتكلَّم بين يدي قائده، فإن كان الوحي هو الَّذي اختار هذا المنزل، فلأن يقدم، فتقطع عنقه أحبُّ إليه من أن يلفظ بكلمةٍ واحدةٍ، وإن كان الرأي البشريُّ؛ فلديه خطَّةٌ جديدةٌ كاملةٌ باستراتيجيَّةٍ جديدةٍ.

إنَّ هذه النَّفسيَّة الرَّفيعة، عرفت أصول المشورة، وأصول إبداء الرَّأي، وأدركت مفهوم السَّمع والطَّاعة، ومفهوم المناقشة، ومفهوم عرض الرَّأي المعارض لرأي سيِّد ولد آدم صلى الله عليه وسلم. وتبدو عظمة القيادة النَّبويَّة في استماعها للخطَّة الجديدة، وتبنِّي الخطَّة الجديدة المطروحة من جنديٍّ من جنودها، أو قائدٍ من قوَّادها.

سادساً: الوصف القرآنيُّ لخروج المشركين:

قال تعالى: ﴿وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [الآنفال: 47] .

ينهى المولى - عزَّ وجلَّ - المؤمنين عن التشبُّه بالكافرين؛ الَّذين خرجوا من ديارهم بطراً، ورئاء النَّاس، وتفسير الآية الكريمة:

1 - ﴿بَطَرًا﴾: قال القرطبيُّ: «والبطر في اللغة:، أي: التَّقوية بنعم الله - عزَّ وجلَّ - وما ألبسه من العافية على المعاصي».

2 - ﴿وَرِئَاءَ﴾: ومعناه:، أو الفعل الَّذي لا يقصد معه الإخلاص؛ وإنَّما يُقصد به التَّظاهر، وحبُّ الثناء.

3 - ﴿ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾: معطوفاً على ﴿ بَطَرًا ﴾، والسَّبيل: الطَّريق الَّذي فيه سهولةٌ، والمراد بسبيل الله: دينه؛ لأنَّه يوصل النَّاس إلى الخير، والصَّلاح.

فقد وصف - سبحانه - الكافرين في هذه الآية بثلاثة أشياء:

الأول: البطر، والثَّاني: الرِّياء، والثالث: الصَّدُّ عن سبيل الله.

ونلحظ: أنَّ الله تعالى عبَّر عن بطرهم، بصيغة الاسم الدَّالِّ على التَّمكين، والثُّبوت، وعن صدِّهم بصيغة الفعل الدَّالّ على التجدُّد والحدوث.

قال الإمام الرَّازي: «إنَّ أبا جهلٍ ورَهْطَه، وشيعتَه، كانوا مجبولين على البطر، والمفاخرة، والعُجْب، وأمَّا صدُّهم عن سبيل الله، فإنَّما حصل في الزَّمان؛ الَّذي أكرم فيه النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بالنُّبوَّة، ولهذا السَّبب ذُكِر البطر، والرئاء بصيغة الاسم، وذُكِر الصَّدُّ عن سبيل الله بصيغة الفعل، والله أعلم».

وقد جاء في تفسير هذه الآية عند القرطبيِّ: أنَّ المقصود بالآية: «يعني: أبا جهلٍ وأصحابه الخارجين يوم بدرٍ لنُصرة العِير، خرجوا بالقِيَان، والمغنِّيات والمعازف، فلـمَّا وردوا الجُحفة، بعث خُفافُ الكنانيُّ - وكان صديقاً لأبي جهلٍ - بهدايا إليه مع ابنٍ له، وقال: إن شئتَ؛ أمددتك بالرِّجال، وإن شئتَ؛ أمددتك بنفسي مع مَنْ خفَّ من قومي، فقال أبو جهل: إن كنا نقاتل اللهَ كما يزعم محمَّد؛ فوالله ما لنا بالله من طاقةٍ، وإن كنَّا نقاتل النَّاس؛ فوالله إنَّ بنا على النَّاس لقوةً، والله! لا نرجع عن قتال محمَّد حتَّى نرد بدراً، فنشربَ فيها الخمور، وتعزف علينا القِيانُ، فإن بدراً موسمٌ من مواسم العرب، وسوقٌ من أسواقهم، حتَّى تسمع العرب بمخرجنا، فتهابنا اخر الأبد، فوردوا بدراً، ولكن جرى ما جرى من هلاكهم».

سابعاً: موقف المشركين لـمَّا قدموا إلى بدرٍ:

بيِّن سبحانه وتعالى موقف المشركين لـمَّا قدموا إلى بدرٍ، قال تعالى: ﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الآنفال: 19] .

روى الإمام أحمد عن عبد الله بن ثعلبة: أنَّ أبا جهل قال حين التقى القومُ - في بدرٍ - اللَّهم! أقطعُنا للرَّحم، واتانا ممَّا لا يُعرف، فأَحِنْهُ - أي: أهلكه - الغداةَ.

فكان المُسْتَفْتِح. [أحمد (5/431) وابن هشام (2/280) والبيهقي في الدلائل (3/74)] .

ومعنى الآية: إن تستنصروا اللهَ على محمَّد، فقد جاءكم النَّصر، وقد كانوا عند خروجهم من مكَّة سألوا الله أن ينصر أحقَّ الطَّائفتين بالنَّصر، فتهكَّم الله بهم، وسمَّى ما حلَّ بهم من الهلاك نصراً، ومعنى بقيَّة الآية على هذا القول: ﴿وَإِنْ تَنْتَهُوا﴾ عمَّا كنتم عليه من الكفر، والعداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي: الآنتهاء إلى ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا﴾ كنتم عليه من الكفر والعداوة بتسليط المؤمنين ﴿نَعُدْ﴾، ونصرهم كما سلَّطناهم، ونصرناهم في يوم بدرٍ أي: ﴿وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا﴾، أي: ﴿وَلَوْ كَثُرَتْ﴾ تغني عنكم في حالٍ من الأحوال، ولو في حال كثرتها، ثمَّ قال: ومن كان معه فهو ﴿وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾، ومن كان الله عليه فهو المخذول.

ولما وصل جيش مكَّة إلى بدرٍ، دبَّ فيهم الخلاف، وتزعزعت صفوفهم الدَّاخلية، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لـمَّا نزل المسلمون، وأقبل المشركون؛ نظر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى عُتْبَةَ بنِ ربيعةَ وهو على جملٍ أحمر، فقال: «إن يكن عند أحدٍ من القوم خيرٌ، فهو عند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه؛ يَرْشُدُوا»، وهو يقول: يا قوم! أطيعوني في هؤلاء القوم، فإنَّكم إن فعلتم لن يزال ذلك في قلوبكم، ينظر كلُّ رجلٍ إلى قاتل أخيه، وقاتل أبيه، فاجعلوا حقَّها برأسي، وارجعوا، فقال أبو جهل: انتفخ والله! سَحْرُهُ حين رأى محمَّداً وأصحابه، إنَّما محمدٌ وأصحابه أكلة جزورٍ لو قد التقينا.

فقال عتبة: ستعلم من الجبان المفسد لقومه، أما والله! إنِّي لأرى قوماً يضربونكم ضرباً، أما ترون كأن رؤوسهم الأفاعي، وكأن وجههم السُّيوف. [البزار (1762) والهيثمي في مجمع الزوائد (6/76)] .

وهذا حكيم بن حزام، يحدِّثنا عن يوم بدرٍ - وكان في صفوف المشركين قبل إسلامه - قال: خرجنا؛ حتَّى نزلنا العُدْوة الَّتي ذكرها الله - عزَّ وجلَّ - فجئتُ عُتبةَ بن ربيعة، فقلت: يا أبا الوليد! هل لك أن تذهب بشرف هذا اليوم ما بقيت؟ قال: أفعل؛ ماذا؟ قلت: إنَّكم لا تطلبون من محمَّد إلا دم ابن الحَضْرَمِي وهو حليفُك، فتحمل ديته، وترجع بالنَّاس، فقال: أنت وذاك، وأنا أتحمَّل ديته، واذْهبْ إلى ابن الحَنْظَليَّـة - يعني: أبا جهل - فقل لـه: هل لـك أن ترجع اليوم بمن معك عن ابن عمِّك؟ فجئته، فإذا هو في جماعةٍ من بين يديه، ومن ورائه، وإذا ابن الحَضْرَميِّ واقف على رأسه وهو يقول: قد فسخت عقدي من عبد شمس، وعقدي إلى بني مخزومٍ، فقلت له: يقول لك عُتْبةُ بن ربيعة: هل لك أن ترجع اليوم عن ابن عمِّك بمن معك؟ قال: أما وجد رسولاً غَيْرَك؟ قلت: لا، ولم أكن لأكون رسولاً لغيره! قال حكيم: فخرجت مبادراً إلى عتبة؛ لئلا يفوتني من الخبر شيءٌ. [ابن هشام (2/274 - 275) والبيهقي في الدلائل (3/65 - 66)] .

فهذا عتبة بن ربيعة وهو في القيادة من قريشٍ لا يرى داعياً لقتال محمَّد صلى الله عليه وسلم ، وقد دعا قريشاً إلى ترك محمَّدٍ؛ فإن كان صادقاً فيما يدعو إليه فعِزُّهُ عِزُّ قريش، ومُلْكُهُ مُلْكُهَا، وستكون أسعد النَّاس به، وإن كان كاذباً فسيذوب في العرب، وينتهي.

ولكنَّ كبرياء الجاهليَّة دائماً في كلِّ زمانٍ، ومكانٍ لا يمكن أن يترك الحقَّ يتحرَّك؛ لأنَّها تعلم أنَّ انتصارَه معناه: زوالُها من الوجود، وبقاؤه مكانها.

وهذا عُمَيْر بن وَهْب الجُمَحِي، ترسله قريش، ليحزر لهم أصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم ، فَاسْتَجَال حول العسكر ثـمَّ رجع إليهم ، فقال: ثلاثمئة رجلٍ ، يزيدون قليلاً ، أو ينقصـون، ولكن أمهلوني أنظـرْ أَلِلْقَوْمِ كمينٌ، أو مددٌ؟ قال فضرب في الوادي حتَّى أَبْعد، فلم يرَ شيئاً، فرجع إليهم، فقال: ما وجدت شيئاً، ولكنِّي قد رأيت يا معشرَ قريش، البلاياتحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت النَّاقع، قومٌ ليس معهم منعةٌ، ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله! ما أرى أن يُقتل رجلٌ منهم حتَّى يَقتل رجلاً منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خيرُ العيش بعد ذلك؟ فَرَوْا رأيَكم!.

وهذا أميَّـة بن خلف، رفض الخروج من مكَّة ابتداءً؛ خوفاً من الموت، «فأتاه أبو جهلٍ، فقال: يا أبا صفوان! إنَّك متى يراك النَّاسُ قد تخلَّفتَ؛ وأنت سيد أهل الوادي؛ تخلفوا معك، فلم يزل به أبو جهل حتَّى قال: أما إذْ غلبتني، فوالله! لأشترينَّ أجود بعيرٍ بمكَّة، ثمَّ قال أميَّة: يا أمَّ صفوان! جَهِّزيني. فقالت له: يا أبا صفوان! وقد نسيتَ ما قال لك أخوك اليثربيُّ؟ تقصد سعد بن معاذ عندما قال له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّهم قاتلوك» ؟ قال: لا، ما أريدُ أن أجوزَ معهم إلا قريباً، فلـمَّا خرج أُميَّـةُ أخذ لا يتركُ منزلاً إلا عَقَلَ بعيرَه، فلم يزل بذلك حتَّى قتله اللهُ - عزَّ وجلَّ - ببدرٍ» [البخاري (3950) والبيهقي في الدلائل (3/25  27)] .

ومن دهاء أبي جهل - لعنه الله - أن سلَّط عُقبةَ بن أبي مُعَيْط، على أميَّةَ بن خلف، فأتاه عقبةُ بمَجْمَرةٍ يحملها، فيها نارٌ ومَجْمَر (العود يتبخَّر به)، حتَّى وضعها بين يديه، ثمَّ قال: استجمرْ؛ فإنَّما أنت من النِّساء، قال: قبَّحك الله، وقبَّح ما جئت به! ثمَّ تجهَّز، وخرج من النَّاس.

لقد كانت القوَّة المعنويَّة لجيش مكَّة، متزعزعةً في النُّفوس، وإن كان مظهره القوَّة، والعزم، والثبات، إلا أنَّ في مخبره الخوفُ، والجبنُ، والتردُّد. وكان لرؤيا عاتكة بنت عبد المطلب أثرٌ على معنويات أهل مكَّة؛ فقد رأت في المنام: أنَّ رجلاً استنفر قريشاً، وألقى بصخرةٍ من رأس جبل أبي قُبَيْس بمكَّة، فتفتَّتت، ودخلت سائر دُورِ قريش، وقد آثارت الرُّؤيا خصومةً بين العبَّاس، وأبي جهلٍ، حتَّى قدم ضَمْضَمُ، وأعلمهم بخبر القافلة، فسكنت مكَّة، وتأوَّلت الرُّؤيا، كما أن جُهَيم بن الصَّلْت بن المطلب بن عبد مناف رأى رؤيا عندما نزلت قريش الجُحْفة، فقد رأى رجلاً أقبل على فرسٍ حتَّى وقف، ومعه بعيرٌ له، ثمَّ قال: قُتل عتبةُ بن ربيعة، وشيبةُ بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأميَّة بن خلف، وفلان، وفلانٌ، فعدَّد رجالاً ممَّن قُتِلَ يوم بدر من أشراف قريش، ثمَّ رأيته ضرب في لَبَّة بعيره، ثمَّ أرسله في العسكر، فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نَضْحٌ من دمه، فلـمَّا بلغت أَبا جهل هذه الرُّؤيا، قال: وهذا أيضاً نبيٌّ اخر من بني المطلب، سيعلم غداً من المقتول إن نحن التقينا. كانت تلك الرُّؤَى قد ساهمت بتوفيق الله تعالى، في إضعاف النَّفسيَّة القرشيَّة المشركة.

ثامناً: الوصف القرآنيُّ لمواقع المسلمين والمشركين في أرض المعركة:

قال تعالى: ﴿إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الآنفال: 42] .

هذه الآية الكريمة توضِّح الأماكن في غزوة بدرٍ، وصوَّر لنا - سبحانه وتعالى - الحالة التي كان عليها الجيشان يوم اللقاء، فقد كان المسلمون بجانب الوادي وحافته الأقرب إلى المدينة، وكانت أرضه رخوةً، تغوص فيها الأقدام، ولم يكن هناك ماءٌ، وكان الكفَّار بالجانب الآخر من الوادي - الأبعد من المدينة - وكانت أرضه ثابتةً، وكان فيها ماءٌ، وكان ركب العير الَّذي يقوده أبو سفيان بالقرب من ساحل البحر

فقد ذكَّر المولى - عزَّ وجلَّ - المؤمنين بنعمته عليهم، قال: ﴿إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا﴾ أي: اذكروا أيها المؤمنون وقت أن خرجتم من المدينة، فسرتم حتَّى كنتم أي: بجانب ﴿بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا﴾، وحافَّته الأقرب إلى المدينة المنوَّرة أي: والكفار بالجانب الأبعد الأقصى ﴿وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى﴾ الَّذي هو بعيد بالنِّسبة للمدينة - أي: وعِيرُ ﴿وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾ سفيان ومن فيها كانت أسفل منكم من ناحية ساحل البحر الأحمر على بُعْدِ ثلاثة أميالٍ منكم.

وفي الآية تصوير ما دبَّر - سبحانه - من أمر غزوة بدرٍ؛ ليقضي أمراً كان مفعولاً؛ من إعزاز دينه، وإعلاء كلمته، حين وعد المسلمين إحدى الطَّائفتين؛ مبهمةً غير مبينةٍ، حتَّى خرجوا؛ ليأخذوا العير راغبين في الخروج، وأقلق قريشاً ما بلغهم من تعرُّض المسلمين لأموالهم، فنفروا؛ ليمنعوا عِيرَهم، وسبَّب الأسباب حتَّى أناخ هؤلاء بالعدوة الدُّنيا، وهؤلاء بالعدوة القصوى، وراءهم العير يحامون عليها، حتى قامت الحرب على ساقٍ، وكان ما كان.

وقوله تعالى: بيان لتدبير الله ﴿وَلَوْ تَوَاعَدْتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً﴾، وإرادته النافذة؛ أي: ولو تواعدتم أنتم وهم على التلاقي للقتال هناك؛ لاختلفتم في الميعاد؛ لكرآه تكم للحرب على قلَّتكم، وعدم إعدادكم شيئاً من العدَّة لها، وانحصار همِّكم في أخذ العير، ولأنَّ غرض الأكثرين منهم كان إنقاذ العير دون القتال أيضاً؛ لأنَّهم كانوا يهابون قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يأمنون نصر الله له؛ لأنَّ كفر أكثرهم به كان عناداً، أو استكباراً، لا اعتقاداً أي: ولكن تلاقيتم هنالك على غير ﴿وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً﴾، ولا رغبة في القتال؛ ليقضي الله أمراً كان ثابتاً في علمه، وحكمته: أنَّه واقعٌ لابدَّ منه، وهو القتال المفضي إلى خزيهم، ونصركم عليهم، وإظهار دينه، وصدق وعده لرسوله صلى الله عليه وسلم كما تقدَّم.

وقوله تعالى: ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾

قال الالوسي: أي: ليموت من يموت عن حجَّةٍ عاينها، ويعيش من يعيش عن حجَّةٍ شاهدها، فلا يبقى محلٌّ لتعليلٍ بالأعداد؛ فإنَّ وقعة بدرٍ من الآيات الواضحة، والحجج الغُرِّ المحجَّلة.

وقوله: تذييلٌ قُصِدَ به التَّرغيب في ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾، والتَّرهيب من الكفر، أي: لا يخفى عليه شيءٌ من أقوال أهل الإيمان، عليمٌ بما تنطوي عليه قلوبهم، وضمائرهم - وسيجازي - سبحانه - كلَّ إنسانٍ بما يستحقُّه مِنْ ثوابٍ، أو عقابٍ على حسب ما يعلم، وما يسمع عنه.

يمكن النظر في كتاب السِّيرة النَّبويّة عرض وقائع وتحليل أحداث

                        على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ

http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC-169.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022