من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج1)
(إجبار سلطان المغرب على شن الحرب على الأمير عبد القادر)
الحلقة: الثالثة والخمسون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الآخر 1442 ه/ نوفمبر 2020
لقد احتضن الشعب المغربي الأمير عبد القادر، وخاصة قبيلة بني زناسن وأهل وجدة والريف وغيرهم، وقد استشهد الكثير منهم مع الأمير في جهاده ضد الغزاة الفرنسيين، واختلط دم المغاربة مع الجزائريين، وكتبوا ملحمة جديدة في تاريخ شعوب المغرب الحرة. واستخدمت فرنسا كل قواها من القصف واستخدام الجيوش لمنع المغاربة من دعم الأمير عبد القادر، وتحالف السلطان مع فرنسا ضد الأمير، وبدأت المشاكل بين الأمير والسلطان عبد الرحمن الذي أرسل للأمير يأمره بمغادرة التراب المغربي، ويذكر له: أنه لا سبيل إلى خلاصك إلا بأحد أمرين: إما أن تسلم نفسك إلينا، وإما أن تخرج من الحدود، فإن أبيت أن تجري إحداهما طوعاً فنحن نجريه كرهاً.. ثم أوعز إلى القبائل القريبة من الدائرة بالتضييق على قواته، وأطرق الأمير ملياً مفكراً، وكتب إلى السلطان ما ملخصه: أما بعد ؛ فإني كاتبتكم أولاً والتمست منكم كف ضرر قبائلكم المجاورة لنا وتعديها على من تبعني وسوء معاملتهم لهم، لأنهم كلهم أولاد دين واحد، فلم يأتني جواب على ذلك. ومع ذلك فأنا صابر ومتحمل كراهة سفك دماء المسلمين مدة ستة أشهر، طمعاً في رجوعكم عن البغي والطغيان إلى العدل والإحسان، مع قدرتي عليهم في كل ان، فإن لم تردعهم الان عن أفعالهم وترجعهم عن قبيح تصرفاتهم، ألتزم المحاماة عن حقوقي، والمحافظة على شرف أتباعي، ولذا بادرت بإخباركم والسلام.
وكتب الأمير إلى علماء مصر يستفتيهم في الخلاف بينه وبين السلطان، وأرسل لهم رسالة طويلة جاء فيها: ..ثم أمرني بترك الجهاد فأبيت، لأنه ليس له عليَّ ولاية ولا أنا من رعيته، ثم قطع عن المجاهدين الكيل حتى هام جوعاً من يجد صبراً، وأسقط من المجاهدين ركناً، ثم أخذ يسعى في قبضتي فحفظني الله منه، ولو ظفر بي لقتلني أو لفعل بي ما اشترطه عليه الفرنسيون، ثم أمر بعض القبائل من رعيته أن يقتلونا ويأخذوا أموالنا، فأبوا جزاهم الله خيراً.
فأجاب العلامة الحجة الشيخ محمد عليش، مفتي المالكية بالديار المصرية، جاء فيها: نعم يحرم على السلطان المذكور ـ أصلح الله أحواله ـ جميع ذلك الذي ذكرتم، حرمته معلومة من الدين بالضرورة، لا يشك فيها من في قلبه ذرة من الإيمان، وما كان يخطر ببالنا أن يصدر من مولانا السلطان عبد الرحمن وفقه الله تعالى مثل هذه الأمور مع مثلكم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، خصوصاً وأنتم جسر بينه وبين عدوه.
واشتد الخلاف بين الأمير والسلطان عبد الرحمن الذي أرسل له جيشاً كثيفاً بقيادة قائده الأحمر، وكان الأمير مخيماً بين أرض توزين ومطالسة من قبائل الريف، فاستعد للدفاع عن نفسه، ولما اقترب الأحمر وخيم على بعد مرحلة، أرسل الأمير له رسالة، قال له فيها: إنني لا أريد إلا المسالمة وإقامة المهاجرين تحت أنظار السلطان، ولا أتمنى الصدام معكم، وأنا أحذرك من قتال المسلمين للمهاجرين.
وعندما علم الأمير بأن الأحمر توجه لحربه ؛ قاد فرسانه الأشداء، واعترضه في تافرسيت، فاستولى بسهولة على معسكره، وثار بعض الجنود المغاربة سخطاً على حرب المهاجرين، فقتلوا قائدهم الأحمر، ثم توجهوا بحريمه وأولاده إلى الأمير، فأرسلهم بحرس إلى السلطان في فاس. وسخط الشعب المغربي على سلطانه لشنه الحرب على مسلمين مجاهدين إرضاء لنصارى معتدين.
وجهز السلطان عبد الرحمن جيشاً من خمسين ألف جندي، وأسند قيادته لابنه وولي عهده محمد، وابنه الثاني أحمد، فسارا لمحاربة الأمير، ونزل الجيش السلطاني على ثلاث مراحل من الدائرة في مكان اسمه سلوان.
وقرر الأمير يوم (10/12/1847م) بدء الهجوم، وأشار على مساعديه أن يستعملوا حيلة يباغتون بها عدوهم، وينشروا في صفوفه الذعر قبل المعركة. فأمر بإحضار جملين وشد على كل منهما حزمتين من الحلفاء بعد أن طلاهما بالقطران والقار والزفت، وأمر بأن يكون إيقاد النار في الحزمتين مقترناً بالهجوم على العدو.
وفي ليلة الرابع عشر من الشهر المذكور سار الأمير بجيشه نحو سلوان، ولما قرب منه رتب جيشه للهجوم دون أن يشعر الخصم، وأمر بتقدم الجملين أمام الجيش، ثم أضرمت النار في الحزمتين فنفر الجملان وهاجما خيام الجيش السلطاني، وحمل جنود الأمير حملة رجل واحد، وصحا جنود الجيش السلطاني على مشاعل تنتشر راكضة بين خيامهم فانتشر الفزع بينهم، وعندها انطلق رصاص جيش الأمير. فهرب الأعداء تاركين خيامهم وأسلحتهم، وتقدم المهاجمون حتى وصلوا إلى سرادق ابني السلطان فوجدوا حراسه قد أحاطوا وراحوا يدافعون عن الأميرين، واستمرت المعركة طوال اليوم، وتمكن فيها الأمير من هزم خصمه الظالم.
كان سلطان المغرب قد قرر التعاون مع فرنسا، وبذل الجهد معها للقضاء على الأمير عبد القادر، وراسل زعماء القبائل التي كانت مع الأمير، ومن هذه الرسائل التي أرسلها إلى زعيم قبيلة أنكاد وقعت في يد الأمير، جاء فيها: بلغنا أن الأمير عبد القادر مازال مستمراً في إثارة الفتن، وجلب الشر للمسلمين، ونقض الصلح، الصلح الشرعي الذي عقده مع الفرنسيين، وما يقوم به الان هو عمل غير شرعي، ولا يقبله الدين، ومن يتبع هذا الرجل فقد باع دينه وباء بالضلال، وحاد عن شرع الله وقد أعذر من أنذر. في الثالث من (رمضان سنة 1263هـ) من الوالي عبد الرحمن وختمها بتوقيعه.
استطاعت فرنسا أن تضغط على سلطان المغرب، وتجنده لصالح مشروعها في الجزائر، واستفادت من نفوذه للتأثير على القبائل الموالية لعبد القادر، وفي نفس الوقت كان المارشال بيجو يطمع إلى المزيد من تأييد القبائل له، واعتمد في سياسته مع السكان طريقة الترهيب والترغيب، يحرق المزارع وحقول القمح والشعير، ويحمل معه الهدايا إلى جانب الأسلحة المدمرة. وتعرّض المارشال بيجو لهزائم متلاحقة، وبسبب ذلك أعفي المارشال بيجو من منصبه، وعين بدلاً منه ابن الملك الدوق دومال حاكماً عاماً، حيث وصل الجزائر يوم (4/5/1847م)، وثبت الجنرال لاموريسيير على وهران، وعين الجنرال بيدو حاكماً على قسنطينة، والجنرال كفينياك حاكماً على الجزائر.
وبدا واضحاً في عام (1847م) أن الطوق الفولاذي بدأ يضيق حول المقاومة، وأصبحت هجمات العدو أشدّ ضراوة وقوة، بعد أن تمّ له تفتيت جبهة الأمير الداخلية، وضمن طاعة أكثر القبائل له، ودُمّرت الزمالة ولم يبق من أقسامها سوى الدائرة، وأُحرقت المحاصيل الزراعية لتجويع المجاهدين.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com