الأربعاء

1446-10-04

|

2025-4-2

من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج1)

عاصمة الأمير «المدينة المتنقلة»

الحلقة: الحادية والخمسون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ربيع الأول 1442 ه/ نوفمبر 2020

دعا الأمير ذات صباح في مدينة المدية المجلس العسكري الاستشاري للانعقاد، وخاطب الجميع بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وبفضل الله وإحسانه مازالت انتصاراتنا مستمرة، وما زالت حصوننا تحرس المدن، والمصانع فيها تمدنا بالأسلحة، ولكن بحال هوجمت حصوننا بقوات لم تستطيع حمايتها والدفاع عنها وعن المصانع التي كلفتنا الكثير، لماذا لا نخلي الحصون من هذه المصانع، وننقلها إلى مكان امن؟ أما المدن التي لا نريدها ساحات قتال ماذا يضرنا لو تركنا العدو يحتلها مؤقتاً ونقاتله بعيداً عنها كما يفعل الآن؟
هذه المدن لن يستطيع العدو تغيير أي نظام إداري فيها ولا في الخدمات ولا في القضاء ولا في أي أمر إداري، وكل ما سيفعله هو وضع ضابط فرنسي في غرفة الوالي وعدداً من الجنود يتجولون في شوارعها، ولكنهم لن يرحموا عائلاتنا من النساء والأطفال، ولنتذكر ما فعلوه بعائلة ملكهم لويس السادس عشر، وكيف عذبوها وأهانوا أطفالها، وكيف سحبوا زوجته ماري أنطوانيت إلى المقصلة، بهذا الأسلوب المتوحش تصرفوا مع ملوكهم، فكيف تتخيلون سيتصرفون مع عائلاتنا إذا وقعوا في أيديهم؟
وقف القائد الكبير بوحميدي بعمامته البيضاء، وبرنسه الأحمر، وسيفه الذي لا يفارق خاصرته وأجاب قائلاً: ربما سيأخذونهن أسيرات يضعوهن في أقبية سجونهم ويساوموننا عليهن كرهائن. ووقف أحد الأعضاء، وقال: اقترح أن يبعدوهن إلى قصر كاشروا، أجاب الأمير: وإذا هاجموا قصرنا في كاشروا بقوات هائلة لا قبل لنا بقهرها؟ فوقف القائد بن علال قائلاً: يا مولاي ماذا في ذهنك من حل؟ وما خطتك؟ فلنستمع إليها، وبعد ذلك نعطيك رأينا فيها. كان الأمير في هذه الجلسات يتكلم وهو جالس، فقال: فلننشأئ مدينة متنقلة، فأخذ أعضاء المجلس ينظر كل منهما إلى الاخر مذهولاً.
وشرح الأمير لهم فكرته واقتنعوا بها، وشرع في تأسيس عاصمة كبيرة رحالة مؤلفة من خيام كثيرة ومضارب عديدة، فخطط لبنائها، وفي مدة قصيرة ظهرت إلى الوجود على أروع الأساليب، وسمي ما يخصه منها الزمالة،وما يخص الأعيان والعامة بالدائرة، وما يخص الجند منها بالمحلة، واتخذ فيها مضارب لمعامل السلاح، وأخرى لوضع العتاد الحربي، ومثلها للذخائر، وفسطاطاً كبيراً لاجتماع المجلس العام، واخر اتخذه مسجداً، وأعدت مضارب بعيدة عن السكن للباعة والسوق التي كانت تجلب إليها المؤن وسائر ما يلزم، وكانت تضم مضارب للحرفيين بمختلف الأنواع، من نجارة وحدادة وغيرها، وكان يسودها نظام تسييري متقن، وكانت هذه العاصمة تتمتع بمنظر جميل، وقدر عدد سكانها بعشرات الالاف، وبعضهم يرى أنه كان مئتي ألف نسمة.
ووجد الأمير عبد القادر صعوبة في إقناع من كان يجب عليهم الحياة في الصحراء والانتقال من بيوت الحجر إلى بيوت الشعر، فنظم بهذه المناسبة قصيدة غايتها الترغيب بالحياة الجديدة، والقصيدة هي:
ياعاذراً لامرئ قد هام في الحضر وعاذلا لمحب البدو والقفر
لا تذمّنّ بيوتاً خفّ محملها وتمدحنّ بيوت الطين والحجر
لو كنت تعلم ما في البدو تعذرني لكن جهلت وكم في الجهل من ضرر
أو كنت أصبحت في الصحراء مرتقباً بساط رمل به الحصباء كالدرر
أو جلت في روضة قد رق منظرها بكل لون جميل شائق عطر
تستنشقن نسيماً طاب منتشقاً يزيد في الروح لم يمرر على قذر
أو كنت في صبح ليل هاج هاتنه علوت في مرقب أو جلت بالنظر
رأيت في كل وجه من بسائطها سرباً من الوحش يرعى أطيب الشجر
فيا لها وقفة لم تبقِ من حزنٍ في قلب مضنى ولا كدّاً لذى ضجر
نبادر الصيد أحياناً فنبغته فالصيد منا مدى الأوقات في ذُعُر
فكم ظلمنا ظليماً في نعامته وإن يكن طائراً في الجو كالصقر
يوم الرحيل إذا شدّت هوادجُنا شقائق عمّها مزن من المطر
فيها العذارى وفيها قد جعلن كُوىً مرقعات بأحداق من الحَوَر
تمشي الحداة لها من خلفها زجل أشهى من الناي والسنطير والوتر
ونحن فوق جياد الخيل نُركضها شليلها زينة الأكفال والخصر
نطارد الوحش والغزلان نلحقها على البعاد وما تنجو من الضمر
نروح للحي ليلاً بعد ما نزلوا منازل ما بها لطخ من الوضر
ترابها المسك بل أنقى وجاد بها صوب الغمام بالاصال والبكر
نلقى الخيام وقد صُفت بها فغدون مثل السماء زهت بالأنجم الزهر
قال الألى قد مضوا قولاً يصدقه نقل وعقل وما للحق من غير
الحسن يظهرُ في بيتين رونقه بيت من الشعر أو بيت من الشّعَر
أنغامنا إن أتت عند العشي تَخَلْ أصواتها كدوي الرعد بالسحر
سفائن البر بل أنجى لراكبها سفائن البحر كم فيها من الخطر
لنا المهاري وما للريم سرعتها بها وبالخيل نلنا كل مفتخر
فخيلنا دائماً للحرب مسرجة من استغاث بنا بشّره بالظفر
نحن الملوك فلا تعدل بنا أحداً وأي عيش لمن قد بات في حفر
لا نحمل الضيم ممن جار نتركه وأرضه وجميع العز في السفر
وإن أساء علينا الجار عثرته نبينُ عنه بلا ضُرّ ولا ضرر
نبيت نار القرى تبدو لطارقنا فيها المداواة من جوع ومن خصر
عدوُّنا ما له ملجأ ولاوزر وعندنا عاديات السبق والظفر
شرابها من حليب ما يخالطه ماء وليس حليب النوق كالبقر
أموال أعدائنا في كل اونة نقضي بقسمتها بالعدل والقدر
ما في البداوة من عيب تذم به إلا المروءة والإحسان بالبدر
وصحة الجسم فيها غير خافية والعيب والداء مقصور على الحضر
من لم يمت عندنا بالطعن عاش مدى فنحن أطول خلق الله في العُمُر
كان مشهد مدينة الخيام يحرك أفئدة المهاجرين، ويستهوي قلوبهم، ويشعل مشاعر الحمية والحماسة فيهم، كانت هذه المدينة نشيداً وطنياً يعلو على مناكب الرياح، فيصل إلى أسماع الوطن، يخالطه صليل السيوف ، وأزيز الرصاص ، وهتاف الرجال « الله أكبر » هذه المدينة خلعت على الروابي والهضاب حُلّة من
البهاء، فكانت أينما حلّت حلّ الازدهار وتعطّر الفضاء بنسائم الحرية، وما كان المجاهدون يعودون من حملاتهم إلى هذه المدينة المتحركة حتى تنقلب أهازيجهم الحماسية إلى نسائم من الحب والتقوى والعواطف الصادقة ومشاعر الأمل، الأمل بالانتصار والعيش الرغيد بعد تطهير الوطن من الغزاة وتقويض صروح كبريائهم.
أ ـ معركة حصن داكمت:
في صباح الخامس عشر من شهر (أيار سنة 1842م)، سار الجنرال لاموريسيير تصحبه قوة كبيرة من الجند إلى حصن داكمت، واشتبكوا مع الأمير، وكان مخطط العدو احتلال الحصن مرة أخرى، هذا المركز الهام الذي شيده عبد القادر بن محيي الدين وكان أهم حصونه، وحاصر لامور سيير الحصن عدة أيام، ثم تحصن في مكان قرب الحصن، وكان إلى جانب الجنرال رئيس قبيلة الدوائر مصطفى بن إسماعيل على رأس قوة كبيرة من رجاله، وانتظر الأمير إلى أن عسعس الليل وفاجأهم بهجوم من عدة اتجاهات، هجوم لم يكونوا يتوقعونه، وقد كانت هذه خطته في أكثر المعارك: الهجوم بدل الدفاع، فانهال الفرسان بخيولهم على قوات العدو، يدوسون الجموع بحوافرها، غير مبالين بالرصاص والقذائف، وقد وصف أحد الصحفيين هذه المواجهة بقوله: إن العرب كانوا يقاتلون بجنون وليس بشجاعة. وقتل في هذه المعركة القائد المتعاون مع فرنسا مصطفى بن إسماعيل عمّ المازري زعيم قبيلة الدوائر، وراه أحد المجاهدين يتخبط بدمه، فقطع رأسه وجاء به على رأس حربة إلى مركز القيادة صائحاً: هذا رأس الفتنة الخائن ابن إسماعيل. وانتهت هذه المعركة بنصر المؤمنين وهزيمة الغزاة، من دون أن يتمكنوا من دخول الحصن والتمركز فيه.
ب ـ هزيمة المارشال بيجو في مضيق عقبة خده:
شاهد بعض فرسان الأمير شرذمة من جنود العدو بقيادة المارشال بيجو ؛ الذي كان يلاحق الأمير، وشاهدوا مؤخرة جيشه تحميها قوات كبيرة فأدركوه ونشبت معركة وهلك أكثر جنده إذ لم تتمكن هذه القوات من الصمود لحين وصول النجدات، وحاصرهم المجاهدون في مضيق من عدة جهات، ثم انقضوا عليهم كالأسود، فحاول المارشال النجاة بمن بقي معه من الجنود بعد أن خسر أربعة وخمسين، لكن القتال تواصل عنيفاً حتى بزوغ الفجر، وكان هناك بين الصخور شهيدان صعدت روحهما الطاهرة إلى السماء، الأول: القدور بن بحر، من كبار قادة الجيش المحمدي، والثاني: الخليفة محمد بن الجيلاني.
وفي غبش الصباح الباكر هدأ كل شيء، ولفّ الصمت ذلك الوادي الموغل في القدم، وأصبح الانضباط على أشده بين المتقاتلين، وأفلح العدو في الانسحاب المنظم حاملاً جرحاه متسللاً بين الصخور والأودية الوعرة، والرماة الجزائريون يلاحقونه بسهامهم، مما اضطر البعض منه لاتقاء الأخطار بالاختفاء وراء الصخور، وتحدث الجنرال دو فيغير الذي كان يرافق تلك الحملة، فقال: بعد خروجنا من مضيق الموت سرنا إلى سهل الزيتون، فوجدنا حامية من جنودنا أخذت بمساعدتنا على نقل الجرحى والموتى إلى مدينة الجزائر. وفي طريقنا وجدنا مدينة خالية من السكان، ولم يبق من عماراتها سوى مساجدها القوية البنيان، فاتخذناها مأوى للمرضى من جنودنا، ولعدم وجود حطب للتدفئة استعملنا سقوف المنازل لسد العوز، وكان يجب علينا عدم إطالة البقاء في هذه المدينة الجميلة الواقعة على تل زاهر كبير، وكان يضم اثار قلعة قديمة. وكان من عادة العرب عدم ترك أي شيء يُستفاد منه، ورأينا أن الإسراع بإخلائها، وعدم المكوث فيها طويلاً أمر يفرضه الواقع المحزن.
ج ـ بر الأمير بوالدته:
وصل موكب الأمير إلى مدينته الجديدة الزمالة، وكان الأمير يسير في مقدمة الفرسان، وعندما وصل إلى مضارب عائلته ترجّل وسلّم جواده إلى السياس، ثم دخل خيمة والدته، وقبل أن يزيل عن جسمه غبار المعارك والطريق تقدم من والدته، وانحنى يقبّل يديها وجلس عند قدميها، وأخذ يحدثها عن آخر معركة وانتصاره فيها، وعمن استشهد من فرسانه، وعمن قتل من الأعداء وهي تستمع إليه بكل اهتمام، ثم سألته عن بقية المجاهدين وأحوالهم، قائلة: يا بني أشعر بوشائج قوية وخيوط تربطني بالمجاهدين من أنصارك أصحاب الوفاء، وهؤلاء المؤمنون أشعر بخيوط خفية تربطني بهم، خيوطاً قدسية خفية تجعل يدي في جوف الليل وابتهالاتي في التهجد وصلواتي ترتفع لهم بالدعاء.
أجابها وهو يقبّل يديها بحنان: هذه الجلسات يا أماه تحت قدميك هي من أفضل الأوقات المحببة إلى النفس، فهي تزودني بطاقات هائلة من القوة والاطمئنان، وأشكر رب العالمين الذي وهبنا أنا وإخوتي أمّاً مثلك مجاهدة، مثالاً للصبر والتقوى تستحق الإجلال والاحترام بين يديها الحنونتين.
د ـ زيارات ميدانية وتوجيهات قيادية:
بعد أيام من الراحة خرج الأمير عبد القادر بصحبة بعض فرسانه، من القادة العسكريين والعلماء والأطباء أيضاً للقيام بالزيارات الميدانية التي اعتاد القيام بها قبل انتقاله إلى مدينة الخيام، فزار المستشفيات في المناطق التي لازالت تحت سلطته، فوقف أمام أطباء إحدى المشافي وخاطبهم بقوله: عليكم نقل العلوم الطبية في معاهدكم إلى الطلاب المتفوقين في العلوم والاهتمام بعلم النبات وتركيب الأعشاب بشكل طبي، لجعلها مفيدة لوضع العقاقير من هذه الأعشاب، لقد دفعت الأموال الطائلة من موارد مزارع عائلتي لشراء كتب طبية لعلماء عرب ومؤلفات نادرة ككتاب «الأدوية المفردة» للطبيب العالم أحمد بن محمد الغافقي، ومؤلفات ابن سيناء، وابن البيطار، والصوري، وأبو القاسم الزهراوي. بعد انتهاء الأمير من هذه الجولات عاد إلى الزمالة فوجد رسالة تنتظره من خليفته على مناطق جرجرة أحمد بن سالم، فأجابه بالرسالة التالية:
الحمد لله وحده:
أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله وشكره في الشدائد، كن صبوراً، فالصبر مفتاح الفرج، كن شجاعاً واجمع قواتك بين وقت واخر، واتلُ عليهم الايات القرانية، آيات الجهاد، وشدّ من عضدهم، وصارحهم برأيك، واستمع إلى مطالبهم وارائهم، وخذ بأحسنها ولا تهملها، وتحمّل هفواتهم، ولكن لا تتهاون مع المتخاذلين منهم، فهذه الأحوال الصعبة لن تدوم، وإن شاء الله أكون معكم عندما تتاح لي فرصة.
وأرفق هذه الرسالة بقصيدة من نظمه، ضمَّنها كل ما يحمله قلبه من محبة لهؤلاء المجاهدين، أقتطف منها هذه الأبيات:
يا أيها الريح الجنوب تحمّلي منّي تحية مغَرمٍ وتجمَّلي
واقرِي السلام أُهيل ودِّي وانثري من طيب ما حُمِّلت ريح قَرنفُل
أدّي الأمانة يا جنوب وغايتي في جمع شملي يا نسيم الشمأل
وأهدي إلى من بالرياض حديثهم أزكى وأحلى من عبير قرنفُل
حاولت نفسي الصبر عنهم فقيل لي مه ذا محالُ ويك عنه تحوَّل
كيف التصبُّرُ عنهم وهم هم أرباب عهدي بالعقود الكمَّل
أيُحلُّ ريبُ الدهر ما عقدوا وكم حلّت عقودي بالمنى المتخيَّلِ
تفديهم نفسي وتفدي أرضهم أزكى المنازل يا لها من منزل
أفدي أناساً ليس يُدعى غيرهم حاشا العصابة والطراز الأوّل
يكفيهم شرفاً وفخراً باقياً حمل اللواء الهاشميّ الأطول
قد خصّهم واختصّهم واختارهم ربُّ الأنام لذا بغير تعمّل
إن غيرُهم بالمال شحّ وما سخا جادوا ببذل النفس دون تعلُّل
الباذلون نفوسهم ونفيسهم في حبّ مالكنا العظيم الأجلل
كم يضحك الرحمن من فعلاتهم يوم الكريهة نِعمَ فعلُ الكُمَّل
الصادقون الصابرون لدى الوغى العاملون لكل ما لم يُحمَل
إن غيرهم نال اللذائذ مسرفاً هم يبتغون قِراع كتب الجحفل
وألذّ شيء عندهم لحمُ العدا ودماؤهم كزلال عذب المنهل
النازلون بكل ضنك ضيّقٍ رغماً على الأعداء بغير تهوُّل
لا يعرف الشكوى صغير منهم أبداً ولا البلوى إذا ما يصطلي
كم نافسوا كم سارعوا كم سابقوا من سابق لفضائل وتفضّل
كم حاربوا كم ضاربوا كم غالبوا أقوى العداة بكثرة وتموُّل
كم صابروا كم كابروا كم غادروا أعتى أعاديهم كعصف مؤكل
كم جاهدوا كم طاردوا وتجلّدوا للنائبات بصارم وبمقول
كم قاتلوا كم طاولوا كم ماحلوا من جيش كفر باقتحام الجحفل
كم أدلجوا كم أزعجوا كم أسرجوا بتسارع للموت لا بتمهل
كم شرّدوا كم بدّدوا وتعوّدوا تشتيت كل كتيبة بالصّيقَل
يومُ الوغى يوم المسرّة عندهم عند الصياح له مشوا بتهلّل
فدماؤهم وسيوفهم مسفوحة ممسوحة بثياب كلّ مجندل
لا يحزنون لهالك بل عندهم موت الشهادة غبطة المتحوّل
ما الموت بالبيض الرقاق نقيصة والنقص عندهم بموت الهمّل
يا ربُّ يا رب البرايا زدهم صبراً ونصراً دائماً بتكمُّل
وافتح لهم مولاي فتحاً بيّنا واغفر وسامح يا إلهي عجِّل
يا رب يا مولاي أبقهم قذىً في عين من هو كافر بالمرسل
وتجاوزنْ مولاي عن هفواتهم والطُف بهم في كل أمر مُنزل
يا رب واشملهم بعفو دائم كن راضياً عنهم رضا المتفضل
ه ـ الهجوم على المدينة المتنقلة:
في عام (1843م) باتت البلاد مسرحاً للعمليات العسكرية والنشاط الحربي، كان الأمير يصول ويجول بقواته شرقاً وغرباً، والمجاهدون من حوله يحصدون رؤوس المحتلين ويلقون في نفوسهم الرعب واليأس.
ذات يوم جمع المارشال بيجو زملاءه من الضباط، وقال لهم: الحرب مستمرة، وعبد القادر يقاتل بعشرة الاف مئة ألف من جنودنا المدربين، إنه فارس شجاع ينزلق بين كتائبنا ويضرب ثم يختفي بلمح البصر، يدمر أجنحتنا القوية، ويفلت منا في الوقت الذي نظن أنه أضعف منا، يشتت صفوفنا، وليس هذا فقط بل إنه يضرب القبائل التي تتعاون معنا بأسلوب آخر عن حربه معنا، ولا توجد معركة خسرنا فيها أقل من (600) جندي وعشرات الضباط، ولكن هل تعلمون أين تكمن قوته الان؟ هي في المدينة المتنقلة وعلينا اكتشاف مكانها وتدميرها.
بعد مرور سنتين على عمر هذه المدينة الأعجوبة ؛ كان على الأمير إعداد قواته لمواجهة قوات لاموريسيير التي تمركزت في أحراش سرسو، وخرج من الزمالة على رأس ثلاثة الاف مقاتل، وترك (500) كان بينهم جرحى لم تشف كلومهم بعد، وكبار السن، وإخوة الأمير وأولاد أعمامه، وصل الأمير إلى مشارف أحراش سرسو فشاهد جنود العدو ينصبون الخيام، ويستعدون للراحة، فأمر فرقة من المجاهدين تكمن في تل قريب من الحرش، وأعد أخرى جعلها تحاصر العدو، وكعادة الأمير أمر الفرقة الأولى بالهجوم مناوشة من غير أن يعرف العدو مصدر النار، ثم ظهرت وأرخت العنان لجنود لامور سيير باللحاق بها في الغابة، وهناك كان الأمير قد وضع الكمائن، ونشبت معركة وانهال فرسان الأمير من كل جهة، ودبت الفوضى بين صفوف العدو، وشاهد لاموريسيير جنوده يتساقطون بين أشجار الغابة بعد أن قاتلوا حتى الرمق الأخير دفاعاً عن أنفسهم. فأمر بالانسحاب، يجر أذيال الخيبة.
وجلس الأمير على إحدى الصخور، يداعب سلاحه، وشاهده أحد المجاهدين فأقبل عليه يهنئه بالنصر، فلم يبتسم كعادته وقال: إن قلبي مقبوض لا أدري لماذا؟ وسار نحو الغدير فتوضأ وصلى بالمجاهدين، وما إن فرغ من الدعاء حتى أقبل فارس من المدينة المتنقلة، وأخبره أن بعض المتعاونين أرشدوا العدو إلى مكان مدينة الخيام، وبالتأكيد لولا هؤلاء المرشدين الخونة لاستحال على العدو معرفة مكانها، وقال الفارس:
عندما بدأت الشمس تغيب في كبد السماء بعد مغادرتك يا مولاي بساعات لاحظنا فرساناً بألبستهم البيضاء يظهرون من جديد، وكأنكم غيرتم الخطة وعدتم، وكانت الشمس تسدد سهامها النارية نحو الرمال فلم نكتشف الخديعة، وإن جنود العدو ارتدوا ملابس فرساننا بعد دخولهم مضاربنا، ففزع كل من في الحي لمقاومتهم ؛ حتى النساء، ودارت معارك دموية داخل مضاربنا، وكانت أصوات الرصاص تتعالى مع أصوات النساء، والعدو حرق ودمر كل شيء ونهب، والان السكان متفرقون بين الشعاب والتلال بعد حرق خيامهم، فسأل الأمير: هل من شهداء؟ أجاب: كثير، ولكن الأسرى كانوا أكثر وبينهم محمد بن علال، ومحمد الخروبي، وقدور بن رويلة على ما أذكر.
قفز الأمير فوق جواده وأمر فرسانه بالعودة، ووصل ذلك المكان وهو يسبح في غسق مريع، والسكان مبعثرون بين التلال كالنجوم المتناثرة في السماء، وتسابق المجاهدون فما من أحد منهم إلا وله أم أو زوجة أو أولاد أو قريب في هذه المدينة، وأخذوا يفتشون عن ذويهم بين التلال. وراح الأمير يسأل عن والدته وأهله وزوجته، فوجد أهله لم يبارحوا مضاربهم ووالدته داخل مسجد قد احترق نصفه تقرأ القران، وزوجته وعائلته يلملمون ما تبقى من متاعهم، وعندما شاهدت الجموع الأمير اجتمع الرجال حوله، وشخصت أبصارهم إليه حائرين، فما كان من الأمير إلا أن بادرهم بقوله:
نحن جميعاً في هذا المكان مجاهدون نساء ورجالاً وأطفالاً، ينبغي لنا ألا نجبن ولا نيأس، بل نكون أشد إصراراً على تحمل الأذى، والقدرة على التضحية لدفع هذا الأذى عن الوطن، وتلقين العدو ضربات أكثر قوة، وطرده خارج بلادنا، ثم انطلقت هذه الأبيات من فمه محتدمة كاللظى:
وما نبالي إذا أرواحنا سلمت بما فقدناه من مال ومن نشب
فالمال مكتسب والجاه مرتجع إذا النفوس سلمت من العطب
قال هذه الأبيات ويده ممسكة بلجام جواده تكاد تتجمد من البرد، ثم أمر بتحرك لواء من الفرسان لمطاردة فلول المهاجمين، ولابد من الرد السريع، وانطلق هو على رأس قوة من الجيش نحو أسهل طريق للزمالة، وأدرك أن العدو لابد سالكه في طريق عودته.
و ـ الرد السريع على من هاجم المدينة المتنقلة:
رفع الأمير يده مشيراً إلى الجيش بالتحرك لإنقاذ الأسرى، وإعادة ما نهب، بعد أن أمر فرقة من الجيش بالانطلاق نحو التلال، وقسم آخر من المشاة نحو الأحراش باتجاه منطقة طاكين، وسارت كل من هذه الفرق في دروب مختلفة علّ أحدها تصادف الدوق دومال ابن ملك فرنسا وتنقذ الأسرى، وما أن وصل الأمير إلى التلال حتى شاهد جيش الدوق يسير وهو مثقل بالغنائم، فأمر فرسانه بالهجوم، وإذا بذلك الليل البهيم يتحول إلى حزم من نيران البنادق، وكان صهيل الخيول يتعالى ممزوجاً بتكبيرات المجاهدين «الله أكبر» وصيحاتهم، جعلت أوصال قوات العدو ترتعد خوفاً وتهتز رهبة، وعلا غبار المعركة واشتد أزيز الرصاص وأصوات قنابل المدافع، والمجاهدون يقفزون من مكان إلى اخر، يفتشون عن الأسرى الأبطال، إلى أن وجدوهم مكبلين في العربات، ففكوا وثاقهم، وجمعوهم بالأمير ؛ الذي أصبح برنسه كالغربال من كثرة ما وقع فيه من رصاص، وأكثر من ذلك، ففي نهاية المعركة قُتل حصانه فقفز منه على الأرض، وإذا بضابط فرنسي يصيح: وقع، وعلى الفور التف حوله خمسة من جنود العدو بقيادة هذا الضابط، الذي ما لبث أن قتل برصاص زملائه، وعندما شاهده الجنود الأربعة ملقى على الأرض أسرعوا باللحاق بالمجاهدين، وعندما حقق معهم ووجهت إليهم الأسئلة عن تصرفهم هذا، أجابوا: إنه الإعجاب الشديد بشجاعة هذا الفارس، كنا مأخوذين ومبهورين بشخصية هذا البطل الأسطورة، ولم ندر بأنفسنا إلا ونحن نقف بجانبه.
حال الظلام بين الأمير وبين باقي قواته، فظن بعضهم أنه قتل بعدما رأوا جواده المقتول والمهماز ملقى على الأرض، وشاع الخبر كالصاعقة، واهتزت له الروابي والجبال، ووصل بسرعة البرق إلى الزمالة التي لم تكن قد لملمت جراحها من حملة الأمس، وهلعت النفوس وغشي الأفئدة حزن عميق. وفي هذه اللحظات المفجعة برز إلى الساحة من بين الخيام فارس ملثم، طفر إلى جواده واندفع يسابق الريح عبر الشواطئ والخلجان، إلى أن التقى المقاتلين العائدين من جحيم المعركة، وأماط اللثام عن وجهه، وإذا به لالا خديجة شقيقة الأمير، وصاحت بأعلى صوتها «الله أكبر» أيها المجاهدون «الله أكبر» يا جنود الحق، الله حي لا يموت، وأخذت تجول بجوادها وهي ممسكة بعنانه تزرع الحماسة والثقة بين المقاتلين، وعادوا جميعاً إلى الزمالة، ولكن البشائر قد سبقتهم بنجاة الأمير وخليفته محمد بن علال وبقية الأسرى.
بعد هذه المعركة الدفاعية المشرفة عقد الأمير المجلس الاستشاري في المضرب المخصص للديوان واستعرض مع مستشاريه والقادة الأحداث التي مروا بها، ثم قرروا بالإجماع نقل هذه المدينة والارتحال بها إلى مناطق الحساسنة في الجهة الغربية من البلاد، لم يكن نقلها بالأمر السهل، ولقد بلغ عدد سكانها ثلاثمئة ألف إنسان يذهب القسم الأكبر منهم للقتال، والباقي يعيشون كخلية نحل، الكل يعمل بنظام عجيب، المرأة مثلاً تخرج صباحاً بعد صلاة الفجر إلى الغدرات تحمل الماء، ثم تعود لتقوم بتنظيف الأولاد وإعدادهم وإرسالهم إلى المدارس، ثم تذهب إلى الأسواق لشراء حاجيات عائلتها، تحضر الطعام لأسرتها وتنتظر عودة زوجها إن كان عاملاً أو موظفاً، كانت حياتهم قاسية في الشتاء والصيف، ولكن الإيمان بوحدة المصير جعلت سكان هذه المدينة من أكثر الشعب الجزائري سعادة.
وفي كل مرة كان يعود بها المجاهدون وفي مقدمتهم أمير البلاد رافعين رايات النصر، يخرج السكان رجالاً ونساء يزغردون ويكبرون، فتختلط أصواتهم بألحان موسيقى القدوم .
وفي كل مرة كان الأمير يقف على الرغم من متاعب القتال والطريق لا يترجل قبل أن يكلم الجماهير التي تلتف حوله، يذكرهم بالقيمة العظيمة للعيش في هذه الخيام، مرة يقول لهم: إن مدينتكم هذه خلعت على الروابي والهضاب حلة من البهاء، فأينما وجدت عطرت الفضاء بنسائم الحرية، وأينما حلت تفتحت الأزهار، وإن هذه الحماسة التي تستقبلونها بها تتحول في كل مرة إلى نسائم من الحب والتقوى والشكر لله العلي القدير والأمل بالانتصار والعيش بكرامة بعد تطهير الوطن من الغزاة وتقويض صروح كبريائه.
كان كلام الأمير يستهوي قلوب سكان هذه المدينة، ويشعل مشاعر الحمية في أعماقهم. كان كلامه في كل مرة أناشيد وطنية وإيمانية تدخل القلوب فتؤنسها لأنها تخرج من قلب مؤمن.
ز ـ إعادة بناء المدينة المتنقلة:
أعيد بناء هذه المدينة في جنوب مناطق الحساسنة بسرعة قياسية، وعلقت اللافتات على مداخل المضارب كالعادة ترشد السكان إلى الحارات، وعليها نقشت الأسهم والأرقام لئلا يضيع أحد عن خيمته، فكان التنظيم والتقسيمات مذهلة في تكوين هذه المدينة، وأخذ الناس يتهامسون يقول أحدهم للاخر: لو كنا نعيش في إحدى المدن وحدث مثل هذا الهجوم علينا، ألا نكون الان نحن وأطفالنا تحت أحجار مساكننا نموت ببطء ولا يدري بنا أحد؟ وقال اخر: زوجتي حامل ولا أرى بأساً من إنجابها فوق الهودج بحال اضطررنا للرحيل فور وصول أخبار تحذرنا من الأعداء. في المرة الماضية لو رأينا الخديعة التي تعرضنا لها لرحلنا قبل وصول العدو ونجت مدينتنا المدهشة.
كان الطلاب من القرى المجاورة يشاهَدون وهم يحملون أدوات الدراسة على أكتافهم يسارعون للالتحاق بمعاهد هذه المدينة المتنقلة ؛ لأن معاهدها كانت تدرس العلوم بجميع موادها.واصل الأمير حملاته العسكرية منطلقاً من هذه المدينة وذات يوم سمع أن القوات الفرنسية أخذت تقصف
مدينة أغادير، وهددوا السلطان باحتلال مدنه. وعلى إثر ذلك عقدت اتفاقية في مدينة طنجة، قبل بها ووقع على محاربة المجاهدين بقيادة الأمير عبد القادر، والقضاء على مقاومته لفرنسا، واعتقاله وتقديمه للسلطات الفرنسية، واعتبار المقاومة تمرداً. بعد توقيع السلطان على هذا الاتفاق أخذ يرسل رسائل إلى زعماء القبائل التي تقف مع المقاومة وتساعد الأمير وتقدم له العون.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022