الجمعة

1446-07-10

|

2025-1-10

إذا أراد الله وقوع شيء في هذا الوجود هيأ له أسبابه التي يقع بها، وذلك لأنه جعل نظام هذا الكون مبنيا على سنن لا تنخرم إلا بمشيئة الله عز وجل كما هو الشأن في المعجزات وخوارق العادات، وهو استثناء من القاعدة التي قام عليها الكون من اعتبار الأسباب حقيقة في الوصول إلى مسبباتها، وقد قيل: إذا أراد الله أمرا يسر أسبابه.

ومن التطبيقات الواضحة لهذا في القرآن الكريم ما جاء في حيثيات غزوة بدر وملابساتها، حيث هيأ الله تعالى أسباب النصر للمسلمين في هذا اليوم، ولم يجعل نصرهم في ظاهر الأمر من قبيل الخوارق المحضة التي ليس للسبب فيها نصيب، خاصة في مثل هذا الموقف الشديد الذي عانى فيه المسلمون من قلة العدد والعتاد، كل ذلك ليتبين للمسلمين قبل غيرهم أن السنن الإلهية والقوانين الربانية التي قام عليها نظام الكون لا تتخلف عادة، وقد تجلت هذه الأسباب وظهرت في ما جاء في قوله تعالى عن غزوة بدر ﴿إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام﴾ (الأنفال: 11).

فإن إغشاءهم النعاس كان من أسباب النصر، لأنهم لما ناموا زال أثر الخوف من نفوسهم في مدة النوم، ولما استيقظوا وجدوا نشاطا، ونشاط الأعصاب يكسب صاحبه شجاعة ويزيل شعور الخوف الذي هو فتور الأعصاب (تفسير التحرير والتنوير، 9/278).

الأسباب تعمل مع تحقق الشروط وانتفاء الموانع

فكل سبب موقوف على وجود الشروط وانتفاء الموانع، ولا بد من تمام الشروط وزوال الموانع -أي في إنتاج الأسباب- وكل ذلك بقضاء الله وقدره، وليس شيء من الأسباب مستقلا بمطلوبه، بل لا بد من انضمام أسباب أخرى إليه، ولا بد أيضا من صرف الموانع والمعارضات عنه حتى يحصل المقصود، فالمطر وحده لا ينبت النبات إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك، ثم الزرع لا يتم حتى تصرف عنه الآفات المفسدة له، والطعام والشراب لا يغذيان إلا بما جعل الله في البدن من الأعضاء والقوى، قال تعالى ﴿أفرأيتم ما تحرثون *أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون﴾ (الواقعة: 63‑64)، أي: إذا كانت منكم الحراثة والبذر مع إعانتنا لكم على ذلك فإن إتمام الزرع والإثمار وتوفير الشروط وإزالة الموانع من شأننا نحن.

ويؤكد ذلك قوله تعالى ﴿أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون﴾ (النمل: 60)، فقد ذكر إنزال الماء لأنه من جملة ما خلق الله، ولقطع شبهة أن يقولوا: إن المنبت للشجر الذي فيه رزقنا هو الماء اغترارا بالسبب بودر بالتأكيد بأن الله خلق الأسباب، وهو خالق المسببات بإزالة الموانع والعوارض العارضة لتأثير الأسباب، وبتوفير القوى الحاصلة في الأسباب، وتقدير المقادير المناسبة للانتفاع بالأسباب، فقد ينزل الماء بإفراط فيجرف الزرع والشجر أو يقتلهما، ولذلك جمع بين ﴿وأنزل﴾ وقوله ﴿ فأنبتنا﴾ تنبيها على إزالة الشبهة (تفسير التحرير والتنوير، 20/11).

إنكار قانون السببية يؤدي إلى إبطال حقائق العلوم

لقد ثبت بنص القرآن الكريم أن الأسباب الشرعية هي محل حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهي في اقتضائها لمسبباتها قدر، فهذا شرع الرب وذلك قدره، وهما خلقه وأمره، والله له الخلق والأمر، ولا تبديل لخلق الله ولا تغيير لحكمه، فكما لا يخالف سبحانه الأسباب القدرية وأحكامها بل يجريها على أسبابها وما خلقت له فهكذا الأسباب الشرعية لا يخرجها عن سببها وما شرعت له، بل هذه سنته شرعا وأمرا، وتلك سنته قضاء وقدرا، قال تعالى ﴿فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا﴾ (فاطر: 43).

فالمسببات مرتبطة بأسبابها شرعا وقدرا، ولذلك فطلبها من غير أسبابها مذموم، كما أن إنكار الأسباب لأن تكون موصلة لها بأنها أمر مردود، بل إن النتائج المترتبة على إنكار قانون النسبية كافية لهدم حقائق العلوم كلها، فإن العلوم جميعها تستند إلى هذا القانون.

ونفي الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل، وهو طعن في الشرع أيضا، فالله تعالى يقول ﴿وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها﴾ (البقرة: 164)، وقال تعالى ﴿يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام﴾ (المائدة: 16) (السنن الإلهية، الدكتور مجدي عاشور، ص 158).

والحاصل أنه قد ثبت بالقطع أنه لا مكان في هذا الوجود للمصادفة العمياء ولا للفلتة العارضة، قال تعالى ﴿إنا كل شيء خلقناه بقدر﴾ (القمر: 49)، وقال تعالى ﴿وخلق كل شيء فقدره تقديرا﴾ (الفرقان: 2)، وقال تعالى ﴿فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا﴾ (النساء: 19)، وقال تعالى ﴿وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون﴾ (البقرة: 216).

والأسباب التي تعارف عليها الناس قد تتبعها آثارها وقد لا تتبعها، والمقدمات التي يراها الناس حتمية قد تعقبها نتائجها وقد لا تعقبها، ذلك أنه ليست الأسباب والمقدمات هي التي تنشئ الآثار والنتائج، وإنما إرادة الله هي التي تنشئها، تهيئ الظروف لتحققها كما تنشئ الأسباب والمقدمات ﴿لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا﴾ (الطلاق: 1)، ﴿وما تشاءون إلا أن يشاء الله﴾ (الإنسان: 30).

والمؤمن يأخذ بالأسباب لأنه مأمور بالأخذ بها، والله هو الذي يقدر آثارها ونتائجها، والاطمئنان إلى رحمة الله وعدله وإلى حكمته وعلمه، وهو وحده الملاذ الأمين، والنجاة من الوسواس والهواجس ﴿الشيطان يعدكم الفقر﴾ (البقرة: 268).

 

  • ملاحظة مهمة: استفاد المقال أفكاره من كتاب "سنة الله في الأخذ بالأسباب" للدكتور علي محمد الصلابي، واعتمد في كثير من معلوماته على كتاب "السنن الإلهية" للدكتور مجدي عاشور.

المراجع

  • تفسير التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر، الطبعة الأولى، 1984.
  • السنن الإلهية، الدكتور مجدي عاشور، دار السلام للطباعة، الطبعة الأولى، 2007.
  • سنة الله في الأخذ بالأسباب، الدكتور علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2016.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022