الخميس

1446-04-14

|

2024-10-17

وحان وقت الرحيل...اللحظات الأخيرة في حياة الصديق

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة الواحدة و الخمسون

قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: أوَّل ما بدئ مرض أبي بكر: أنَّه اغتسل، وكان يوماً بارداً، فحُمَّ خمسة عشرة يوماً لا يخرج إِلى صلاةٍ، وكان يأمر عمر بالصَّلاة، وكانوا يعودونه، وكان عثمان ألزمَهم له في مرضه، ولما اشتدَّ به المرض قيل له: ألا ندعو لك الطَّبيب؟ فقال: قد راني فقال: إِنِّي فعالٌ لما أريد، وقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: قال أبو بكر: انظروا ماذا زاد في مالي منذ دخلت في الإِمارة، فابعثوا به إِلى الخليفة بعدي . فنظرنا فإِذا عبد نوبيٌّ كان يحمل صبيان، وإِذا ناضحٌ كان يسقي بستاناً له . فبعثنا بهما إِلى عمر، فبكى عمر، وقال: رحمة الله على أبي بكرٍ، لقد أتعب مَنْ بعده تعباً شديداً!
وقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: لمَّا مرض أبو بكر مرضه الَّذي مات فيه، دخلت عليه وهو يعالج ما يعالج الميِّت، ونفسه في صدره، فتمثَّلت هذا البيت:
لَعَمْرُكَ ما يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْماً وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ
فنظر إِليَّ كالغضبان، ثم قال: ليس كذلك يا أم المؤمنين! ولكن قول الله أصدق {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ *} [ق: 19]. ثمَّ قال: يا عائشة! إِنَّه ليس أحدٌ من أهلي أحبَّ إِليَّ منك، وقد كنت نحلتك حائطاً، وإِنَّ في نفسي منه شيئاً، فردِّيه إِلى الميراث . قالت: نعم، فَرَدَدْتُه . وقال رضي الله عنه: أما إِنَّا منذ ولينا أمر المسلمين لم نأكل لهم ديناراً، ولا درهماً، ولكنَّا قد أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا من فيء المسلمين قليلٌ ولا كثيرٌ، إِلا هذا العبد الحبشي، وهذا البعير النَّاضح، وجرد هذه القطيفة، فإِذا متُّ؛ فابعثي بهنَّ إِلى عمر، وابرئي منهنَّ! ففعلت، فلمَّا جاء الرَّسول إِلى عمر بكى حتَّى جعلت دموعه تسيل في الأرض، ويقول: رحم الله أبا بكرٍ، لقد أتعب مَنْ بعده! رحم الله أبا بكرٍ، لقد أتعب مَنْ بعده! رحم الله أبا بكرٍ لقد أتعب مَنْ بعده! وقد جاء في رواية: أنَّ أبا بكرٍ لما حضرته الوفاة قال: إِنَّ عمر لم يدعني حتَّى أصبت من بيت المال ستة الاف درهم، وإِنَّ حائطي الَّذي بمكان كذا فيها. فلمَّا توفي ذكر ذلك لعمر فقال: يرحم الله أبا بكرٍ، لقد أحبَّ ألا يدع لأحدٍ بعده مقالاً!
ويظهر من هذه المواقف ورع الصِّدِّيق في المال العامِّ، فقد ترك هذا الخليفة العظيم تجارته، وتخلَّى عن ذرائع كسبه اشتغالاً عنها بأمور المسلمين، وقياماً بوظائف الخلافة، فيضطرُّ إِلى أخذ نفقته من بيت المال بما لا يزيد عن الحاجة إِلى سدِّ الجوع وستر العورة، ثمَّ هو يؤدِّي للمسلمين خدمةً هيهات أن تؤدِّي حقَّها الخزائنُ، ولمَّا أشرف على وفاته وعنده فضلةٌ من مال المسلمين، وهي ذلك المتاع الحقير يأمر بردِّها إِلى المسلمين ليلقى ربَّه امناً، مطمئناً، نزيه القلب، طاهر النَّفس، خفيف الحمل إِلا من التَّقوى، فارغ اليدين إِلا من الإِيمان، إِنَّ في هذا لبلاغاً، وإِنَّها لموعظةٌ لقومٍ يعقلون.
كما أنَّ ما قام به من الوصيَّة بتعويض بيت مال المسلمين بأرضه المذكورة مقابل ما أنفق على نفسه، وعياله منه، وكان ورعاً منه ورغبةً في أن يكون عمله في الولاية تطوُّعاً، وخالصاً لله تعالى، بعيداً عن أيِّ حظٍّ من حظوظ الدُّنيا.
وقد استمرَّ مرض أبي بكرٍ مدَّة خمسة عشر يوماً، حتَّى كان يوم الإِثنين ليلة الثلاثاء في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة للهجرة، قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: إِنَّ أبا بكر قال لها: في أيِّ يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: في يوم الإِثنين، قال: إِنِّي لأرجو فيما بيني وبين الليل، قال: ففيم كفَّنتموه؟ قالت: في ثلاثة أثوابٍ بيض سحوليه يمانيَّة، ليس فيها قميصٌ، ولا عمامةٌ، فقال أبو بكر: انظري ثوبي هذا فيه ردع زعفران، أو مشقٌ، فاغسليه، واجعلي معه ثوبين اخرين، فقيل له: قد رزق الله وأحسن؛ نكفِّنك في جديد . قال: إِنَّ الحيَّ هو أحوج إِلى الجديد ليصون به نفسه عن الميِّت، إِنَّما يصير الميت إِلى الصَّديد، وإِلى البلى، وقد أوصى أن تغسله زوجه أسماء بنت عميس، وأن يدفن بجانب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان اخر ما تكلَّم به الصِّدِّيق في هذه الدُّنيا، قول الله تعالى: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101] .
وارتجَّت المدينة لوفاة أبي بكرٍ الصِّدِّيق، ولم تر المدينة منذ وفاة الرَّسول يوماً أكثر باكياً وباكيةً من ذلك المساء الحزين، وأقبل عليُّ بن أبي طالب مسرعاً باكياً مسترجعاً، ووقف على البيت الَّذي فيه أبو بكر، فقال: رحمك الله يا أبا بكر! كنت إِلف رسول الله، وأنيسه، ومستراحه، وثقته، وموضع سرِّه، ومشاورته، وكنت أوَّل القوم إِسلاماً، وأخلصهم يقيناً، وأشدَّهم لله يقيناً، وأخوفهم لله، وأعظمهم غناءً في دين الله عزَّ وجلَّ، وأحوطهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأحدبهم على الإِسلام، وأحسنهم صحبةً، وأكثرهم مناقب، وأفضلهم سوابق، وأرفعهم درجةً، وأقربهم وسيلةً، وأشبههم برسول الله هدياً، وسمتاً، وأشرفهم منزلةً، وارفعهم عنده، وأكرمهم عليه، فجزاك الله عن رسول الله وعن الإِسلام أفضل الجزاء! صدَّقت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كذبه النَّاس، وكنت عنده بمنزلة السَّمع والبصر، سمَّاك الله في تنزيله صدِّيقاً، فقال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ *} [الزمر: 33].
واسيته حين بخلوا، وقمت معه على المكاره حين قعدوا، وصحبته في الشدَّة أكرم الصُّحبة ثاني اثنين، صاحبه في الغار، والمُنَزَّل عليه السَّكينة، ورفيقه في الهجرة، وخليفته في دين الله وأمَّته أحسنَ الخلافة حين ارتدُّوا، فقمت بالأمر ما لم يقم به خليفة نبيٍّ، ونهضت حين وهن أصحابُه، وبرزت حين استكانوا، وقويت حين ضعفوا، ولزمت منهاج رسول الله؛ إِذ وهنوا، وكنت كما قال رسول الله ضعيفاً في بدنك، قويّاً في أمر الله تعالى، متواضعاً في نفسك، عظيماً عند الله تعالى، جليلاً في أعين الناس كبيراً في أنفسهم، لم يكن لأحدهم فيك مغمزٌ، ولا لقائلٍ فيك مهمزٌ، ولا لمخلوق عندك هوادة، الضَّعيف الذَّليل عندك قويٌّ عزيزٌ حتَّى تأخذ بحقِّه، القريب والبعيد عنك في ذاك سواء، وأقرب النَّاس عندك أطوعهم لله عزَّ وجل، وأتقاهم .
شأنك الحقُّ، والصِّدق، والرِّفق، قولك حكمٌ وحتم، وأمرك حلمٌ وحزمٌ، ورأيك علمٌ وعزمٌ، اعتدل بك الدِّين، وقوي بك الإِيمان، وظهر أمر الله، فسبقت ـ والله! ـ سبقاً بعيداً، وأتعبت من بعدك إِتعاباً شديداً، وفزت بالخير فوزاً مبيناً، فإِنَّا لله وإِنا إِليه راجعون، رضينا عن الله عزَّ وجلَّ قضاءه، وسلَّمنا له أمره، والله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله بمثلك أبداً، كنت للدِّين عزّاً، وحرزاً، وكهفاً، فألحقك الله عزَّ وجلَّ بنبيِّك محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، ولا حرمنا أجرك، ولا أضلَّنا بعدك! فسكت النَّاس حتَّى قضى كلامه، ثمَّ بكوا حتَّى علت أصواتهم، وقالوا: صدقت!
وجاء في روايةٍ: إِنَّ عليّاً قال عندما دخل على أبي بكرٍ بعدما سُجِّيَ أنَّه قال: ما أحدٌ ألقى الله بصحيفته أحبَّ إِليَّ من هذا المُسَجَّى.
هذا وقد توفي الصِّدِّيق ـ رحمه الله ـ وهو ابن ثلاث وستين سنة مجمعٌ على ذلك في الرِّوايات كلِّها، استوفى سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وغسَّلته زوجه أسماء بنت عميس، وكان قد أوصى بذلك، ودفن جانب رسول الله، وقد جُعل رأسه عند كتفي رسول الله، وصلَّى عليه خليفته عمر بن الخطاب، ونزل قبره عمر، وعثمان، وطلحة، وابنه عبد الرحمن، وأُلصق اللَّحد بقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهكذا خرج أبو بكر الصِّدِّيق من هذه الدُّنيا بعد جهاد عظيمٍ في سبيل نشر دين الله في الآفاق، وستظلُّ الحضارة الإِنسانيَّة مدينةً لهذا الشَّيخ الجليل الذي حمل لواء دعوة الرَّسول بعد وفاته، وحمى غرسه ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ وقام برعاية بذور العدل والحرِّيَّة، وسقاها أزكى دماء الشُّهداء، فاتت من كل الثَّمرات عطاءً جزيلاً، حقَّق عبر التاريخ تقدُّماً عظيماً في العلوم، والثَّقافة، والفكر، وستظلُّ الحضارة مدينةً للصِّدِّيق؛ لأنَّه بجهاده الرَّائع، وبصبره العظيم حمى الله به دين الإِسلام في ثباته في الردَّة، ونشر الله به الإِسلام في الأمم، والدُّول، والشُّعوب بحركة الفتوحات العظيمة، الَّتي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، وأختم هذا الكتاب بقول أبي محمد عبد الله القحطاني الأندلسي:
قُلْ إِنَّ خَيْرَ الأنبياءِ محمَّدٌ وأجلُّ مَنْ يَمْشِي على الكُثبانِ
وأجلُّ صَحْبِ الرُّسْل صَحْبُ محمَّدٍ وكذاك أَفْضَلُ صَحْبِه العُمَرَان
رَجُلانِ قد خُلقَا لِنَصْرِ محمَّدٍ بدمي ونَفْسِي ذانكَ الرَّجلان
فهما اللَّذان تظاهرا لنبيِّنا في نصره وَهُمَا له صهران
بنتاهما أسنى نِسَاءِ نَبِيِّنَا وَهُمَا لَهُ بالوَحْي صَاحِبَتَان
أبواهما أسْنَى صحابةِ أحمد يا حبَّذا الأبوانِ والبنتان
وهما وزيراه اللَّذانِ هُمَا لِفَضَائِلِ الأعْمَال مستبقان
وهما لأحْمَدَ ناظراهُ وسمْعُهُ وَبِقُرْبِهِ في القَبْر مضطجعان
كانا على الإِسلامِ أشْفَقَ أهلِه وَهُمَا لِدِيْنِ محمَّدٍ جبلان
أصفاهما أخْشَاهُما أتْقَاهُما في السِّرِّ والإعلان
أسناهما أزْكَاهُما أعْلاَهُما أوْفَاهُما في الوَزْنِ والرُّجْحَان
صِدِّيقُ أحْمَد صاحبُ الغَار الَّذي هُوَ في المغارة والنَّبِيُّ اثْنَان
أعني أبا بكرٍ الَّذي لَمْ يختلفْ مِنْ شَرْعِنَا في فَضْله رَجُلاَن
هُوَ شيخُ أصْحَاب النَّبي وَخَيْرُهم وإِمَامُهم حقّاً بلا بطلان
وأبو المطهَّرة الَّتي تَنْزِيهُهَا قَدْ جَاءَنا في النُّور والفُرْقَان
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book01(1).pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022