انتقال الخلافة من الصديق إلى الفاروق...
الظروف و الحيثيات
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الخمسون
في شهر جمادى الآخرة من العام الثَّالث عشر للهجرة النبويَّة، مرض الخليفة أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ واشتدَّ به المرض، فلمَّا ثقل، واستبان له من نفسه؛ جمع النَّاس إِليه فقال: إِنَّه قد نزل بي ما قد ترون، ولا أظنُّني إِلا ميتاً لما بي، وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحلَّ عنكم عقدتي، وردَّ عليكم أمركم، فأمِّروا عليكم من أحببتم، فإِنَّكم إِن أمَّرتم في حياةٍ منِّي كان أجدر أن لا تختلفوا بعدي.
وقد قام أبو بكر رضي الله عنه بعدَّة إِجراءات لتتمَّ عمليَّة اختيار الخليفة القادم:
1ـ استشارة أبي بكرٍ كبار الصَّحابة من المهاجرين والأنصار:
وتشاور الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ وكلٌّ يحاول أن يدفع الأمر عن نفسه، ويطلبه لأخيه؛ إِذ يرى فيه الصَّلاح، والأهليَّة، لذا رجعوا إِليه، فقالوا: رأينا يا خليفة رسول الله رأيك! قال: فأمهلوني حتى أنظر لله، ولدينه، ولعباده، فدعا أبو بكر عبد الرحمن بن عوف فقال له: أخبرني عن عمر بن الخطاب! فقال له: ما تسألني عن أمرٍ إِلا وأنت أعلم به منِّي. فقال أبو بكرٍ: وإِنْ. فقال عبد الرَّحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه. ثمَّ دعا عثمان بن عفان. فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب. فقال: أنت أخبرنا به. فقال: على ذلك يا أبا عبد الله! فقال عثمان: الّلهُمَّ علمي به أنَّ سريرته خيرٌ من عانيته، وأنَّه ليس فينا مثله. فقال أبو بكر: يرحمك الله، والله لو تركته ما عَدَتْكَ!
ثمَّ دعا أسيد بن حضير، فقال له مثل ذلك، فقال أسيد: الّلهُمَّ أَعْلَمُه الخيرة بعدك، يرضى للرِّضا، ويسخط للسُّخط، والَّذي يُسِرُّ خيرٌ من الَّذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه.
وكذلك استشار سعيد بن زيد وعدداً من الأنصار والمهاجرين، وكلُّهم تقريباً كانوا برأيٍ واحدٍ في عمر إِلا طلحة بن عبيد الله خاف من شدَّته، فقد قال لأبي بكر: ما أنت قائل لربِّك إِذا سألك عن استخفافك عمر علينا وقد ترى غلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني، أبالله تخوِّفونني؟ خاب من تزوَّدَ من أمركم بظلمٍ! أقول: الّلهُمَّ استخلفتُ عليهم خيْرَ أهْلكَ!
وبيَّن لمن نبهه إِلى غلظة عمر، وشدَّته؛ فقال: ذلك لأنَّه يراني رقيقاً، ولو أفضى الأمر إِليه؛ لترك كثيراً ممَّا هو عليه.
2ـ ثم كتب عهداً مكتوباً يقرأ على النَّاس في المدينة وفي الأنصار عن طريق أمراء الأجناد، فكان نصُّ العهد:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في اخر عهده بالدُّنيا، خارجاً منها، وعند أوَّل عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إِنِّي استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب، فاسمعوا له، وأطيعوا، وإِنِّي لم الُ الله، ورسوله، ودينه، ونفسي، وإِيَّاكم خيراً، فإِنْ عَدَلَ فذلك ظنِّي به، وعلمي فيه، وإِن بدَّل فلكلِّ أمرئ ما اكتسب، والخير أردتُ، ولا أعلم الغيب {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ *} [الشعراء: 227].
إِنَّ عمر هو نصح أبي بكرٍ الأخير للأمَّة، فقد أبصر الدُّنيا مقبلةً تتهادى، وفي قومه فاقةٌ قديمةٌ يعرفها، فإِذا أطلُّوا بها؛ استشرتهم شهواتُها فنكلت بهم واستبدَّت، وذاك ما حذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إِيَّاه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فوالله لا الفقر أخشى عليكم! ولكن أخشى عليكم أن تُبسط عليكم الدُّنيا كما بُسِطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم ».
لقد أبصر أبو بكر الدَّاء، فأتى لهم ـ رضي الله عنه ـ بدواءٍ ناجع.. جبل شاهقٌ إِذا ما رأته الدُّنيا أيست، وولَّت عنهم مدبرةً، إِنَّه الرَّجل الَّذي قال فيه النَّبي صلى الله عليه وسلم : «إِيهاً يا بن الخطاب! والذي نفسي بيده ما لقيك الشَّيطان سالكاً فجّاً قطُّ إِلا سلك فجّاً غير فجِّك! »
إِنَّ الأحداث الجسام الَّتي مرَّت بالأمَّة قد بدأت بقتل عمر، هذه القواصم خير شاهدٍ على فراسة أبي بكرٍ، وصدق رؤيته في العهد لعمر، فعن عبد الله بن مسعودٍ ـ رضي الله عنه ـ قال: أفرس النَّاس ثلاثة: صاحبة موسى الَّتي قالت: {يتأبط اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ *}، وصاحب يوسف حيث قال: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}، وأبو بكر حين استخلف عمر، فقد كان عمر هو سدَّ الأمَّة المنيع الَّذي حال بينها وبين أمواج الفتن.
3ـ أنَّه أخبر عمر بن الخطَّاب بخطواته القادمة: فقد دخل عليه عمر فعرَّفه أبو بكر بما عزم، فأبى أن يقبل، فتهدَّده أبو بكر بالسَّيف فما كان أمام عمر إِلا أن قَبِلَ.
4ـ أنَّه أراد إِبلاغ النَّاس بلسانه، واعياً مدركاً حتى لا يحصل أيُّ لبسٍ، فأشرف أبو بكر على النَّاس، وقال لهم: أترضون بمن أستخلف عليكم، فإِنِّي والله ما ألوت من جهد الرأي، ولا ولَّيت ذا قرابةٍ، وإِنِّي قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا. فقالوا: سمعنا، وأطعنا.
5ـ أنَّه توجَّه بالدُّعاء إِلى الله يناجيه ويبثه كوامن نفسه، وهو يقول: الّلهُمَّ ولَّيته بغير أمر نبيِّك، ولم أرد بذلك إِلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة، واجتهدت لهم رأيي فولَّيت عليهم خيرهم، وأحرصهم على ما أرشدهم، وقد حضرني مِنْ أمرك ما حضر، فاخلفني فيهم، فهم عبادك.
6ـ أنَّه كلَّف عثمان بن عفان أن يتولَّى قراءة العهد على النَّاس، وأخذ البيعة لعمر قبل موت أبي بكرٍ، بعد أن ختمه بخاتمه لمزيدٍ من التَّوثيق، والحرص على إِمضاء الأمر دون أيِّ اثارٍ سلبيَّة، وقال عثمان للنَّاس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا: نعم. فأقرُّوا بذلك جميعاً، ورضوا به.
7ـ البيعة لعمر بن الخطَّاب قبل أن يُتَوفَّى أبو بكرٍ الصِّدِّيق، فبعد أن قرئ العهد على الناس ورضوا به؛ أقبلوا عليه، وبايعوه، ولم تتمَّ بيعةٌ بعد الوفاة بل باشر عمر بن الخطاب أعماله بصفته خليفة للمسلمين فور وفاة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ.
ويلحظ الباحث: أنَّ عمر ولي الخلافة باتِّفاق أصحاب الحلِّ والعقد وإِرادتهم، فهم الذين فوَّضوا لأبي بكرٍ انتخاب الخليفة، وجعلوه نائباً عنهم في ذلك، فشاور، ثمَّ عَيَّن الخليفة، ثمَّ عرض هذا التَّعيين على النَّاس، فأقرُّوه، وأمضوه، وموافقوه عليه، وأصحاب الحلِّ والعقد في الأمة هم النُّواب(الطَّبيعيون)عن هذه الأمَّة، وإِذاً فلم يكن استخلاف عمر ـ رضي الله عنه ـ إِلا على أصح الأساليب الشُّوريَّة، وأعدلها.
إِنَّ الخطوات الَّتي سار عليها أبو بكرٍ الصِّدِّيق في اختيار خليفته من بعده لا تتجاوز الشُّورى بأيِّ حال من الأحوال، وإِن كان الإِجراءات المتَّبعة فيها غير الإِجراءات المتبعة في تولية أبي بكرٍ نفسه. وهكذا تمَّ عقد الخلافة لعمر ـ رضي الله عنه ـ بالشُّورى، والاتِّفاق، ولم يورد التَّاريخ أيَّ خلافٍ وقع حول خلافته بعد ذلك، ولا أن أحداً نهض طوال عهده لينازعه الأمر، بل كان هناك إِجماعٌ على خلافته، وعلى طاعته في أثناء حكمه، فكان الجميع وحدةً واحدةً.
8 ـ وصيَّة الصِّدِّيق لعمر بن الخطاب:
فقد اختلى الصِّدِّيق بالفاروق، وأوصاه بمجموعةٍ من التَّوصيات لإِخلاء ذمَّته من أيِّ شيءٍ، حتَّى يمضي إِلى ربِّه خالياً من أيِّ تبعة، بعد أن بذل قصارى جهده، واجتهاده، وقد جاء في الوصيَّة: اتَّق الله يا عمر! واعلم أنَّ لله عملاً بالنَّهار لا يقبله بالليل، وعملاً باللَّيل لا يقبل بالنَّهار، وأنَّه لا يقبل نافلةً حتَّى تُؤدَّى فريضةٌ، وإِنَّما ثقلت موازين مَنْ ثقلت موازينه يوم القيامة باتِّباعهم الحقَّ في دار الدُّنيا، وثقله عليهم، وحُقَّ لميزان يوضع فيه الحقُّ غداً أن يكون ثقيلاً. وإِنَّما خفَّت موازين مَنْ خفَّت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في دار الدُّنيا، وخفته عليهم، وحقَّ لميزانٍ يوضع فيه الباطل غداً أن يكون خفيفاً، وإِنَّ الله تعالى ذكر أهل الجنَّة، فذكرهم بأحسن أعمالهم، وتجاوز عن سيئة، فإِذا ذكرتُهم؛ قلت: إِنِّي أخاف أنْ لا ألحق بهم، وإِنَّ الله تعالى ذكر أهل النَّار، فذكرهم بأسوأ أعمالهم، وردَّ عليهم أحسنه، فإِذا ذكرتُهم؛ قلت: إِنِّي لأرجو ألا أكون مع هؤلاء، ليكون العبد راغباً راهباً، لا يتمنَّى على الله، ولا يقنط من رحمة الله، فإِن أنت حفظت وصيَّتي فلا يكح غائبٌ أبغضَ إِليك من الموت، ولستَ تُعجزه.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book01(1).pdf