أبو طالب عم النبي ﷺ ... سر إلهي (1)
الحلقة السابعة عشر من كتاب
مع المصطفى صلى الله عليه وسلم
بقلم: فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
ربيع الأول 1443 هــ / أكتوبر 2021
- سر إلهي:
كان مما صنعه الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن قيَّض له أبا طالب يحوطه ويحميه وينصره، وكان على دين قومه، ولعل هذا من بديع الأسرار، فإنه لو كان مسلمًا ربما لم يستطع أن يصنع الذي صنع، ولضعف مقامه، لكن بقاءه على دين قومه كان من أسباب القوة والتمكين له ومراعاة قريش لهذا الجانب.
جاءت إليه قريش وقالوا له: إن هذا الرجل قال كذا وكذا، وفعل كذا وكذا، فلو أعطيتنا إياه، ونعطيك أحد أبنائنا بدلًا عنه، فقال: «والله ما أنصفوني، تعطوني ابنكم أَغْذُوه لكم، وأعطيكم ابن أخي تقتلونه، هذا والله لا يكون أبدًا، أفلا تعلمون أن الناقة إذا فقدت ولدها لم تحن إلى غيره».
وجاءوه يومًا آخر فقالوا له: ما نحن يا أبا طالب، وإن كنت فينا ذا منزلة بسنك وشرفك وموضعك، بتاركي ابن أخيك على هذا حتى نهلكه أو يكف عنا ما قد أظهر بيننا من شتم آلهتنا، وسب آبائنا، وعيب ديننا، فإن شئت فاجمع لحربنا، وإن شئت فدع، فقد أعذرنا إليك، وطلبنا التخلص من حربك وعداوتك، فكل ما نظن أن ذلك مخلص، فانظر في أمرك، ثم اقض إلينا قضاءك.
فدعا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وقال له: يا ابن أخي، إن قومك قد جاءوني فقالوا كذا وكذا، وآذوني قبل، فأبق عليَّ وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق أنا ولا أنت، واكفف عن قومك ما يكرهون من قولك هذا الذي فرَّق بيننا وبينهم. فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء، وأنه خاذله ومسلمه، وضعف عن نصرته والقيام معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا عَمَّاهُ، لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي والْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أنْ أَتْرُكَ هَذَا الأمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ أوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ». ثم استعبر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فبكى ثم قام، فلما ولَّى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يا ابن أخي. فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا.
وفي رواية: قال أبو طالب: إن بني عمك هؤلاء قد زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته عن أذاهم. فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء فقال: «أَتَرَوْنَ هَذِه الشَّمْسَ؟». قالوا: نعم. قال: «فَمَا أنَا بِأَقْدَرَ عَلَى أنْ أَدَعَ ذَلِكَ مِنْكُمْ عَلَى أنْ تَسْتَشْعِلُوا لي مِنْها شُعْلَةً». فقال أبو طالب: والله ما كذبنا ابن أخي فارجعوا.
جاءته قريش مرة أخرى، فوقف أمامهم، وبيَّن لهم أنه لا يمكن أن يتخلى عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهددوه بأن يجتمعوا ويتحالفوا عليه وعلى قومه، فحينئذٍ قال أبو طالب قصيدته المشهورة التي ذكرها ابن هشام وغيره:
وَلمَّا رَأَيتُ القَـومَ لا وُدَّ عِندَهُــم *** وَقَد قَطَعوا كُلَّ العُرى وَالوَسائِـلِ
وَقَــدْ حالَفُــوا قَومًا عَلَينا أَظِـنَّـةً *** يَعَضُّـونَ غَيظًــا خَلفَنا بِالأَنامِــلِ
صَبَرتُ لَهُم نَفسي بِسمراءَ سَمحَةٍ *** وَأَبيَضَ عَضبٍ مِن تُراثِ المقاوِلِ
ويقول وهو يصف النبي صلى الله عليه وسلم :
وَأَبيَضَ يُستَسقى الغَمامُ بِوَجهِهِ *** ثِمالُ اليَتـامى عِصمَــةٌ لِلأَرامِــلِ
يَلوذُ بِهِ الهُلَّاكُ مِـن آلِ هاشِــم *** فَهَــم عِنْدَهُ في نِعمَــةٍ وفَوَاضِــلِ
أَعوذُ بِرَبِّ الناسِ مِن كُلِّ طاعِنٍ *** عَلَينا بِســوءٍ أَو مُـــلِــحٍّ بِباطِــلِ
وَمِن كاشِـحٍ يَسعَـى لَنا بِمعيـبَةٍ *** وَمِن مُلحِقٍ في الدينِ ما لَم نُحاوِلِ
يشير هنا إلى أنه يستعيذ بالله من شر هؤلاء القوم الذين يتآمرون ضده ويهددونه، وقد فعلوا، كما في قصة الصحيفة الظالمة التي كتبوها وعلقوها في جوف الكعبة، والتي كان فيها مقاطعة لبني هاشم ومَن في حكمهم: لا يبيعونهم، ولا يشترون منهم، ولا يناكحونهم.
لقد كانت هذه الصحيفة جولة من الحرب الظالمة، وهي خطة يتواصى بها أعداء الإسلام اليوم عبر العصور.
لقد قامت قريش بهذا العمل وعلَّقت صحيفة المقاطعة، حتى أصابهم ما أصابهم من الجوع والفقر، بل كانوا يأكلون الجلود اليابسة ويستفونها، ثم قام بعد ذلك مَن أراد أن يقضي على هذه الصحيفة، لكنهم وجدوا أن الأَرَضَة كانت قد أكلتها، في إشارة إلى أن الله تعالى لا يُصْلح عمل المفسدين.
إن المواقف النبيلة من أبي طالب ومَن معه من آل هاشم في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم وإحاطته لها معانٍ عظيمة.
ولعل من أبرز المعاني التي نشير إليها: أن الذين لم يؤمنوا بهذا الدين درجات ومقامات، فلكل واحد منهم مقام يناسبه.
فمثل أبي طالب له مقام خاص، وقد حرص صلى الله عليه وسلم على هدايته حتى آخر لحظة، ففي لحظة الموت جاءه صلى الله عليه وسلم وقال: «يَا عَمِّ، قُلْ: لَا إلهَ إلَّا اللهُ. أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيامَةِ». فقال: لولا أن تعيرني قريش، يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك.
وقد كان يقول:
فوَاللهِ لَــوْلَا أنْ أَجِـيءَ بِسُبَّــةٍ *** تجرُّ عَلَى أَشْياخِنَا فِي المَحافِـلِ
لكُنَّا اتَّبَعْناهُ عَلَى كُــلِّ حَالَــةٍ *** مِنَ الدَّهْرِ جدًّا غَيْرَ قَوْلِ التَّهَازُلِ
لَقـدْ عَلِمُوا أنَّ ابنَنَا لا مُكَذَّبٍ *** لَدَيْنَا وَلا يُعْنَى بِقـوْلِ الأباطِــلِ
وَجُدتُ بِنَفْسِي دُونَـهُ وحَمَيْتُهُ *** ودَافَعْتُ عَنْهُ بِالطُّلَى والكَلاكِـلِ
ويقول أيضًا:
ولَقدْ عَلِمْتُ بِأنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ *** مِنْ خَيْـرِ أَدْيـانِ الْبَرِيَّـةِ دِينَا
لَوْلَا المَلامَةُ أوْ حَذَارِي سُبَّة *** لَوَجدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينَا
لقد مات أبو طالب على غير الإسلام، ومات وهو يقول: هو على ملة عبد المطلب.
إذًا: هذا الرجل مات على غير الإسلام، ومع ذلك فالمسلمون جميعًا يعترفون بهذا العمل الكبير الذي عمله، ولم يكتب أحد في السيرة إلا وأشاد بهذا الموقف النبيل، بل القرآن سجَّل محبة النبي صلى الله عليه وسلم له محبة شخصية وليست محبة دينية، ولهذا قال سبحانه: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: 56].
نعم، أحبه صلى الله عليه وسلم، ومن حبه أن أحب هدايته.
ومن هنا ينبغي أن نراعي أن هناك من غير المسلمين مَن لديه نوع من تقبل الإسلام أو الرغبة فيه، وعنده وفاء وذمة أو أمانة.
بينما هناك مَن يقول الله تعالى عنهم: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: 1]. فهؤلاء كفروا، وزادوا على كفرهم أيضًا أنهم صدوا عن سبيل الله.
وقال أيضًا:﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ﴾ [النحل: 88]، فهؤلاء يفسدون ويصدون ويحاربون.
إذًا: الكفار درجات، وينبغي أن نراعي أن التعامل مع هؤلاء الناس بالعدل والصدق من أهم أسباب تقريبهم للدين، فالذي أعلن دخوله في الإسلام اليوم، كان يفكِّر في الإسلام بالأمس، وقبل شهر قرأ، وقبل سنة سمع وحاول التعرف على الدين، فهو قد قطع طريقًا طويلة، وهكذا فقد يكون مَن تلقاه من غير المسلمين قد قطع مرحلة في الطريق إلى هذا الدين، ولذا يفترض فينا ألا نصد عن سبيل الله، بل نكون ممن يقرب الناس لهذا الدين بالخلق الفاضل وحسن التعامل مع الناس، وإدراك أن الكفار هم محل للدعوة أيضًا.
رابط تحميل كتاب مع المصطفى صلى الله عليه وسلم
http://alsallabi.com/books/view/506
كما ويمكنكم تحميل جميع مؤلفات فضيلة الدكتور سلمان العودة من موقع الدكتور علي الصَّلابي الرسمي